بلاد ما وراء البحر ولدت صيف عام أعجف في مدينة متوسطية يحمل أهلها جينات مازيغ ممزوجة مع جينات القرطاج والفينيقيين والإيبيريين و غير قليل من كروموزومات بني أمية، لكن مدينتي الثرية جينيا هذه كانت فقيرة – على غناها- إلا من (التراباندو) وأكياس البلاستيك السوداء وكثير من الغبار الذي يثار لأدنى حركة رياح، تماما كمزاج أهلها المتقلب والمستثار دائما. في صباي لعبت مع أترابي مئات الألعاب وتسلقت كالنسناس عشرات الأشجار وسقطت من إحداها وأغمي علي، لكنني استيقظت على إيقاع نفس الثلاثية: (التراباندو) والأكياس السوداء والغبار.. فما بعد الغيبوبة يشبه تماما ما قبلها ولا جديد تحت الشمس، على الأقل شمسنا. ولجت المدرسة كمستمع لا أفقه كثيرا مما يقول المدرس السمين من وراء مكتبه العتيق،الذي لا يغادره إلا ليضرب أحد الضحايا من التلاميذ المشاغبين، ووقع مالم يكن في الحسبان فنجحت في نهاية السنة الدراسية، رغم أنني لم أكتب جملة واحدة ولم أحمل دفترا ولا قلما ولا كتابا.. وثبت أنه ليس كل من لم يجد لم ينجح!! إلا أن ثلاثية مدينتي الرائعة لم تتخلف أبدا فبقيت وفية لمبادئها الوجودية الرئيسية: (التراباندو) والأكياس السوداء و(لعجاجة) .. رغم أنني أصبحت من حاملي الشهادات...الإبتدائية على الأقل. في طريقي إلى الإعدادية لازمتني الثلاثية المشؤومة: سيارات التهريب تجوب الطرق الرئيسية والفرعية، قبالة بوابة الإعدادية، وخلف صور المؤسسة، سواد الأكياس يملأ كل الأفق الممتد بين عتبة باب بيتنا و باب الإعدادية، أما الغبار فيقبلك بين شفتيك رغما عنك ويغتصب منك الرؤية ويجعلك طوال الوقت تهرش شعرك كالأبله بينما ينهمك الأستاذ في شرح درس المحافظة على البيئة من مقرر التربية الوطنية. في الثانوية كتب علي كما كتب على غيري من رفاقي الذكور أن ألتحق بمؤسسة (المطار) الذي ليس بمطار.كان معنى ذلك عذابا حقيقيا ، ركبت (الطوبيس) لأول مرة في حياتي، وسقت الدراجة لأول مرة في حياتي ووضعت ( الجيل) على شعري الذي كان شعري، لأول مرة في حياتي، لكنني استمتعت بمزيد من مظاهر (الترابندو) وسوداوية البلاستيك وقبلات الغبار الحارة، لكن ليس لأول مرة في حياتي!! في مرحلة الجامعة كنت ألعب لعبة الفراق الذي يتيح المقارنة كما قال الحكيم الروماني قديما : ( إذا كنت تريد معرفة قيمة شيء بالنسبة إليك فامنح لنفسك مسافة كافية بعيدا عنه)، كنت عندما أعود من رحلة الشقاء والشغب في الجامعة أحاول أن أتلمس ملامح التغير في مدينتنا غير المقدسة، لكنني – في كل مرة أخوض فيها مغامرة المقارنة كانت عين النظر ترتد إلي حسيرة ، ويصرخ في داخلي عفريت الحقيقة: أحجم يا مسكين فليس في جبة القرية الظالم أهلها إلا ما قد علمت، (التراباندو) وغربان البلاستيك و(للالعجاجة) المغناجة!! أوضاع كثيرة كانت تتغير.. يغتني أناس ويفتقر آخرون . يغير أقوام جلودهم كالأفاعي فينتقلون من المعارضة إلى الموافقة، أو العكس حسب ما تقتضيه موضة السياسة ينقلب آخرون على مواقفهم السابقة ليعتنقوا مواقف كانت بالأمس القريب هي عين الخيانة في نظرهم، ليس من باب النقد الذاتي ولكن من باب ذات النقد(أي الدرهم) أو المنصب تغلق مكتبة هنا وتفتح سبع مقاه هنا وهنا وهنا وهناك أيضا مثله معه.. يصبح معلمو التعليم الإبتدائي علماء شريعة دون أن تعرف لهم مسيرة طلب للعلم ولا تتلمذ على شيوخ علماء فيتربعون في مجلس علمي فيه كل شيء إلا العلم ، فقط لأنهم يستعرضون قوة حبالهم الصوتية على المنابرالجمعية والرمضانية ظانين أنهم في فصل دراسي للسنة الرابعة أساسي يلقنون فيه المبتدئين مبادئ حسن السير والسلوك يتبوء تجار الخضر بالجملة مقاعد الفتوى والدعوة والإرشاد يكفر ويخون قوم أصدقاءهم بالأمس لأنه لا أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين ولكن مصالح شخصية دائمة... تجري الإنتخابات في صناديق زجاجية شفافة ليتم هندستها في حواسيب إلكترونية غير شفافة بعد أن كانت- في الماضي الغابر- تسرق الصناديق الخشبية من مكاتب التصويت لصالح من كتب له التفويت.. كل هذا ومثله معه حصل ويحصل في مدينتي ،ولكن الذي لا يحصل أبدا أن تتخلى قلعتنا غير المحصنة عن مثلثها البرمودي المشؤوم. بعد التخرج العظيم كنت على موعد -كغيري من أنصاف المتعلمين الكمل- مع البطالة الكبرى، فالكوجيطو المغربي لا يتخلف أبدا ( أنا مجاز إذن أنا عاطل) أو على طريقة الفيلسوف المغربي ( طه عبد الرحمن) في الترجمة ( تخرج تتعطل)، فكان الخلاص في بورصة (الترابندو) الوطنية،فساهمت مدة عام بمال استدنته فكنت من المدحضين لأن بورصة التهريب تخضع لنفس قانون بورصة المال والأعمال وهو ( التيبورو يلتهم البوقرونيس) وكدت مرتين أن أصبح معتقلا اقتصاديا بتهمة تخريب اقتصاد البلاد، والتي عقوبتها مخففة جدا لأنه ليس هناك اقتصاد في البلاد ولكن هناك إسراف وإتراف!! حل واحد كان علي أن أنتهجه وندمت إلى اليوم أنني لم أتنبه له وهو الترشح لانتخابات المجلس الموقر.. وعلى العموم فلو فعلت لفشلت أيضا لأن النجاح في مغامرة بذلك الشكل في مدينتنا البرمودية يخضع لنفس قانون بورصة (الترابندو) الوطنية المشار إليه أعلاه، فليراجع في محله. وبيت القصيد في الحكاية كلها أنني ساهمت بقدر لا يستهان به في استنزاف ما يسمى بالإقتصاد الوطني وكذلك فيما يتعلق بضخ بضع مئات من( الميكا) السوداء في مزابل المدينة الشهباء مما كنا نغلف به أو نحمل فيه السلع والبضائع المهربة في وضح النهار،لكنني – والله على ما أقول شهيد – لست مسؤولا -بالبت والمطلق -عن موجة الغبار الأسود والأبيض والرمادي التي تجتاح مدينتنا في كل الفصول الأربعة، وهذا الذي يستطيع إثباته قسم الشؤون البيئية في المجلس البلدي بكل سهولة بالإستعانة بخبرات (النازا) الأمريكية، وهذا سيكلل حتما بالنجاح لأن تجربة الإستعانة بالأجانب في جمع وتصريف نفايات مدينتنا النقية جدا وجدا وجدا قد كانت مذهلة إلى حد أننا أصبنا باضطراب الرؤيا الذي يصيب أهل الصحراء القاحلة عندما تسقط عليهم الثلوج!! أيها المتورطون في قراءة هذا المانيفستو التاريخي: فجأة أصبحت معلما، بتعبير آخر انتقلت من ميدان تهريب (الروز) و(الشعرية) و(الصباغيتي) و(التون) و(الماروخا) إلى تهريب الأفكار والمعلومات إلى عقول بيضاء كالصفائح و دفق المشاعر و القيم والعواطف في قلوب فطرية كالصحائف ،ولأنني كنت صاحب تجربة سابقة في تهريب السلع والترويج لها فقد نجحت بسهولة في تسريب ما لا يحصى من ماركات المعلومات غير محفوظة الحقوق في مختلف فروع المعرفة إلى فصوص أدمغة التلاميذ اليمنى وفي بعض الأحيان اليسرى أيضا!! ولكن – وهنا تكمن أزمة التعليم في بلادي – لن تستطيع عملية التشكيل العقلي والعاطفي هذه محو صبغة هذه المدينة المكروبة المثلثة لأنها أصبحت جزءا من هويتها ، إن لم تكن هي ذاتها الهوية الوحيدة... وجاء يوم الخروج العظيم. سمه الهروب إذا شئت لكنه لم يكن جبنا قط، فلو علمت ما يعانيه الهاربون إلى الضفة الأخرى قبل الخروج وأثناءه وبعده، لتضاءلت عندك شجاعة ( تاكفاريناس) في ثورته على الرومان، ولكان إحراق طارق لسفنه كما تحكي الأسطورة، مجرد لعبة..فهو على الأقل كان بين جيشه وتحت ظلال سيوفهم، متيقن أنه سينال إحدى الحسنيين الشهادة أو النصر . أما الفاتحون الجدد فهم مهزومون في كل الأحوال فإما يلقى عليهم القبض فيرموا في سجن صغير أو ينجحون في التسلل فيعيشوا ما شاء الله لهم في سجن كبير مطاردين معزولين كالمجاذيم شق لهم حائل وآخر مائل كما قال الجاحظ قديما. لبثت خارج مدينة الثقب الأسود، عاما وازددت تسعة أشهر،لم يشدني الحنين إلى قليل ولا كثير من معالمها فلم أعرف لها غير ما ذكرته لكم من المعالم المشؤومة الثلاثة، لكنني اشتقت إلى ثلة رجال ونساء وصبيان لو أنفقت كل ما في الأرض ما ابتعت مثلهم، الواحد منهم يعدل أمة كاملة من البؤساء الذين يعيشون وراء البحر.. امتطيت صهوة كتلة الحديد التي تطير في الهواء وجئت على قدر وكان في انتظاري – كما توقعت تماما- أربعة مرحبين: ثلاثة تعرفونهم ورابعهم ممثل عن المخزن أراد أن يأخذ مني تصريحا مخزنيا تذكرت على إثره الرواية الفلسفية ( عالم صوفي) : من أنت؟ وماذا تريد؟ ومن أين جاء العالم؟!) طبعا كانت إجاباتي كلها خاطئة ولكن ذلك لا يهم كثيرا ما دمت قد أصبحت من العملة المقيمة بالخارج، فالعملة تجب ما قبلها!! مرت أربع سنوات عجاف على العودة الأولى، كانت مشاهدة القناة المغربية عبر الصحن السماوي تقدم اغتيالا حقيقيا للنظرة السوداوية التي احتفظت بها عن مدينتي المثلثة: إصلاح وتشييد ومرافق ومؤسسات وتنمية بشرية وحجرية، كل ذلك قدم إغراء مثلثا للزيارة ومشاركة القوم أفراحهم بالولادة الجديدة، وكم كانت الخيبة قاسية ومفجعة: مدينة مثقوبة ووعي مثقوب ويبقى الوضع على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء إلى( الفلوكا) أو ( المقاهي) أو ( الترشح للإنتخابات) ومن لم يستطع فليكتف بالتصويت فهو أضعف الإيمان!!