شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة حدوث تأثيرات مناخية و تساقطات مهمة انعكست سلبا في مناسبات كثيرة على السير العادي للحياة العامة بفعل أخطار الفيضانات التي شملت مناطق مختلفة سواء بالقرى أو المدن و هو ما شكل عائقا تنمويا و هاجسا لدى المسؤولين الذين أضحت كل مجهوداتهم في مدن عديدة تحت رحمة تقلبات المناخ و تدفقات المياه و السيول الجارفة المسببة في خسائر في الأرواح و الممتلكات وتعيق الحركة الاقتصادية كما تؤخر كل المشاريع و البرامج الرامية إلى تهيئة مجالية نموذجية. ولتسليط الضوء على هذه الظاهرة الطبيعية استضافت «العلم»الباحث في التهيئة الحضرية والمجال في ارتباطه بظاهرة الفيضانات الأستاذ يونس الورتي الذي أعد دراسة ميدانية وبحثاً دقيقاً تطرق لمختلف الجوانب المرتبطة بخطر الفيضانات من خلال طرح أسبابها و عوامل بروزها بحدة انطلاقا من نموذج مدينة الناظور التي تعتبر منطقة تعرضت لفيضانات خطيرة خاصة في السنوات العشر الأخيرة، وتعتمد الدراسة على معطيات علمية جيولوجية و مناخية بالإضافة إلى العوامل المساهمة في ارتفاع معدل الخطورة مع طرح الحلول و الخطوات العملية لتفادي نسبة الخطر و التأثيرات السلبية لظاهرة أضحت تشكل عقبة في وجه التنمية. س: هل يمكن أن تعرف لنا ظاهرة الفيضانات و درجاتها أو أصنافها ؟ ج: الفيضانات أو الامتطاح هو اجتياح المياه لمنطقة ما، أي مرحلة ارتفاع مستوى المياه في مجرى مائي، فتخرج المياه عن المجرى الاعتيادي، وترتبط الفيضانات أساسا بغزارة التساقطات، وعدم قابلية الحوض على امتصاص المياه المطرية. ومجمل الدراسات و الأبحاث تتفق حول أربعة أصناف من الفيضانات متعارف عليها دولي ا وتحدث بجهات مختلفة من العالم ويتحكم فيها الموقع الجغرافي، المناخ و التضاريس. و تنقسم إلى أربعة أصناف بحيث نجد الصنف الأول و يسمى بالإمتطاحات القوية، ترتبط أساسا بالأحواض الجبلية الكبرى والمناطق المدارية، إذ أن الامتطاح في هذه المناطق يحدث نتيجة لتساقطات قوية مركزة ومسترسلة، فيسجل ارتفاع كبير في مستوى الصبيب ويكون للمجرى قوة وكفاءة عالية على حمل ونقل المواد بكميات هائلة و في وقت وجيز. ثم الصنف الثاني المتعلق بفيضانات السهول التي تحدث نتيجة ارتفاع منسوب المياه داخل المجرى الاعتيادي للواد، فتغمر المياه المتدفقة الأراضي المجاورة لوجود بعض المنخفضات أو لوجود انحدارات ضعيفة أو ارتفاع مستوى الفرشة المائية السطحية، فتشكل على إثرها مستنقعات و أسباخ بالمناطق الساحلية. ومن خاصيات هذا النوع من الفيضانات أن غمر المياه للسهل يدوم بضعة أسابيع حسب قدرة الحرارة والرياح على تبخر المياه الراكدة. كما يدوم امتطاح المجرى لبضعة أيام، وبالتالي يصعب تحديد الخسائر لأن الأضرار مرتبطة بحجم و مستوى الحمولة ومدتها. أما الصنف الثالث فهو الجريان الحضري أو الامتطاحات الحضرية ويحدث هذا النوع داخل المدارات الحضرية والشبه حضرية. بحيث أن الفيضان يحدث بفعل تشبع شبكة التصريف وعدم قدرتها على تصريف كميات إضافية من السيول من جهة، أو في حالة ضعف هذه الشبكة، مما يسهم في غمر كلي للوسط الحضري، ذلك أن الجريان المائي في الأوساط الحضرية يتحكم فيه عنصر النفاذية التي تنعدم أحيانا بسبب كثافة المباني وضعف المجالات الخضراء بالإضافة إلى أن تبليط الطرقات يزيد من سرعة الجريان. وتكون الأمور أكثر تعقيدا في المدن الموجودة عند قدم الجبل كما هو الحال بالنسبة لمدينة الناظور. التي تتعرض لسيول وجريان مطري تنشطه أودية جافة تمتلئ في وقت قياسي و تشكل خطرا يترك آثاره البليغة في مدة لا تتجاوز الساعات القليلة. ثم رابعا نجد فيضانات مرتبطة بصعود مستوى الفرشة المائية السطحية فتظهر فوق السطح على شكل مستنقعات، ومن أبرز تجلياتها الإلقاء المباشر للمياه العديمة والمطرية عند غياب شبكة التصريف . س: ماهي أسباب الفيضانات وتجلياتها وكذا العوامل التي تسهم في تكرار الظاهرة بالمنطقة ؟ ج: تتنوع أسباب الفيضانات بمدينة الناظور وفي جل المناطق المشابهة بين ما هو طبيعي و ما هو راجع إلى عوامل بشرية، فالإطار الطبوغرافي يبين أن مدينة الناظور من أهم المجالات الحضرية التي تنتمي إلى الريف الشرقي، والتي تتميز بموقع غير ملائم من الناحية الطبوغرافية لكونها توجد بمنخفض تطل عليه مجموعة من الجبال وخاصة من الجهة الشمالية والشمالية الغربية ( كتلة كوروكو و جبال بني بويفرور) التي تهددها بسيولها النازلة منها كلما تعرضت المنطقة لتساقطات قوية الشيء الذي يجعل منها مجالا للفائض المائي ومن تم تبدأ معاناتها من الفيضانات. بحيث يلعب عامل الارتفاع دورا هاما في تفعيل سرعة الجريان السطحي على السفوح الشديدة الانحدار وتتميز السفوح الشمالية والشمالية الغربية والغربية بشدة انحدارها حيث تخترقها أهم الأودية التي تشكل خطرا حقيقيا على المدينة. كما تعد الخصائص المناخية أحد العناصر الطبيعية المساهمة في الفيضانات التي عرفتها المدينة خاصة أن هذا المناخ من النوع المتوسطي الذي يتميز بحدته وعنف تساقطاته غير المنتظمة و الفصلية و يغلب عليها التركز و العنف المطري ومحدوديتها في الزمان و المكان وهذا بفضل تعرض المنطقة لمؤثرات مختلفة شمالية وأخرى غربية تؤدي لحدوث اضطرابات جوية تنتج عنها حالات الفيضانات. وهنا لابد من الإشارة كذلك إلى تدخل عنصر آخر يتمثل في الغطاء النباتي الذي بالرغم من كثافته على مستوى غابة ثازودا وعلى امتداد سلسلة جبال كوركو حتى أزغنغان، إلا أن وجودها في انحدارات هامة و عدم تنوعها وتدرجها نوعيا وانتشارها بنفس الكثافة يحد من فاعليتها في تكسير حركية الجريان السطحي من جهة وامتصاصها للمياه من جهة أخرى، بل إن الوتيرة السريعة لاندثار المجال الغابوي بسبب الحرائق و انجراف التربة وغياب مجالات خضراء لتسريع عملية النفاد يجعل من التدفقات المطرية إبان الفترات الممطرة إشكالية خطيرة و هاجسا يقلق كل الساكنة بالمنبسط و السهول الواقعة في قدم السلسلة الجبلية. س: ألا يعتبر العنصر البشري طرفا في هذه المعادلة ؟ ج: بدون شك فإن العنصر البشري يساهم في عمليات تحويلية تعرض المجال للضغط المتزايد بفعل النمو السكاني فالمدينة تعرف كثافة سكانية هائلة تضاعفت معها في ظرف ثلاثين سنة مما نتج عنه توسع عمراني كبير لم يراع الحاجيات و المقاييس الواجب توفرها لاستقبال انتشار العمران، هذا التوسع الحضري أدى إلى تغير لملامح السطح من بناء فوق الأودية الجافة أو فوق المصطبات السفلى للأودية فساهم في عرقلة الجريان السطحي، و إضعاف معامل النفادية. كل هذه الأمور تبينها الخريطة الطبوغرافية والصور الجوية ومختلف التصاميم الحضرية لمدينة الناظور، حيث اتضح أن التوسع الذي عرفته المدينة تم في كثير من الحالات على حساب الشبكة الهيدروغرافية، وذلك إما عبر البناء مباشرة فوق الأودية الجافة و الشعب المتفرعة عنها كما هو الشأن بالنسبة لحي بالوماريس المقابل لتلة بوبلاو ، أو عبر البناء فوق المناطق المحاذية للمجرى المائى والذي يعتبر سهلا فيضيا بنسبة للوادي كما هو الشأن بالنسبة لحي براقة و عاريض و شعالة و بوعرورو. بالإضافة إلى هذه العناصر هناك تحول آخر تتعرض له الشبكة الهيدروغرافية ويتمثل في تحويل المجاري المائية إلى مطارح للنفايات مما يساهم في الرفع من احتمالية وقوع الفيضانات. فكلما كان السطح مغطى ببنايات إسمنتية أو تصريف أو تبليط للطرقات إلا وكان معامل الجريان قويا بين 0.5 و 0.9 عكس المساحات الفارغة و المناطق الخضراء التي لا يتعدى فيها معامل الجريان 0.2 . وبالنسبة لمدينة الناظور يصل معدل الجريان إلى 0.6 وهو معامل قوي نسبيا وينذر بوقوع أخطاركلما سجلت تساقطات بالمناطق الجبلية المطلة على التجمعات السكنية. ومن بين العوامل التي أسهمت إلى حد بعيد في تكرار الفيضانات خلال الفصل المطير نجد إشكالية تصريف المياه المطرية، فالشبكة الحالية للتصريف غير قادرة على احتواء كل الواردات من المياه المطرية بسبب عدم تغطيتها كليا للمجال الحضاري من جهة وضعف حجمها مما يؤدي إلى اختناقها في حالات عديدة. وبالتالي نكون أمام أربع تصنيفات مختلفة للأوساط الحضرية المهددة بخطر الفيضانات باستمرار، أولها منطقة ترقاع بسبب استقبال هذه المنطقة للمياه القادمة من الجهة الشرقية لسلسلة جبال كوروكو عبر واد ترقاع الذي يخترق التجمعات السكنية. ثم نجد وسط المدينة بسبب استقبال هذه المنطقة للمياه القادمة من المرتفعات المجاورة لنفس السلسلة و كذا مرتفعات بني بويفرور عبر محموعة من المسيلات التي لم يبق لها أي أثر لكنها تنشط خلال الفصل الممطر. ومنطقة عاريض وبراقة بسبب توسع هذه الأحياء على حساب الشبكة الهيدروغرافية، وقربها من أهم المجاري المائية التي تخترق المدينة، وأخيرا منطقة المطار أو الناظور الجديد بسبب وضعيتها الطبوغرافية المتميزة بانعدام الانحدار بهذه المنطقة فتتحول نتيجة ذلك خلال الفترات المطيرة إلى ما يشبه المستنقعات و السبخات من جهة وقربها من مصب واد كابيو ذي الحمولة القوية. بعد رصدكم للظاهرة ميدانيا و علميا ماهي التدابير الكفيلة بالحد من خطر يتكرر و ينذر بتأثيرات سلبية؟ المشكلة تتطلب نقاشا واسعا و تفعيلا لكل الجهود و المصالح المعنية بتدبير الشأن العام و كل الأطراف المتوفرة على إمكانية معالجة ظاهرة كهذه وأول خطوة في هذا الاتجاه القيام بتهيئة شاملة لكل المجاري المائية من منابعها حتى مصباتها بشكل يأخذ بعين الاعتبار نسبة وحجم التدفقات و طريقة تصريفها نحو الأماكن غير المهددة وتواكبها عملية تشجير واسعة للمرتفعات المحيطة بالمدينة و سفوحها مع وضع حواجز بالمرتفعات و المنحدرات للتخفيف من قوة الجريان و كسر تدفقاته السطحية، وبناء سدود تلية. وعلى مستوى السهل لابد من الاهتمام بتوفير المساحات الخضراء داخل المدينة لمساعدة كميات الأمطار على النفاذ و الرفع من سعة الصرف و مد شبكة القنوات لتشمل كل الأحياء و المناطق و السهر على صيانتها بشكل متواصل خارج المناسبات أو فترات الاختناق دون إغفال مسألة أساسية وهي ضرورة إدراج خريطة واضحة رهن إشارة كل المواطنين والفاعلين في قطاع البناء و العقار للتعرف على الأماكن المهددة بخطر الفيضانات و جعلها فقرة و مكون رئيسي ضمن وثائق التعمير و الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في مجال الوقاية و الإجراءات الاستباقية لحدوث الفيضانات