الدايم الله أخيرا، انفكت عقدة لسان رئيس مجلس النواب والأمين العام للتجمع الوطني للأحرار، مصطفى المنصوري، وقرر أن يعترف بأخطائه وأكاذيبه على رؤوس الأشهاد. والواقع أن ما اعترف به مصطفى المنصوري، في اللقاء الذي جمعه بمنسقي حزبه السبت الماضي، يدينه هو أولا قبل أن يدين شخصا آخر. فقد اعترف باقترافه مصيبة عندما قبل بعضوية وزراء في حزبه، كما اعترف بأنه اقترف الكذب من أجلهم عندما دافع عنهم. واعترف بأنه تدخل لوزير السياحة السابق، بوسعيد، خلال الانتخابات السابقة وسأل والي فاس حول حظوظ فوز هذا الأخير في الانتخابات. والمصيبة أن سعادة الوالي استقبل المنصوري ووعده بتقديم يد المساعدة. مشكلة المنصوري مع وزراء الحركة التصحيحية الذين سماهم «القراصنة» (عاد بانو ليه قراصنة دابا) هي أنهم لا يؤدون انخراطهم الشهري في الحزب ولا يوظفون مناضلي التجمع الوطني للأحرار في دواوينهم الوزارية، وكأن أبناء الشعب من حملة الشواهد المعطلين لا يستحقون الاشتغال في دواوين الوزراء إلا إذا كانوا مناضلين في أحزابهم. في الدول التي تحترم نفسها يعتبر كذب السياسيين سببا كافيا لموتهم السياسي. أما عندنا، فيحدث أن يعترف رئيس البرلمان والأمين العام لحزب سياسي مشارك في الأغلبية الحكومية بالكذب ومع ذلك يستمر في منصبه وكأن لا شيء حدث. نحن، إذن، أمام رجل سياسي، يحتل المرتبة الثالثة في هرم السلطة بعد الملك والوزير الأول، يعترف «بلا سوالات» باقترافه للكذب والبهتان وباستعماله لسلطته كرئيس للبرلمان وكأمين عام لحزب سياسي مشارك في الأغلبية الحكومية لمطالبة والي جهة فاس بولمان بالتدخل لصالح وزير مرشح في حزبه. أليست هذه الاعترافات وحدها كافية لفتح تحقيق مع مصطفى المنصوري لكونها تعطي صورة مشوهة عن العمل السياسي والتشريعي في المملكة؟ ولعل السبب الحقيقي الذي دفع بالمنصوري إلى إطلاق العنان للسانه بكل هذه السرعة غير المحسوبة هو إحساسه بدنو أجله السياسي على رأس مجلس النواب، ولذلك قال إن منصبه كرئيس للمجلس أصبح على كف عفريت. نفهم من هذا الكلام أن انتفاضة المنصوري ليست بسبب غيرته على تخليق الحياة السياسية والوحدة الحزبية، وإنما بسبب حرصه الشديد على كرسيه في مجلس النواب بعد يقينه بقرب فقدانه لكرسيه على رأس الحزب، خصوصا بعد اتصال الراضي، وزير العدل السابق الذي غادر منصبه أمس، بعباس الفاسي «يبشره» برغبته الأكيدة في الترشح خلال أبريل المقبل لرئاسة مجلس النواب. فيبدو أن الراضي قرر أن يسترد كرسي رئاسة البرلمان الذي حرمه منه كرسي وزارة العدل، (الولف صعيب)، مما يعني أن حزب الاستقلال يجب أن ينسى كرسي رئاسة البرلمان إذا أراد عباس المحافظة على تماسك أغلبيته الحكومية ووزارته الأولى إلى سنة 2012، مع أن عباس لا يصنع شيئا بتلك الحقيبة هذه الأيام غير حضور جلسات العزاء، فقد ذهب لكي يعزي عائلة «حكم» في وفاة ابنها زكريا فبقي عندها ثلاث ساعات كاملة. وقبلها، ذهب لكي يعزي عائلة زميله الخليفة، فمكث عندها ساعتين ونصف الساعة. فالرجل «عندو الوقت شايط غير للعزو» أما وقت الحضور إلى البرلمان والإجابة عن أسئلة النواب فلا يملك منه دقيقة واحدة، وعزاؤنا وعزاؤكم واحد فالوزارة الأولى. والواقع أن المنصوري لو كان، فعلا، يفكر في تخليق الحياة السياسية ويريد أن يدافع عن الشرعية كما يقول، لكان أول شيء يجب أن يقوم به هو السؤال عن نائب برلماني من حزب العهد ينتمي إلى نفس منطقته بالريف، غاب منذ مدة عن حضور جلسات البرلمان دون أن يستطيع أحد، بمن فيهم رئيسه في الحزب، معرفة مكان تواجده على وجه التحديد. فمن قائل إنه يوجد بالمغرب في مكان سري، ومن قائل إنه معتقل في هولندا، ومن قائل إنه هارب في أرض الله الواسعة بعد صدور مذكرة اعتقال دولية في حقه. ورغم غياب النائب والملياردير سعيد شعو عن قبة البرلمان لشهور عدة، فإن إدارة هذه المؤسسة لازالت تصرف له راتبه الشهري بدون أن تسأل عنه «واش حي ولا ميت». عندما نسمع رئيس مجلس النواب يعترف بالكذب والشطط في استعمال السلطة وبأنه تدخل وطلب من والي فاس «باش يعاون» بوسعيد، وأن هذا الأخير قال له «غير يتقدم بوسعيد للانتخابات راه حنا غادي نعاونوه»، فإننا نفهم وجود أمثال هؤلاء البرلمانيين تحت سقف مجلس النواب دون أن يشكل ذلك أية عقدة لرئيسه. فالسي سعيد شعو، البرلماني الذي اختفى عن الأنظار منذ هزيمة فريقه الكروي «رجاء الحسيمة» في الديربي المحلي وتقديمه لاستقالته من رئاسة الفريق، ليس برلمانيا عاديا. فسجله العدلي الهولندي، بحكم جنسيته الهولندية، يتضمن ثلاثة أحكام بالسجن تتراوح مددها ما بين سنتين وثلاث سنوات. ولا بد أن السي المنصوري، الذي يتحدث عن الشرعية، يعرف أكثر من غيره أن الحكومة الهولندية سبق لها أن أغلقت إحدى مقاهي «الكوفي شوب» التي يملكها البرلماني شعو في «روزندال» الهولندية، حيث يتم تعاطي «الحشيش» المغربي بالقانون. وطبعا، فليس إغلاق مقهى يتحشش فيها الهولنديون والسياح هو ما سيؤثر على مشاريع الملياردير شعو صاحب الحصانة البرلمانية، فالرجل لديه مشاريع كثيرة في الريف والرباط والدار البيضاء تبدأ من الصابون وتنتهي في العقار والنقل البحري والسياحة. وكثيرون في الرباط ذاقوا من أموال هذا الملياردير، وعلى رأسهم المندوب السامي للتخطيط الحليمي الذي باع لفائدة شعو فيلته الفخمة ب450 مليون، والتي قفز ثمنها بعد البيع إلى مليارين من السنتيمات، ورغم ذلك رفض شعو بيعها. أية قيمة بقيت للبرلمان إذا كان يضم بين أعضائه أشخاصا قضوا سنوات في السجون الهولندية بتهمة تهريب المخدرات، أشخاص لا يحضرون جلسات المجلس ومع ذلك يستفيدون من الحصانة البرلمانية ويؤدي لهم دافعو الضرائب المغاربة رواتبهم وتقاعدهم بانتظام. وليس شعو وحده من يطرح ماضيه وسوابقه العدلية أسئلة أخلاقية على رئيس البرلمان، وإنما هناك «شلة» من البرلمانيين الذين يحملون الجنسيات الأجنبية، خصوصا الهولندية، سبق أن حكم عليهم في هولندا بالسجن، ومع ذلك يتمتعون بمزايا الحصانة البرلمانية. واحد بينهم اسمه عبد الهادي أوراغ، برلماني من تازة، اكتشفت الحكومة الهولندية أنه يتقاضى تعويضات الضمان الاجتماعي مع أنه يعيش في المغرب ويشتغل كبرلماني. وعندما سافر إلى هولندا استدعوه للتحقيق معه قرابة شهر، وبمجرد ما أفرج عنه من أجل استكمال التحقيق معه، غادر هولندا وعاد إلى المغرب «مشية بلا رجعة». إن المعركة الحقيقية للبرلمان ليست هي معركة رئاسته، بل معركة تطهيره من تجار المخدرات الذين سبق أن حصر عددهم بالمجلس عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي، عبد الهادي خيرات، في الثلث. جميل أن يطالب رئيس البرلمان بمحاسبته على أخطائه وأكاذيبه وشططه في استعمال السلطة التي يقول إن وزراء حزبه دفعوه إلى اقترافها. لكن هل يكمل المنصوري خيره ويعلن عن استقالته من رئاسة المجلس والأمانة العامة للحزب واعتزال السياسة بسبب هذه الأخطاء السياسية القاتلة؟ أشك في ذلك. لأن ما يحرك المنصوري ليس غيرته على الشرعية السياسية والوحدة الحزبية وصورة السياسة في هذه البلاد، بقدر ما تحركه غريزة يشترك فيها مع معظم السياسيين المغاربة، وهي الرغبة المجنونة في البقاء فوق كرسي السلطة أطول وقت ممكن. بقي شيء واحد مهم جدا تجب الإشارة إليه. لقد اتهم المنصوري واليا من ولاة وزارة الداخلية بالشطط في استعمال السلطة والوعد بالتدخل لصالح مرشح الأحرار بالمنطقة خلال الانتخابات. لعل أبسط شيء يجب على وزير الداخلية الجديد القيام به هو فتح تحقيق في هذا الاتهام لمعرفة مدى جديته. فالأمر يتعلق بالرجل الثالث في هرم السلطة بالمغرب يتهم ممثلا للملك في جهة فاس بولمان بالتعهد بتزوير الانتخابات. «ديرو غي هاذي والله يسامح فالشي لاخر». المساء 5 يناير 2009