من حي «درواكس» وكر الإجرام والإنحراف سطع نجم في سماء الشياطين كاد أن ينحرف لولا إيثار الأصدقاء عانى الفقر والتهميش وغادر المدرسة وهو صغير هي قصة مثيرة ومشوقة تلك التي عاشها الأسد الصغير المهدي كارسيلا بين أحضان الفقر والبؤس بالأحياء الهامشية ببلجيكا، قصة كالتي عاشها أغلب النجوم الذين انطلقوا من الصفر في رحلة عذاب ملأى بمحطات التوقف الإضطرارية وطريق حبلى بالعراقيل والأشواك ليصلوا في النهاية إلى بر الأمان والشهرة والأموال، كارسيلا سار على خطى رونالدنيهو وزيدان وكريستيانو ورونالدو الذين جربوا العذاب والمحن وتمردوا على وضعهم الإجتماعي العسير وتغلبوا على الظلم والإقصاء والتهميش في ملعب الحياة. مجلة «سبورفوت ماغازين البلجيكية» فتحت صفحات واحد من أفضل مائة موهبة بالعالم، شاب واعد، خجول ومتواضع جعل من التحدي عنوانا لحياته. هروب العائلة من بطش فرانكو نحو بلجيكا تنحدر عائلة كارسيلا غونزاليس من إسبانيا وبالضبط من الأندلس، قهرها البطش والطغيان فقررت الهروب بعيدا عن جبروت فرانكو، حط فرانسيسكو كارسيلا الرحال بمدينة لييج البلجيكية أواخر الخمسينيات من القرن الماضي واندمج سريعا مع سكانها وأعجب بجمالها ونمط الحياة بهذه المدينة المختصة في استقبال المهاجرين، يقول فرانسيسكو أب المهدي: «أنا مجنون بلييج، وجدت عملاً وأشعر براحة هنا، الحياة جميلة وفاتنة بهذه المدينة عكس بروكسيل المملة والمظلمة». عاش الأب وحيدا في منزل وسط لييج وبعد الزواج من نجاة وإنجاب المهدي يوم 1 يوليوز 1989 تغيرت حياة الأسرة المهاجرة، وشاءت الظروف أن تنتقل من حي «مادلين» وسطا إلى حي «درواكس» شمالا المعروف بسوء سمعته، وهنا سيكتب للمهدي أن يفتح عينيه على عالم مليء بالشر والإجرام والمخدرات. حي «درواكس» قنبلة موقوتة بسماء لييج هو أحد أكبر الأحياء الهامشية ببلجيكا وأخطرها بمدينة لييج، تجمع سكاني كبير يجمع الأسر المهاجرة والمهاجرين السريين الذين يعانون الإقصاء وظلم أصحاب الدار، حي «درواكس» يشبه إلى حد كبير الأحياء الهامشية بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث الدعارة والإجرام والمخدرات، اللغة المتداولة لأبناء الحي، يتمتع حي كارسيلا الجديد بسمعة سيئة بالمدينة، فهو مرتع للظلال والإنحراف وعنوان للتشرد والسرقة ومدرسة نشيطة كثيرا ما أرسلت خريجيها إلى السجن. شاء قدر المهدي أنه انتقل ليعيش رفقة العائلة بهذا الحي وهو في سن الثالثة، تربى مع أبنائه وصار يحمل صفة «إبن درواكس» التي تقزمه وتحرمه من الإندماج مع المحيط الخارجي وتجعل منه هدفا للعنصرية والتهميش وإقصاء المجتمع، إلا أنه فخور بانتمائه وأصدقائه السجناء الذين ما يزالوا وراء القضبان إلى حد الساعة. معاناة الطفولة وانحراف على الأبواب عانى المهدي من قساوة المجتمع البلجيكي ونظرته الدونية للمهاجرين وأبناء حيه على الخصوص، يقول كارسيلا: «كشباب لم نتلق المساعدة والتوجيه والدعم الكافي، كانوا يضعوننا على الهامش وكنا نحس الإقصاء، ما جعلنا نحمل الحقد والكراهية للمجتمع، والأكثر من ذلك مجموعة من الآباء لا يجيدون التكلم بالفرنسية ولم يقوموا بتربية أولادهم، أغلبهم عجز عن الإهتمام بمشاكل وأمور أبنائهم الذين كانوا يتجاوزون عدد الثمانية في بعض الأسر». تدرج المهدي بأقسام «درواكس» في مدرسة الحياة وعاشر مجموعة من الأصدقاء أكبر منه سنا وأخطر أفعالا، فالعديد منهم كانوا زبناء نشيطين لمخافر الشرطة بتهم كالسرقة والإتجار في المخدرات ونهب أموال الغير والتهديد بالقتل، ولأن المهدي كان طفلا صغيرا بين مراهقين وشباب ظالين فلحسن حظه أنه كان يحظى بمعاملة خاصة ودلل وحماية من هؤلاء، فقد منع لمرات عديدة من دخول المنزل بعدما تجاوز الثامنة مساء، وحرص الأخ آدام والأخت الصغيرة إيزا والأم وأفراد من العائلة على مراقبته من خطر الإنحراف والإنزلاق نحو حافة التطرف، يقول سليم الصديق المقرب من المهدي: «إنه إنسان طيب ورجل ثقة، يمكنني أن أضحي بحياتي من أجله». لم يكن الطفل الصغير مهتما بالدراسة وغادرها وهو صغير السن ليتعلم أبجديات الحروف في الميدان بعيدا عن طاولات الأقسام، وليتجه نحو طفولة فارغة المحتوى ملأى بالتحديات وعسيرة العيش. إنطلق الفتى في رحلة الألف ميل بلا قوت ولا زاد، وسرعان ما وجد نفسه في مفترق الطرق بعد مرض معيل الأسرة الأول وطلاق الأبوين، ما فتح باب التشرد في وجه الطفل البريء، يقول فرانسيسكو والده: «لم أتركه لينحرف، كنت أعرف خطورة الحي والمشاكل التي يمكن أن يواجهها، أردت أن أوجهه لممارسة الرياضة حتى يبتعد عن فوهة الإنحراف والظلال، خصوصا أنه كان يلعب كرة القدم وهو المنفذ الوحيد لنجاحه، لكن ومنذ 7 سنوات تقريبا واجهت مشاكل صحية وعجزت عن العمل بعدما كنت نشيطا، طلقت نجاة أم المهدي وهنا انزلق قليلا عن السكة الصحيحة بعدما لم أقو على تتبعه». أخذ الإبن جزءا من المسؤولية وصار أكثر تطلعا للنجاح وبناء المستقبل بعد طيش الطفولة، وساهمت صرامة الأم والأقارب في الحد من تمادي المهدي في مصاحبة رفاق السوء، فانضبط الشاب وداوم على لعب الكرة بملعب الحي وإفراز الموهبة وكسب تعاطف الكبير والصغير لإنقاذ صاحب اليسرى الساحرة من الضياع وإلحاقه بإحدى مدارس اللعبة بالمدينة. يسرى ساحرة وستاندار تنادي منذ إنتقال المهدي للحي الجديد «درواكس» في سن الثالثة وهو يداعب الكرة رفقة أبناء جيله، أظهر الصبي مقومات البطل ومؤهلات تقنية كانت تضاهي ما يملكه الكبار من تقنيات، يقول سليم: «عندما يضع الكرة بين قدميه يشكل خطورة كبيرة، إنه سريع جدا ويحب المساحات الصغيرة، كنا نلعب بجميع الأماكن: الشقة، الملعب، مرآب السيارات..». وفي سن الخامسة إلتحق بمدرسة ستاندار دو لييج، كافح الأب وضحى بالكثير لتسجيل إبنه بالفئات الصغرى للفريق رغم غلاء التكلفة، يقول فرانسيسكو: «كنت أشتغل وأقوم بأعمال إضافية لتغطية المصاريف، لم يكن هينا تسجيله بستاندار، فالتكلفة كانت تصل إلى 200 أورو للسنة، وأعوام عديدة بحثت عن طرق جانبية لتأدية المبلغ، وأثناء التداريب كنت أذهب معه وأبقى اليوم بأكمله أنتظره لأنه ليس لدي المال الكافي للبنزين للرجوع إلى البيت مرتين، وحتى في سفره خارج المدينة كنت أذهب مع بعض الآباء لتتبعه». أخوه آدم 20 سنة يرى فيه الأمل والقدوة بالبيت والحي: «لم يضايقني اهتمام أبواي بالمهدي أكثر مني، بالعكس أنا فخور به وبما يحققه، إذا نجح وحقق ما يصبو إليه فكأنني أنا الناجح». كان المهدي يتمتع باحترام وإعجاب الجميع بمن فيهم اللصوص والمجرمين، يقول مصطفى صديقه: «عندما كان كبار الحي ينزلون إلى الملعب للعب، وحده المهدي (9 سنوات) من كان يسمح له بالبقاء وخوض المقابلة معنا، مؤهلاته وعصبيته تفوقت علينا في العديد من المرات، إنه لا يُهزم ويسراه سحرت الجميع». بمركز تكوين نادي ستاندار أبان كارسيلا عن حب جنوني للكرة والتعليم، كان شديد التنافس مع زملائه ولا يرضى بالهزيمة خصوصا أنه قادم من حي شعبي هامشي ويتدرب مع أبناء بلجيكيين أغنياء، طبع على سلوكه في البداية بعض العنف والحقد واللاإحترام وهذا طبيعي لتربية الطفل في حي «درواكس» الساخط على المجتمع، يقول فيليب دالمان مدرب المهدي بالفئات الصغرى: «كان متعنتا وقليل الإحترام أحيانا، لكن ما بين 15 و18 سنة استطعنا تأطيره وأصبح يعرف بأن كرة القدم مهنته رغم أن هذا حدث متأخرا مقارنة مع باقي اللاعبين».. ويضيف: «عندما تأتي من حي «كدرواكس» الهامشي شيء طبيعي أن تواجه بعض المصاعب ولا تجد يد المساعدة من الآخرين والجميع يحاول تفاديك لأنك تشكل خطرا بالنسبة إليهم، لكن المهدي شاب طيب وصاحب قلب كبير ولا تنطبق عليه صفات المنحرفين». هذا واستطاع الشاب التأقلم مع حياته الجديدة في عالم الجدية والإنضباط والتداريب والطموح لبلوغ النجومية، وأصبح إسم المهدي كارسيلا نموذجا لأبناء الحي وقدوة ومفخرة لسكان المدينة بأكملها. كارسيلا الإنسان منذ صغره وهو يحظى باحترام ومكانة خاصة، وبعدما تغير مجرى حياته نحو الشهرة والنجومية صار أكثر شأنا من ذي قبل، يشكل رمز الحي الميؤوس منه وقدوة للشباب الناشئ، يرى فيه الأصدقاء والمقربون، الفتى الوحيد الذي نجا من مخالب التطرف والإنحراف ليرسم لنفسه طريق الإبداع وليمرر لأقرانه أن التحدي والجدية والتفاؤل أهم المقومات لبلوغ المتمنيات، رغم شهرته الكبيرة حاليا ببلجيكا وأوروبا إلا أنه دائم التواصل مع أصدقائه ويزور حيه السابق باستمرار، يقول آدم شقيقه: «اليوم جميع الأطفال يرتدون قميص كارسيلا، إنه لشيء مفرح رؤية شاب نشأ بيننا قد عرف طريق النجاح، إنه مؤثر للأجيال الصاعدة».. ويتابع: «الجميع يحبه هنا، يمكنه أن يصبح رئيسا لدرواكس».