تعيش هولندا خلال هذه السنة على إيقاع الذكرى ال 50 للهجرة المغربية. فهنا وهناك يتم تنظيم احتفالات ومعارض وندوات تخليدا لاتفاقية جلب اليد العاملة الموقعة بين المملكتين المغربية والهولندية بتاريخ 14 ماي 1969. لقد كانت هولندا، مثلها مثل باقي بلدان غرب أوروبا وقتها، منهمكة في مسلسل إعادة الإعمار وكانت في أمس الحاجة إلى يد عاملة أجنبية جديدة لبناء ما خربته الحرب العالمية الثانية. وقد مكنت هذه الاتفاقية من تمتين أواصر الصداقة والتعاون الممتدة لما يزيد عن أربعة قرون بين المغرب وهولندا، كما فتحت المجال أمام آلاف الشباب أقوياء السواعد للاستفادة من عقود عمل في المناجم والموانئ والمصانع الهولندية. في الحقيقة، إن الهجرة المغربية إلى أرض الطواحين الهوائية لم تبدأ مع توقيع اتفاقية 1969، بل انطلقت قبل ذلك بعقد من الزمن أوائل ستينيات القرن الماضي، وخاصة من منطقة الريف. لماذا من الريف بالضبط؟ كما هو معلوم، كان الريف مسرحا للهجرة إلى الجارة الجزائر منذ أوائل القرن العشرين وإلى حدود استقلالها عام 1962. فبعد خروج الفرنسيين من الجزائر توقفت هذه الهجرة التي كانت مصدر عيش آلاف العائلات. الأمر الذي اضطر الريفيين إلى البحث عن بديل وجدوه في تحويل الوجهة من الشرق إلى الشمال الذي تصادف بحثه في تلك الفترة عن أياد عاملة جديدة لبناء أوروبا ما بعد الحرب. وللسفر إلى أوروبا في تلك الفترة لم يكن المرء بحاجة إلى تأشيرة كما هو الأمر عليه الآن، بل إلى جواز سفر فقط. ولكن الحصول على هذا الجواز لم يكن بالأمر الهين، مما كان يضطر المُقْدم على الهجرة إلى مغادرة البلاد غالبا بجواز سفر شخص آخر. وهناك من كان يذهب للحج للحصول على جواز يستعمله بعد رجوعه من الديار المقدسة من أجل الهجرة إلى أوروبا. أسطورة إفراع الريف أستسمح القارئ هنا لأفتح قوسا بخصوص فكرة كثيرا ما يتم الترويج لها هنا وهناك تتعلق بالزعم القائل بأن الدولة المغربية قامت بتشجيع الهجرة من الريف إثر أحداث 1958-1959 وذلك بهدف إفراغه من ساكنته وللتخلص من شبابه لما قد يشكله من خطر على النظام. وهو زعم لم تُثْبت صحته أية دارسة جادة أو ملاحظة ميدانية. ولعل أكبر دليل على هشاشته هو مُعطى صعوبة الحصول على جواز سفر في تلك الفترة. فلو أن الدولة كانت تفكر فعلا بهذا المنطق لسهلت عملية الحصول على الجواز. وهنا أشير إلى أنه بعد استقلال الجزائر، كان الريفيون يدخلونها بطريقة غير شرعية قصد الحصول على جواز من القنصلية المغربية بالعاصمة؛ فقد كان يكفي الإدلاء بشهادة السكنى لتقديم ملف الحصول على الجواز. دليل آخر يَدْحَض هذا الزعم يتمثل في المدن التي تم اختيارها لإقامة بعثة مكتب الشغل الهولندي بالمغرب تفعيلا لاتفاقية 1969. فقد تم فتح مراكز استقبال وانتقاء الراغبين في الهجرة إلى هولندا في كل من الدارالبيضاء ووجدة وأكادير. وليس في الناضور أو الحسيمة مثلا. الأوضاع المعيشية كان معظم مهاجري الجيل الأول إلى هولندا يشتغلون في المناجم ووقطاع الصناعات الثقيلة والتنظيف. كان الأمر يتعلق في الغالب بأشغال شاقة أو أقل (اعتبارا). وقد كانوا يحظون بسمعة طيبة لدى أرباب العمل لِما كانوا يتميزون به من إخلاص وانضباط وتَفان في العمل. ومعظمهم، إن لم نقل كلهم، كانوا يزاولون أكثر من عمل في اليوم الواحد. هذا الإفراط في العمل كان له تفسير واحد: مهاجرو الجيل الأول ذهبوا إلى أوروبا من أجل إعالة أسرهم وتحسين وضعيتهم الاقتصادية وتوفير مبلغ من المال لبدء مشروع في بلدهم الأصلي. لم يكن يدور بذهن أي أحد منهم الاستقرار الدائم في أوروبا البَتة. هذه الفكرة–فكرة الرجوع إلى المغرب بعد فترة معينة-كانت وراء عَدَم اهتمام المهاجرين الأوائل بتعلم اللغة المحلية وعدم اهتمام حكومات الدول المستقبِلة، ومن بينها هولندا، بوضع برامج خاصة بإدماج هذه الشريحة الاجتماعية الجديدة داخل المجتمع. وإذْ نتذكر رواد الهجرة هؤلاء (جيل البُناة) خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فإنه لا يَسَعُنا إلا أن نقف لهم وقفةَ إجلال وتقدير وامتنان. لقد كانوا جيل بناء بدون مُنازِع. فقد بنوا وساهموا في بناء اقتصاد أوروبا، كما بنوا وساهموا في بناء اقتصاد المناطق التي خرجوا منها، بل وفي اقتصاد المغرب ككل. ولكن ذلك لم يكن بدون عرق وصبر وتضحيات. فقد عاش أفراد هذا الجيل خلال السنوات الأولى من الهجرة ظروفا صعبة وقاسية. كان عليهم التأَقلم مع مناخ قارس لم يألَفوه في بلدهم. وكان عليهم التعود على أكل لم يذوقوه من قبل. كما كان عليهم التواصل مع محيطهم بلغة ليست لغتهم، إضافة إلى الأعمال الشاقة التي زاولوها. وكلها أمور تبين حجم التضحيات التي قدمها هؤلاء الرواد من أجل توفير مستقبل زاهر، ليس لأسرهم الصغيرة فقط، بل وللمناطق التي خرجوا منها ولوطنهم ككل. المثير في الأمر أن المهاجرين المغاربة الأوائل تحملوا تلك الظروف القاسية في صمت. فهم في الرسائل التي كانوا يرسلونها إلى أسرهم في المغرب لم يكونوا يُطلعونهم على معاناتهم. أتذكر عندما كنت صغيرا (ولا شك أن الكثيرين من القراء مروا بالتجربة نفسها) كان يأتيني بين الفينة والأخرى أب أو زوجة لأقرأ له أو لها رسالة من الإبن أو الزوج المهاجر يَذكُر فيها (… إنني بخير وعلى خير ولا يخصني إلا النظر في وجهكم العزيز). تمدين الريف لقد ساهم المهاجرون الأوائل، بوعي أو بدون وعي، في “تمدين” الريف وإدخال كثير من المُنْتَجات العصرية إليه. فكان المهاجرون عندما يأتون خلال العطلة يستصحبون معهم آخر تقليعات اللباس. فمن منا لا يذكر تلك السراويل عريضةَ الأرجل التي كانت منتشرة في الريف خلال السبعينات. كما كان لهم الفضل في إدخال الراديو والتلفزيون في وقت مبكر إلى المنطقة. بجانب إعالة أسرهم، ساهم المهاجرون في تنمية الريف من خلال خلق مشاريع صغيرة في المناطق التي ينحدرون منها (وأحيانا خارجها) ساعدت في تنمية الاقتصاد المحلي (مقاه، دور سكنية، ضيعات فلاحية، محلات تجارية…)، دون أن ننسى طبعا تحويلاتهم التي تعتبر أول مصدر لاحتياطي العملة الصعبة للمملكة. 50 سنة من النجاحات بقية القصة نعرفها جميعا. فالهجرة التي كان من المفروض أن تكون مؤقتة أصبحت دائمة عندما بدأ المهاجرون منذ أواسط السبعينيات في استقدام زوجاتهم وأبنائهم من المغرب في إطار ما يعرف بالتجمع العائلي. في سنة 1960 لم يكن في هولندا سوى ثلاثة مغاربة يتوفرون على تصريح بالإقامة، وبعد خمسين سنة من توقيع اتفاقية اليد العاملة تسجل الإحصاءات الرسمية وجود أكثر من 400 ألف من أفراد الجالية المغربية في هولندا، أغلبهم يحملون الجنسية الهولندية إضافة إلى الجنسيةِ المغربية طبعا. خلال خمسين سنة انتقل الحضور المغربي في هولندا من يد عاملة بسيطة جاءت أو جيء بها للمساهمة في بناء الاقتصاد الهولندي وتحقيق الرخاء الاقتصادي، إلى أحد أهم مكونات المجتع الهولندي، مكوِّنٌ يتمتع بكامل شروط المواطنة ويساهم في كافة مناحي الحياة، وأصبح تاريخ الهجرة المغربية جزءا لا يتجزأ من تاريخ هولندا والمغرب على حد سواء. كما أصبحت الجالية المغربية من أكثر المجموعات المهاجرة حضورا في المجتمع الهولندي، وأكثرها تأثيرا من بين باقي الجاليات الأجنبية بهذا البلد. لا أحد يشك في النجاحات التي حققتها وتحققها الجالية المغربية بهولندا على جميع الأصعدة؛ ففي المجال السياسي نجد أن السياسيين الهولنديين من أصل مغربي استطاعوا أن يفرضوا وجودَهم في ظرفية سياسية صعبة. فبالرغم من الحضورِ القوي لأحزاب اليمين المتطرف، إلا أن السياسيين من أصل مغربي تمكنوا من تغيير الصورة النًمطية للمواطن ذي الأصل المغربي التي تحاول هذه الأحزاب مدعومة بالإعلام ترسيخها في ذهنية المواطن العادي. وهو ما قلدهم مناصبَ مهمة، مثل عُمودية ثاني أكبر مدينة في هولندا روتردام، وعمودية مدينة أرنهم، وللعلم فعمدتا المدينتين ينحدران معا من الريف، إضافة إلى رئاسة مجلس النواب من طرف السياسية الهولندية المغربية خديجة عريب، دون أن ننسى زعيم حزب اليسار الأخضر من أب مغربي ييسي كلافر الذي يعتبر أحد أهم السياسيين تأثيرا في هولندا. وخلال الانتخابات الأوروبية الأخيرة تمكن سياسيان مغربيان من ضمان مقعدين في البرلمان الأوروبي. أما حضور الهجرة المغربية في مجال الثقافة والبحث العلمي فيشهد عليه عدد الأستاذة والباحثين من أصل مغربي في جميع التخصصات في أكبر الجامعات الهولندية، كجامعتي أمستردام ولايدن، وقد تابعنا مؤخرا تعيين الدكتور سعيد حمديوي كأول أستاذ كرسي من أصل مغربي في هولندا في إحدى أرقى الجامعات المصنفة دوليا، جامعة دلفت التقنية. في الميدان الفني هناك اكتساح كبير للكوميديين والممثلين المغاربة، فعروض ابن الناظور نجيب أمهالي مثلا محجوزة عن آخرها حتى نهاية السنة. وفي الميدان الأدبي نجد أسماء أصبحت تنافس حتى كبار الكتاب الهولنديين وتحصد جوائز مهمة: عبد القادر بنعلي، محمد بنزكور، خالد بودو، فؤاد العروي، أسماء بوعزة، واللائحة طويلة. نسبة الإجرام في صفوف الشباب المغاربة، حسب الإحصائيات الرسمية، هي في تدن مستمر. جمعية الأطباء المغاربة بهولندا AMAN تضم أزيد من 225 عضوا. المتاجر والمطاعم المغربية أصبحت جزء لا يتجزأ من المشهد العام في كل مدينة أو قرية. في الميدان الرياضي هناك شبه إجماع على أن النجاح الباهر الذي يحققه نادي أياكس أمستردام، سواء على الصعيد الوطني أو الأوروبي، يعود الفضل فيه بدرجة كبيرة إلى حكيم زياش. وهناك عشرات اللاعبين المغاربة/الهولنديين المتألقين في صفوف الأندية الوطنية والأوروبية. ولو أخذت في سرد لائحة كل النجاحات والإنجازات التي حققتها الجالية المغربية خلال هذه الخمسين سنة لما وسعني المجال. وقبل أيام، أعلن القصر الملكي عن اختيار المغربي ابن قلعة مكونة حسن أوتقلا مستشارا شخصيا للملك فيلم ألكسندر والملكة مكسيما. في انتظار التفعيل… كل هذا يؤكد الحضور البارز للهجرة المغربية في هولندا، حضور لم يَحُلْ دون ارتباطها بوطنها الأم المغرب. المغرب المطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بعمل ما في وسعه من أجل دعم مغاربة العالم وإيلائهم الاهتمام اللازم في سياساته العمومية والخدمات الموجهة إليهم. وهو ما لم يَنِ صاحب الجلالة على تنبيه الحكومات المتعاقبة إليه. لقد شكل دستور 2011 (الذي لم تقل نسبة الترحيب به لدى مغاربة العالم عن مثيلتها لدى مغاربة الداخل) محطة فارقة في تاريخ المغرب. وقد قام لأول مرة بالتأكيد حرفيا على أهمية ودور الجالية المغربية المقيمة بالخارج واعتبار مغاربة العالم مواطنين كاملي المواطنة يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها مواطنو الداخل (وعليهم الواجبات نفسها طبعا). والآن، والدستور الجديد/القديم يدخل السنة التاسعة على إقراره، ما زالت الجالية المغربية تترقب تفعيل مضامينه، المتمثلة بالخصوص في إشراكها داخل الهيئات الاستشارية ومجالس الحكامة، مما سيفسح المجال واسعا لاستفادة المغرب من كفاءات وخبرات ما يزيد عن خمسة ملايين من أبنائه الموزعين في أرجاء المعمور.