[email protected] لا بد لنا قبل البدء أن نذكر نبذة عن الدستور القديم، حين كان المواطن المغربي يفتقد إلى عدة حقوق وحريات، أبرزها حرية التعبير، وحرية المعتقد، وفرض التعريب بالقوة وقمع الأمازيغية… حين أعطت الدولة الحق لنفسها لقمع الريفيين لعقود بعد فرضها حضر التجول بمدينة الناظور بعد غروب الشمس وكل من ألقي عليه القبض آنذاك كان يقضي الليلة في مخفر الشرطة، والويل الويل لمن ألقي عليه القبض مساء الجمعة، فسيقضي ليالي الجمعة والسبت والأحد في المخفر في انتظار الإفراج عنه صباح الإثنين، بينما في مدن الداخل كان الناس يتجولون حتى شروق الشمس آمنين مطمئنين دون حسيب ولا رقيب. لا بد أن نتذكر القمع الذي تعرض له الريفيون والسباب المجاني في حق الرجال الأحرار والنساء الشريفات، وقتل ودفن الأبرياء أحياء… فقط لأنهم اختاروا العيش بكرامة بدلا من الذل والهوان الذي فرضه البصري وأعوانه وحاكمهم من فوقهم. ظننا لبرهة خطأ أن ما يقال في مجال السياسة فتح صفحة بيضاء (حاكم جديد/صفحة جديدة) صحيح، وصدقنا الشعارات المخزنية الجوفاء، لكن اكتشفنا أن دار لقمان لم ولن تتغير، وأن سياسة الإنصاف والمصالحة ما هي إلا نفاق مخزني سرعان ما ظهرت حقيقته. فبعد أن انطلقت أحداث الربيع وتم ترويع الحكومات والحكام مما قد تجلبه الثورات، ظننا أن المغرب سيتغير عبر الضغط الشعبي، فخرج الناس رجالا ونساء شيوخا وأطفالا ينادون بمحاربة الفساد والاستبداد… وفي لحظة ظننا الملك سيستجيب، فجاء الخطاب الملكي ووضع النقاط تحت الحروف، وجاءت فيه عدة أمور كان يخشاها طالبو التغيير من المغاربة، أهمها اختيار دستور على المقاس ومنحه للمغاربة، أو بالأحرى فرضه على الرعايا، بينما الشعب يريد كتابة دستوره بنفسه، لا الرضا بدستور ممنوح لا يزال يعتبر المغاربة مجرد رعايا (أكباش) يسوقهم المخزن كما يشاء ويجردهم من المواطنة ومن الحق في المساهمة في بناء بلدهم… دستور ممنوح… جنسية ممنوحة… كأنهم يجودون علينا بالحسنات. وهنا لا بد أن أشير إلى جرأة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمة الله عليه، الجرأة التي يفتقدها الحكام هذه الأيام، حينما أفاد أن الدستور يجب أن يكون اختيارا شعبيا بدل أن يفرض على الشعب من الحاكم، وقد أشرك معه ممثلي القبائل لصياغة دستور الجمهورية الريفية، في إشارة إلى أن الشعب هو من يجب أن يختار مصيره. لكن حكام الدول المتخلفة مما يسمى بالدول العربية أو الإسلامية اليوم لا تعترف بشعوبها، لأنه بإعطاء الحق لأبناء الوطن في اختيار دستورهم، أول شيء سيختاره هذا المواطن محاسبة من استنزفوا خيرات البلاد والإطاحة بعروش المستبدين، وهو ما يخافه من يمسكون بدواليب الحكم بالبلاد وأخص بالذكر من يحكمون البلد من وراء الستار من العائلة الفاسية التي تهدد حتى عرش المملكة إن حاول الجالس عليه إنصاف الشعب. ولا بد ألا ننسى ما قاله رئيس لجنة الدستور المنوني سنة 1996 حينما صرح أن الدستور المغربي كامل ولا يحتاج لأي تغيير، في تأييد واضح لرغبة الحسن الثاني آنذاك ترك الأمور كما هي والاستمرار في الاستبداد. فكيف ننتظر من شخص لا يعرف للنزاهة معنى ويكذب على أكثر من 30 مليون مغربي بالقول إن الدستور المغربي مثالي، كيف ننتظر منه أن يقدم للشعب دستورا يخدم مصالحه؟ وما هو التغيير الذي نتوخاه من هذا الشخص الذي يقول إن الدستور لا يحتاج لتغيير؟ وكان بالأحرى أن يتم تعيين شخص آخر يؤمن أن الدستور المغربي بعيد كل البعد عن الشعب المغربي، لكي يكون نزيها في تسطير بنوده وإشراك الشعب حقا في صياغته. ولا بد لنا أن نتذكر خطاب عاهل البلاد الذي سمي بخطاب التيئيس والتضليل، حين اتهم أعضاء حركة 20 فبراير بتيئيس وتضليل الشعب المغربي، بينما من يقوم بالتيئيس والتضليل هم الحكومة ومن يدور في فلكها، حين يقومون بتييئس المواطن وسلب أي أمل عنده في وظيفة مناسبة وعيش كريم، وتضليله أيضاً عبر القول إن المغرب قد تغير بينما الحال بقي على ما هو عليه… هذه الحكومة التي تقوم بتسطير برامج تناقض تماما مطالب الشعب ولا تصب أبدا في مصلحته بل في مصلحة أعضائها والمستفيدين من خيرات البلد عبر منحهم الفرصة لاستنزاف المزيد من هذه الخيرات وتجويع الشعب إلى أقصى حد. فمن يا ملكي العزيز يقوم بتيئيس الشعب إذن؟ ولا بد من الإشارة أيضا إلى نقطة مهمة، وهي حين أشرتم إلى أنكم ستصوتون بنعم للدستور. يا صاحب الجلالة، أنتم أبانا الروحي والإسلام يفرض علينا احترامكم والإنصات لكم، وبالتالي نجد أن هذا الواجب الأخير هو الوتر الذي لعبتم عليه لإنجاح الدستور الجديد، عبر الضغط على عواطف الشعب المغربي -الذي يقدسكم ويستعد للموت من أجلكم- ومطالبته بالتصويت بنعم من خلال الإشارة إلى أنكم ستفعلون المثل وهو ما سيفهمه الأمي أنه لمصلحة البلد ما دمتم ملكي اخترتم “نعم”، محاولين التأثير على الأميين، ونحن نعرف أن نسبة الأميين بالبلد جد كبيرة، سواء كانت أمية من لا يعرفون الفرق بين الألف والباء أو أمية من تسيرهم العاطفة، عاطفة حب الملك والامتثال الأعمى لكل ما يقوله ويريده، وبالتالي التصريح بالتصويت بنعم يلعب على عواطف تلك الشريحتين ويضرب في مصداقية العملية الانتخابية، وفي اعتبار أن الاختيار الأخير والنتيجة التي أسفرت عنها الصناديق هو اختيار المواطن. هذا دون أن نتغافل عن ذكر ما قامت به الإدارات من نقل موظفيها على متن حافلات إلى مكاتب التصويت لدعم الدستور عبر اختيار “نعم”. وإن جئنا إلى الدستور الجديد نجد أن فصله 22 ينص على أنه “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة. ولا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية. وممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد جريمة يعاقب عليها القانون.” لكن هل طبقت الحكومة ما يقوله الدستور؟ فأحداث تازة وأحداث معطلي الناظور وكذا أحداث آيث بوعياش الجارية… تثبت أنه حتى الدستور الذي اختير على المقاس لا يطبق، ومن اختاروه لا يحترمون فصوله. علي أن أعترف أن المنجمين كذبوا ولو صدقوا كما جاء في إحدى الأقوال المأثورة، لكن علي الاعتراف أيضا بقوة الفلكي أو المنجم المغربي عبد العزيز الخطابي الذي يطلق عليه اسم “نوستراداموس العرب” والذي تنبأ بثورات الربيع وحدثت. فمباشرة بعد فوز المنتخب المغربي على نظيره الجزائري بتلك النتيجة العريضة، وما أثبته المنتخب من قوة تؤهله حسب خبراء كرويين لأدوار متقدمة إن لم تكن تؤهله لنيل الكأس، تنبأ الخطابي بخسارة المنتخب في النهائيات وخروجه في الدور الأول. ولعل تنبؤا كهذا يعد مغامرة كبرى كانت ستضرب في مصداقية تنبؤاته لو حدث أن المنتخب المغربي استمر على نفس المنوال وتأهل إلى الأدوار الموالية، لكن ولأن الخطابي كان واثقا من تنبؤه فهو لم يتزعزع من قوة المنتخب واستمر في القول إنه لن يحقق أية نتيجة رغم تلك القوة التي ظهر بها، وهو ما كان. ولعل من بين ما تنبأ به الخطابي لسنة 2012 أيضاً قيام الثورات بالمغرب، ما يضرب في الأقوال المأثورة: “المغرب يشكل الاستثناء” و”المغاربة لن يثوروا”…، و تنبأ أيضاً بوفاة عدد كبير من رجال السياسة والعسكر المغاربة… ولأنه مغربي فقد اختار ألا يدخل في تفاصيل هذا الحدث، لكن علي الاعتراف أن هذا التنبؤ دغدغ مشاعري وأفرحني جداً، لأنه إن صدق -كما صدقت جميع تنبؤاته السابقة- فهذا يعني أن نهاية المستبدين الذين فقرونا وعيشونا على فضلاتهم قد اقتربت، نهاية يستحقونها وهي الموت وأخذ قطعة ثوب بدلا من الملايير التي نهبوها، ووقت حسابهم قد حان ليدفعوا مقابل دعوات المظلومين والذين انتزعت منهم أملاكهم قسراً… ووجبت الإشارة إلى أن شعلة الثورة التي تنبأ بها قد اشتعلت. ولأننا نؤمن جيداً بالقول المأثور للشرطة المغربية “واش كاين الدم” في إشارة إلى أنها لن تتدخل إلا إن سالت الدماء، فإنه يبدو أن الحكومة المغربية تبنت نفس المثل ولا تريد التدخل والامتثال للمطالب الشعبية المشروعة من عيش كريم ومحاربة للفساد وتكافؤ للفرص… إلا إن قامت بها الثورات وسالت فيها الدماء من خلال مواجهة الناس لآلة القمع المخزني. وهو ما يحدث بأيث بوعياش إن حللنا ما تنبأ به الخطابي. ولعلنا نتفق جميعا أن الريف دوما هو حفرة التجارب وبؤرة التوتر، وهو ما يجعل المخزن دوماً يرفض فكرة جمع أقاليمه في جهة واحدة خوفاً من اتحاد أبنائه ضده، خصوصاً وأن الريفيين عانوا دوماً ومنذ الاستقلال بل وحتى قبل الاستعمار من اضطهاد المخزن المغربي لهم، أولا باتحاد السلطان مع القوى الاستعمارية الإسبانية والفرنسية والألمانية ومباركة المخزن لهم لاستعمال الغازات السامة لإخضاع المجاهدين الريفيين وإيقافهم ليستسلموا للاستعمار الإسباني، ثم ما حدث بعد الاستقلال من اقتحامات عسكرية للريف إبان سنوات 58-59 و84 وعسكرة مدنه وفرض حضر التجول في شوارعها… وبالتالي قد تكون انطلاقة الشعلة من هذه المنطقة التي أنجبت الرجال والمجاهدين والرافضين كل الرفض الخضوع لأحد والسجود إلا للخالق البارئ. ولعل أحداث آيث بوعياش ستكون هي الانطلاقة. فهل سيتدخل الملك ويمتع شعبه في جهة الريف المجاهدة بحقوقه قبل أن تقوم الثورات وتهدد حياة الجميع ولن تذر لا شعبيا ولا مسؤولا كما ذكر عبد العزيز الخطابي؟ أم أن الأخير سيصدق مجدداً كما قال في أحد تنبؤاته أن الملك سيتدخل بعد أن تثبت الحكومة الحالية أنها فشلت، وسيكون تدخله لامتصاص الغضب الشعبي آنذاك ويقوم بفك الحكومة الحالية وسيشكل حكومة جديدة، لكن قد يكون الأوان آنذاك وعصر التغيير والتدخل قد فاتوا و “جاءت الفأس في الرأس” كما يقول المصريون وانطلقت الثورة ولا أحد سيستطيع إخماد نيرانها… وتبقى هذه مجرد نافذة من النوافذ المطلة على واقعنا المر…
للتسجيل في قائمة متتبعي مقالات رأي ابراهيم البطيوي وقراءة المقالات السابقة واللاحقة يرجى الضغط على الزر التالي