امرأة من الزمن الجميل (عن أنامل مبدعة تبعث الأمل وترسم أجمل أصالة.) للتراب هناك رائحة أعشقها، تعبق بذكريات قادمة من دهاليز طفولة لاتنسى. هناك… في قرية يغارعليها شاطئها من نسمات الهبوب، أهلها طيبون كرماء سعداء…يحب بعضهم بعضا. قرية للجميع، تفتح ذراعيها وابواب بيوتها لكل ضيوف القرية. “التعاونية”: مصابيح بنصف ضوء. “تعاونية الفتح” اوالمعروفة اختصاراً ب: (التعاونية)…أحدثت في الثمانينات كأولى تعاونيات على الصعيد الوطني، لا تبعد كثيرا عن أركمان المركز التابع لاقليم الناظر. “قرية” تزخر وتفيض بالحياة، مصابيحها بنصف ضوء..شوارعها وأزقتها محفرة، لم تشملها أي عملية إصلاح أو حتى إعادة هيكلة، منذ إحداثها في الثمانبنات, البعض منها تشبه المتاهات وأخرى تعج بالحركة، من تلاميذ وأطفال يلعبون، وباعة متجولون يصيحون بإعلان ما يبيعون من خضر أو سمك، وأحيانا باعة آخرون يأتون من أماكن أخرى. أما المقاهي فيها فهي رئة القرية والمتنفس الوحيد لاهلها… مساحة التقاء الناس من مختلف الفئات والاهتمامات. وهي مرآتها ومن خلالها يمكن معايشة أحوال الناس كما أنها تعكس حيوية القرية ونمط العيش فيها.. قرية شبه منسية تفصلها عن “حضارة” الناظور بضع كيلومترات وبعض ” المسؤولين “. وأنت تلج أزقة “التعاونية” تستقبلك روائح الطبخ الصادرة من المنازل من قلى ألأسماك وطبخ “المارميطا” و”الكسكسو” وغيرها من أكلات أخرى، مختلطة بروائح الشاي بالنعناع وروائح القهوة وأحيانا أخرى بالبخور وبكل أصنافه… عالم خيوط الصوف والألوان. وهنالك في الزاوية الأخرى من هذه القرية الجميلة بأهلها، تعيش القرية عالم آخر، عالم تتغازل فيه (كل يوم) خيوط الصوف بالالوان لترسم لوحات لا تخطر على بال وخيال إنسان. متعة الاستحداث والابتكار والسعادة في إبداع الأشكال والألوان، بحثا عن رضى الأذواق وراحة العقول. عالم آخر تؤثثه زرابي جميلة، زرابي تقليدية عبارة عن لوحات فنية عتيقة وأصيلة تنسجها أيادي سيدة ورثت سرالنسج والاتقان عن عهد زمن جميل مضى. أيادي تتفنن في مزج الألوان واختيار الأشكال ووضع المخططات..لتصنع زرابي جميلة تحاكي تاريخاً يمتد قروناً من الزمن. صناعة جميلة، تعتبر من أعرق الصناعات التقليدية في المغرب..تحمل عبق “بربر” حملوا ذات يوم ما، منذ حوالي 1500ق.م، المبادئ الأولية لهذه الصناعة، صناعة لا زالت صامدة امام هجوم التطور، برغم كل المد المستمر لكل ما هو حديث.. ولا زال لها من يحميها أمثال هذه الأيادي التي تعمل على ان تبقى هذه الصناعة دائما حية رغم كل الظروف والمتغيرات. سيدة يناديها أهل القرية ب”:”خالتي حلومة”.. تقول انها تعلمت نسج الزرابي من والدتها، ورثت سر المهنة/الحرفة من الزمن الجميل، حيث كان النسيج يساير إيقاع الحياة في البوادي والقرى عبر طقوس عديدة بدءا من تحضير الصوف كمادة أولية، مرورا بالنسج والفتل والتلوين ووضع “المنساج” (وهو عبارة عن عصا ملساء طولها حوالى متر تستخدم في نسج الزربية كما “القرداش” الذي يشبه المشط وغالبا مايستخدم “قرداشين” إثنين…) الى آخر ما تستدعيه الزربية من تحضيرات والتي رغم انها غالبا ما تمر في أجواء غنائية وجمالية إلا أنها لاتخلوا في المقابل من تعب ومشاكل طيلة عملية التحضير والصنع والتي تتطلب في الغالب أسابيع، وأشهر. زمن جميل كانت تتسم الزاربي فيه ببساطة فطرية وبطرافة أشكالها الزخرفية وهي غالبا ما كانت تزينها أشرطة ملونة عرضية وواضحة. هي نفس البساطة التي تشتغل بها هذه السيدة… زرابي تنسج وتصنع في أغلب الأحيان من الصوف الخالص. مزينة بأشكال هندسية بسيطة. وتتخذ أشكالا وانواعا متعددة منها ما يستعمل كغطاء أو كفراش كما قد تستعمل لتزيين الجدران أو أرضية البيوت. وهي تبقى قبلاً وآخرا ثمرة مخيلتها الفياضة. والزربية في نظرها -إظافة الى وظيفتها النفعية- تعتبر كذلك عنصرا هاما في بيئتها الثقافية والدينية. فهي تحمل معاني ودلالات كثيرة. فالألوان لها دلالالتها، والرسوم كما العلامات القبلية التي ما فتئ هذا المنتوج يحملها لها كذلك دلالاتها…كل شيء فيها له دلالة ومعنى.. وفاء وإصرار وإثبات… الذات. هكذا بقيت هذه السيدة وفية لهذه الصناعة/الحرفة، الى جانب إصرارها على إثبات ذاتها من خلال المسؤوليات الاخرى المنوطة بها…ادركت استشعارالمسؤولية تجاه أبنائها، وإن كان كثيراً ما تنسى الأمهات أنفسهن وسط خضم المسئوليات وتتعرضن للإرهاق والتعب. فلم تنسى يوما أسرتها وأبناءها، نِعم ما ربّت وكبَّرت… تخرج ابنائها من المعاهد والجامعات، كما لم تنسى كذلك ورغم كل هذه المسؤوليات، معانقة الالوان والخيوط…خيوط النسج وألوان الزرابي، رغم ان القصة كلها -كما لايخفى على أحد – لم تعد مربحة أسواء بسبب المنافسة الشرسة التي يفرضها منتوج الزربية الحديثة التي يقل ثمنها عن الزربية التقليدية بشكل لافت للانتباه.أو بسبب إهمال الناس والمسؤولين لهذه الصناعة. وهوالامرالذي جعل بالتالي وفي كلتا الحالتين عددا كبيرا من صانعات الزرابي التقليدية أمثال هذه السيدة , لا تتمكن من تسويق منتوجاتهن نظرا لهذا الركود وهذه اللامبالات التي تسربت إلى القطاع.. رغم انه لازال هناك عددا لا يستهان به من الناس لازالوا يصرون على تأثيث بيوتهم وصالوناتهم بالزربية التقليدية بفعل ما تحمله من خصوصية وجمال..ومعنى. أمل منشود حتى لا تتبعثرالدمعة وسط ابتسامات ساخرة. وربما المفرح نسبيا لهذه السيدة كما لقريناتها من كل هذا ( وهو ما لا يمكن تجاهله)هو ذلك البصيص من الامل الذي حملته بعض المستجدات التي عرفها هذا القطاع مؤخرا، بعد ما شهدته السنوات الأخيرة من تزايد الاهتمام به. خاصة ما لوحظ مؤخرا من الدعم والاهتمام المباشر لملك البلاد محمد السادس لهذا القطاع. هي مستجدات قد تكون كافية بإثارة الجدل والحماس، علاوة على منافسة مشروعة ستؤدي حتما الى ارتفاع أسهم ونجاحات هذا المشروع المجتمعي الاقتصادي، وستنتظر هؤلاء النساء ومحبي الزرابي التقليدية إعلان الانطلاقة الحقيقية لهذا المشروع وذلك بتفعيله على ارض الواقع. و”اهتمام” الدولة بهذا المنتوج، يجب ان لا يقتصر فقط على تأثيث الاماكن والصالونات كنوع من الديكور، كما نلاحض عبر بعض المواقع كما الوقائع. حيث نعتقد بل أننا نكاد نجزم أنه لا يكاد يخلو بيت أو مكتب أي وزير مغربي أو مسؤول رفيع المستوى من “أثاث” تقليدي أو لمسة تقليدية على الاشياء أسواء كانت زربية تقليدية او مرآت ” بَلْدية “.بل على الدولة كما كل المسؤولين وأصحاب القصور والصالونات والمنازل الكبيرة والصغيرة الذين لم ينسوا هذه الصناعات في تأثيث قصورهم وفللهم ومنازلهم أن لا ينسوها ايضا في مخططاتهم وبرامجهم… وسياساتهم، من أجل الرفع بهذه الصناعة والرقي بها الى ما تستحقه، ومساعدة ممتهنيها والاخذ بيدهم، حتى لا ينطفئ ذلك البصيص من الامل الذي أطل عليهم. ويعودون بالتالي لظلمتهم الحالكة التي إستئنسوا بها لسنوات مظت بل اصبحت عنوانا وأنيسا لهم في درب حياة قاسية لم يختارو منها سوى الخيوط و”المنساج” و” القرذاش” وبعض…ابتساماتهم، لنسج “زربية” تقليدية عتيقة أصيلة، ستبقى حتما، تحاكي تاريخاً يمتد قروناً من الزمن. ويتوارث صناعتها اجيال وأجيال. لتكون رمزاً لأصالة افتقدناها قسرا ولمعاصرة فهمنا عكس ما تعنيه. وكي تظل البيوت والأمكنة تزهو بها، مبسطة على الارض او عالقة على الجدران كلوحات نقشتها ايادي رسام. فهل يتحقق لهؤلاء النساء في الحياة فرح، إذا حلمن به؟ وفرح هؤلاء بسيط جدا… أن توفر لهن الدولة مكانا يجْمعْهُنَّ ليعمَلْن سويا لإحياء هذه الصناعة والتعريف بها وإخراجها إلى النور لإماطة اللثام عنها، ليطلع عليها الناس والمهتمون والدارسون والباحثون. ولما لا ! تحويل دور وبيوت و” كَرَاجَاتْ” النسج لهؤلاء النساء إلى مراكز للتكوين والتدريب. حيث لم يحقق من هذا المنتوج /الكنز حتى هذا التاريخ إلا القليل، القليل وبمجهودات ذاتية شخصية ومحدودة جدا. ولا يزال معظمه مخزونا سواء ما كان منه داخل ” بيوت” و”كاراحات” النسج نفسها أو خارجها في بعض المعارض والمحلات التجارية. ونتيجة لهذا الوضع لم تخرج هذه الصناعة -بعد- من قمقم التهميش واللامبالات الذي ظلت حبيسته طوال قرون. ترى هل يتحقق لهؤلاء النساء في الحياة فرح، إذا حلمن به. ! دفء الألوان انعكاس لثقافة “منسية”. وحتى لا ننسى… فَ:”خَالْتي” هذه، وهي تصنع هذه الزرابي، لا تنتج الزرابي فقط ولكنها بذلك تصنع ثقافة بأكملها. تغزل وتربط خيوط الثقافة التقليدية المحلية في لوحة نسيجية واحدة جميلة ومنسجمة تسمى: ”الهوية الثقافية”. No related posts. شارك هذا الموضوع مع أصدقائك Tweet