أتحدث هنا بكوني أحد أبناء مدينة الدريوش الذى قضى جزءا مهما من حياته بين أزقتها ومقاهيها وضيعاتها وملاعبها المتربة، ومع أنه غادرها منذ ما يقارب العشرين عاما، إلا أنه يحملها بين جوانحه أينما حل وارتحل، ويتكلم عنها في مختلف المناسبات التي يحضر فيها رغم أنها مغمورة، ويتباهى بها أمام المدن العملاقة والعواصم الكبرى، رغم أنها لا تعادل إلا بقعة جد بسيطة من تلك المدن الآهلة، بل ويساهم دوما من موقعه في تنمية المدينة، لاسيما على المستوى الثقافي والفكري. السبب الذي دعاني إلى كتابة هذه الخواطر أو الآهات إذا صح التعبير، هو ال”حيص بيص” والاضطراب الواقع منذ شهور حول مشروع تهيئة الشارع الرئيسي لمدينة الدريوش. حيث نجد أنفسنا أمام مقاربتين متناقضتين، بين المعارضة من جهة ورئيس المجلس ومجموعته من جهة ثانية. أو لنقل، حتى نكون موضوعيين أكثر، نحن أمام مقاربة واحدة دخل فيها على الخط حتى عامل الإقليم بكونه يمثل جهة رسمية. وفي الوقت ذاته، أمام موقف المعارضة الصلد الذي يرفض المشروع تخوفا من تبذير المال العام الذي ينبغي أن يوجه إلى الأحياء الفقيرة والمهمشة. وهذه رؤية سوسيو-واقعية مهمة، يمكن أن تعتبر جزءا لا يتجزأ من مقاربة شمولية لتنمية المدينة (ربما) تفكر فيها المعارضة، غير أنها لا تملك زمام تنفيذها على أرض الواقع. شخصيا أرى أنه لا يمكن أن نسلم بوجود مقاربة واحدة أو مقاربتين فقط لهذا الشأن، فالمجتهد الجاد يمكن له أن يصل إلى مقاربة أخرى أو بدائل جديدة قد تكون غائبة عن الطرفين. لكن دعوني أولا أضع بعض الأسئلة الجوهرية: ما موقع المواطن الدريوشي العادي من هاتين المقاربتين سواء الرسمية (العمالة، رئيس مجلس المدينة ومجموعته) أو الخاصة بالمعارضة التي ترفض هذا المشروع؟ ما هو موقف المثقفين أبناء مدينة الدريوش سواء في الداخل أو في الخارج مما يحصل في مدينتهم؟ هل تم التشاور مع الفئة المثقفة التي يهمها مصير المدينة بخصوص هاتين المقاربتين المتعارضتين سواء المقرة للمشروع أو الرافضة له؟ في غياب تام لأي تشاور سواء مع المواطنين أو مع الطبقة المثقفة في الداخل والخارج تم طبخ مشروع تهيئة الشارع الرئيسي، غير أن المعارضة عكرت هذه الطبخة التي ترى أنه لا نكهة لها، وأن التوابل التي استخدمت فيها ضارة بالشأن العام والمحلي. دعونا نكون أكثر واقعيين، وأكثر عقلانيين. مشروع التهيئة هذه، التي تبدو مهمة وواسعة لقلب المدينة، يظهر أنه من الناحية المبدئية أمر لا بد منه، إذ تقدم المدينة نفسها بكونها موقعا مهما وجذابا، لا سيما في حوض كرت الذي عرف تاريخيا بصحراء كرت، والآن صار مدارا عمرانيا وفلاحيا مهما. المشكلة لا تتعلق فيما أعتقد بتهيئة الشارع الرئيسي، ومن ثم المرور إلى الشوارع والأحياء الأخرى بشكل تدريجي، بل في طبيعة هذه التهيئة، والمقاربة المعتمدة في تصميمها وتمويلها وتنزيلها. وإذا بقينا معلقين بين “نعم” القبول و”لا” الرفض، بين الرأي الداعي إلى التهيئة والرأي المخالف الرافض لها، فهذا يعني أننا ننظر إلى الحاضر والمستقبل بنظارة بيضاء وسوداء، في الوقت الذي ينبغي علينا أن نرتدتي نظارة قزحية بألوان الطيف السبعة، التي تحيل على الحلم والتفاؤل والأمل. لذلك، اعتقد شخصيا، ورأيي قد يرد فهو ليس منزها، وإنما من باب الاجتهاد الفردي، أنه حان الوقت لأن نعتمد مقاربة وسطية للخروج من عنق الزجاجة، ورفع الحجر عن المشاريع المعلقة في المدينة منذ أمد ليس بالقصير. هذه المقاربة يمكن أن نعتمدها في التعامل مع مختلف المشاريع الخاصة بمدينة الدريوش، واقتصر في هذه الكلمة المقتضبة والتوجيهية على مشروع تهيئة الشارع الرئيسي الذي هو الآن رهين الأخذ والرد. موقفي الشخصي هو أنه يقبل المشروع المقدم لكن بشروط المعارضة، بمعنى لا يجب رفض هذا المشروع المهم لمدينتنا، فالتهيئة إذا تمت بشكل سليم ومتوازن سوف تشكل لا محالة قيمة إضافية لجمالية المدينة وصورتها الداخلية والخارجية، ربما بعض الإخوة في المعارضة يركزون على ما هو داخلي، لكن حوالي 50% من ساكنة إقليم الدريوش، لا سيما المقيمة في الخارج، تنظر إلى المدينة وغيرها من مدن الإقليم الأخرى نظرة بانورامية خارجية، ولعل بعض أعضاء المعارضة قاموا بجولات إلى أوروبا، وعاينوا بأم أعينهم كيف تحرص كل بلدية على جعل قلب مدينتها متميزا وشوارعها الرئيسية جذابة. قد يقول قائل ما دخل الجالية الدريوشية المقيمة بالخارج، لكن ربما دون أن يدرك أن هذه الفئة هي التي تعتبر الرافعة الاقتصادية ليس للدريوش فقط، بل للريف عامة، ومختلف مناطق المغرب. يمكن للمعارضة من موقعها السياسي القوي أن تضع الكثير من الشروط والإضافات حتى تمنح هذا المشروع أبعادا ثقافية وتربوية وبيئوية واقتصادية أخرى، وتحضر رؤيتها بشكل لافت في هذا المشروع، ولو أنه مقدم من المجلس الذي تعارضه. أقترح في هذا الصدد إدخال أربعة إضافات أساسية على هذه التهيئة. أولا على المستوى الثقافي: توضع مجسمات فنية بارزة في مدخل ووسط ومخرج المدينة لأهم الأشكال الثقافية والتراثية المحلية، كالجمل وشجرة الزيتون والبراد وغيرها. وهكذا نضفي جمالية على مدينتنا تستهوي الزوار لا سيما من أبناء الجالية، وتجعلهم يفتخرون بموطنهم الأصلي، كما هو حال أقرانهم المنحدرين من المدن الأخرى. ثانيا على المستوى التربوي: تتضمن التهيئة مواقع للقراءة تجهز بالكراسى والطاولات الحجرية توزع على بعض الأماكن الاستراتيجية عبر الشارع الرئيسي. يمكن للمؤسسات التعليمية أن تقدم هناك أنشطة للقراءة في الفضاء العام، كما توضع لوحات عبر الشارع فيها بعض الحكم والأقوال والأحاديث النبوية الشريفة الداعية إلى العلم والمعرفة والتسامح والاحترام. ثالثا على مستوى البيئة: وذلك عبر التشجير وتخصيص مساحات جانبية معشبة ومشجرة للاستراحة ولعب الأطفال، حتى أن العابر للمدينة لا يحس انه محاصر بالاسمنت. رابعا على المستوى التجاري: التفكير في خلق مركز تجاري متميز للتسوق مجهز بمختلف المرافق (ألعاب أطفال، حديقة، مسجد، إلخ)، لا يكون موجها فقط للساكنة المحلية، وإنما للأقاليم والمدن المجاورة، حاولوا أن تبتكروا شيئا أو “ماركة” خاصة بالمدينة، تستقطب كل من يمر بها أو يزور المنطقة من الداخل أو الخارج. الخلاصة مما سلف، لم أكتب هذه الخواطر أو الآهات إلا غيرة على مدينتي الدريوش، لا أريد جزاء ولا شكورا، ولا أروم تصفية حساب مع أحد، كل من يخدم الصالح العام يجب أن نجله، ومتابعة المعارضة لمختلف الاختلالات التي يشهدها تسيير المجلس للمدينة سابقة من نوعها، تقتضي منا وقفة اعتزاز وتقدير. وفيما يتعلق بقبول المعارضة لمشروع التهيئة حسب شروط وتصويبات معينة لا ينقص من نضالها شيئا، بل العكس يؤكد حرصها على مصلحة المدينة والمواطنين، بل وإن تدخلها البناء في هذا المشروع يندرج في عمق النضال الذي تتبناه، وفي الوقت نفسه يبقى مسار النضال مستمرا من أجل الأحياء الفقيرة المهمشة والمستشفى الإقليمي المعلق والقناطر المؤجلة وغيرها كثير.