هل هو نزوع نحو التخلص من ظلم المركزية وسلبياتها وما جنته على المنطقة من تأخر وتخلف وتهميش ..والشروع في مسلسل للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..يسارع فيه الجميع بالريف فرادى وجماعات ، أحزاب وجمعيات ومنظمات.. للتعاون والتنسيق والتشارك ليعود ذلك بالنفع على المنطقة ويشع على باقي مناطق المغرب ؟ إذا كان هذا هو المنطلق وهذه هي الغاية من المطالبة بالحكم الذاتي للريف ، فنعما هي من مطالبة ، ولن تجد إلا الترحيب والتنويه من كل غيور على الريف وأهله. لكن ألا ينبغي أولا أن نتساءل عن شروط هذه المطالبة وعن الظروف والأجواء العامة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تندرج فيها ، هل هي مناسبة ؟ هل هي ناضجة ومواتية ؟ هل أخذت ” الحركة من أجل الحكم الذاتي ” صاحبة المبادرة الوقت الكافي لدراسة المشروع ، من حيث التخطيط والإعداد والصياغة والإشراك الكامل والفعلي لكل ذوي الاهتمام بالشأن العام على المستوى المحلي ؟ هل استغرقت في قراءة الوضع السياسي للمنطقة ولعموم البلاد ،وما يتيحه من فرص وإمكانات حقيقة لمثل هذه المطالبة ؟ هل تحسست الحركة الظرفية الاقتصادية التي تمر بها البلاد ونسبة النمو الاقتصادي وميزان الأداءات وحالة المبادلات التجارية مع الخارج ومدخرات الدولة من العملات الصعبة وعائدات الجالية المغربية في الخارج وانعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد الوطني ؟ هل استشرفت مستقبل المنطقة في ظل الحكم الذاتي وهي على هذه الحال من الحاجة والعوز والافتقار لكل مقومات منطقة الحكم الذاتي ؟ فالإمكانات الطبيعية والجغرافية ، وكما أشرت إلى ذلك من قبل ، لا تكفي لوحدها لأجل ضمان الاستمرار والبقاء لأي إقليم مهما كان غنيا. الريف مازال يفتقر إلى كثير من شروط ومؤهلات إي إقلاع تنموي اقتصادي وسياسي واجتماعي. فالدولة رغم إمكاناتها منذ ” الاستقلال ” وبعد الالتفات الواضح نحو هذه المنطقة خلال العقد الأخير ، لم تتمكن بعد من تجاوز الوضع الهش للمنطقة على كل المستويات ، فكيف لحكومة محلية أن تضطلع بهذه المهمة بمواردها الذاتية ؟ أنا لست هنا بصدد رفض المطالبة بحكم ذاتي للريف من حيث المبدأ ، وقد وضحت رأيي في الأمر قبل هذا . لكن أرى انه من الحكمة والمسؤولية أن يؤجل طرح هذه المطالبة لعلتين تكتنفانها،أوردهما على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فإن مستلزمات المطالبة بمشروع بهذه الأهمية والحساسية كثيرة . 1 – ظروف غير ناضجة : العلة الأولى أجدها في عدم نضج الظروف والمناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغرب عموما وفي المنطقة بالريف بوجه خاص. فمن الناحية السياسية مازال المغرب لم يدشن بعد تجربة ديمقراطية حقيقية وناجحة تعكس اختيار وإرادة الشعب ، وتقطع مع مظاهر الاستبداد والاستئثار بالحكم . وهي التجربة التي في حالة نجاحها قد تشكل أساسا ودعامة لمثل هذه المطالبة بالاستقلال الذاتي لريف. فالنظام الذي مازال يحتكر السلطة ويرفض أي تقاسم أو إشراك في مظاهرها ورموزها ، لا يمكن أن يقبل بأي تنازل مهما كانت درجته . ومن جهة أخرى ، لم يسهم الفاعلون السياسيون من أحزاب ومنظمات في إنجاح التجربة الديمقراطية بالمغرب ، ويبدو أنهم رضوا وقبلوا ببعض الحظوة والامتيازات والمكاسب…على حساب المصلحة العامة ، وهي بالتالي لا تبدو أنها مستعدة للانخراط في أية تجربة للحكم الذاتي في المغرب قد تعكر صفو ما تخطط له وتسعى إلى تحقيقه في خضم الوضع الراهن. كما لا يجب أن يغيب عنا استحقاق آخر يبدو المغرب منشغل به ، وهو طرح فكرة الحكم الذاتي بأقاليم الصحراء الغربية على المنتظم الدولي كحل لإنهاء أزمة عمرت أربعة عقود أو تكاد. هذا على المستوى المركزي . أما محليا ، فلا يظهر المعطى السياسي ناضجا ولا مهيئا بالمرة نتيجة للوضع العام بالبلاد من جهة ، ومن جهة أخرى نظرا لغياب الثقافة والوعي السياسيين بالريف إلا فيما ندر . ولعل نتائج الانتخابات ونسبة المشاركة والمجالس التي تفرزها نتائجها خير دليل على العجز السياسي بالمنطقة. أنا لا اتحد ث عن النضج السياسي لأهل الريف ، لكن أتحدث عن حصيلة العملية السياسية الانتخابية بالتحديد . فنضج أهل الريف ، ووعيهم السياسي ، وإدراكهم لحقيقة اللعبة السياسية ، ومعرفتهم بالتزوير والاستخدام الفاحش للمال في تحديد النتائج النهائية لأي استحقاق انتخابي .. هو الذي فتح المجال أمام المتاجرين بالسياسة ليتربعوا على مناصب تدبير الشأن العام بالمنطقة. لذلك تجد أن أغلب المثقفين والشرفاء يمتنعون عن تلطيخ أنفسهم بهذه المشاركة الانتخابية ويفضلون مشاركة سياسية من نوع أرقى وهي المقاطعة ، بل وأكثر من ذلك اللامبالاة ..باعتبار أن ما يجري أثناء الحملات الانتخابية عبث وبالتالي فإنه من غير الجدوى الاهتمام به . وهذا لعمري قمة النضج السياسي في ظروف كالتي يعيشها بلدنا وتعرفها منطقتنا. فنضج الظرف السياسي ليس مرتبطا بالوعي السياسي لدى الناخب بقدر ما هو مرتبط بالإرادة السياسية للحكام التي تحول دون السير قدما نحو دمقرطة العملية السياسية في كل تجلياتها . ويقترن البعد الحقوقي بالبعد السياسي في التنمية إلى حد كبير ، وقد أشار تقرير ” خمسون سنة من التنمية البشرية في المغرب ” بضرورة اعتبار المسألة الحقوقية و إيلاءها الأهمية القصوى في أي مجهود تنموي . ومن جهة أخرى تشير التقارير الدولية خاصة تلك التي تصدرها منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان عن تراجع الحريات العامة في المغرب كحرية تأسيس الجمعيات والتظاهر السلمي وحرية التعبير والصحافة حيث احتل المغرب المرتبة 127 من بين 175 دولة في التقرير الذي أصدرته منظمة “مراسلون بلا حدود” لسنة 2009 بخصوص وضعية الصحافة في العالم. وإذا تحولنا إلى المجال الاقتصادي ، فان الوضع ليس أحسن حالا من الجانب السياسي والحقوقي. فالمغرب مازال يعرف اقتصاد الريع ، واقتصاد الاستثناءات والامتيازات الخاصة بأصحاب النفوذ ومراكز القرار..فتبعا للاستثناءات السياسية لثلة من المغاربة ، تنساب المنح والرخص والأعطيات الاقتصادية لأقل من 20% من المغاربة ليتحكموا في مصير العباد والبلاد. ولان هذه الامتيازات يتمتع بها النافذون فيما عرف – ولا يزال – ” بالمغرب النافع ” ، فان المشاريع الاقتصادية والتنموية على جميع الأصعدة ستتركز ضمن حدود ونطاق هذا ” المغرب النافع ” وان تعدت تلك الحدود لتشمل باقي المناطق ومن ضمنها منطقتنا ، فان رخص المشاريع وعائداتها يجنيها أهل ” المغرب النافع ” وأهل المركز ، إما مباشرة أو من خلال بيع وتفويت الملك العام من جبال وشواطئ للمستثمر الأجنبي. وللمتتبع أن يلاحظ طبيعة وأصحاب المشاريع التي هي قيد الانجاز بمنطقتنا ليدرك حقيقة ما أقول.. أما الجانب الاجتماعي،فالوضع يزداد سوء سنة بعد أخرى . فإذا كان المغرب قد احتل المرتبة 126 في سلم التنمية البشرية سنة 2008 فقد احتل المرتبة 130دوليا سنة 2009 بعد كل من مصر المرتبة 123 والفيتنام 116 وفلسطين 110وسوريا 107 والجزائر 104 وتونس98 … ويعتمد مؤشر التنمية البشرية في رصد مستوى التنمية البشرية على مجموعة من المتغيرات كالتعليم والصحة ..وهما الميدانان اللذان يعرفان تراجعا كبيرا بالمغرب. في ظل هذه الظروف التي لا تبدو مناسبة ، فإن طرح فكرة الحكم الذاتي وعرضها على استفتاء شعبي بالمنطقة ، وهي أكثر المناطق المهمشة بالمغرب ، سيكون مآلها الفشل ، فضلا عن كون الناس يجهلون مفهوم الحكم الذاتي ولا يعلمون دلالاته ومقتضياته ، والكثير من الناس يخلطون بين الحكم الذاتي والانفصال. والاستفتاء لن يدعى إليه المثقفون فقط بل عموم المواطنين بالريف ، فماذا قد ننتظر من شعب لا يعلم على ماذا سيصوت ؟ إلا إذا كانت الحركة من أجل الحكم الذاتي بالريف تريد أن تكرس تجربة ومنطق الاستفتاءات التي عرفها المغرب ، وكان آخرها الاستفتاء حول تعديل الدستور في 1996..والتي دائما ما يكون فيها التصويت “ بنعم ” بنسب تقارب 99%. 2 – غياب الخطة والفريق . أما العلة الثانية التي تبرر تأجيل المطالبة بالحكم الذاتي للريف فتكمن في نظري في استعجال الحركة في النزول بهذا المشروع دون أن تستكمل شروط التوافق حول طرحه وإعداده وصياغته وتوقيت الإعلان عنه..وقد أشرت إلى هذه العلة باقتضاب في الحلقة الثانية من هذه المساهمة. فلكأني بالواقفين وراء هذه المطالبة يسارعون أحدا ، وينازعونه قدم السبق في طرح هذا المشروع ! أو لكأني بهم يهرولون ويهرعون خلف فرصة أرخت أمامهم برُمتها وأخذوا بتلابيبها قبل أن تنفلت ويسبقهم إليها غيرهم في الأطلس أو سوس! اعترف أني أجهل ما يدور في كواليس الحركة وما يجول في خلد أصحابها ، وأنا هنا أتحدث من وحي ما يعكسه مشروع الخطة الذي طرحته الحركة كأرضية لدستور مرتقب لمنطقة الحكم الذاتي بالريف. وجهلي بالحركة هو حال عموم المواطنين بالمنطقة ، لأن الحركة لا وجود لها في الشارع ، لا تتواصل ولا تشارك ولا تحاور .. لا مع عموم الناس ولا مع المهتمين بالشأن العام. الحركة تخاطب وتحاور نفسها ، وهي في ” مونولوج ” عقيم لا يكاد يبين حتى للقلة القليلة الملتفة حولها.. إن ما ترمي إليه الحركة قد يحدد مصير أزيد من 6 مليون مواطن يتوزعون على مساحة تقارب 30 ألف كيلومتر مربع، ولتحقيق هذا المبتغى لا بد من فتح نقاش موسع وعميق مع كل الفاعلين بالمنطقة. بدء من عرض الفكرة ، ومطارحة جدواها ، ومرورا بالنظر الجاد والمتأني في الظروف المحيطة محليا ووطنيا ، وكذلك دوليا ،ثم الانتقال إلى وضع الخطة العامة للمشروع والخطوات الإجرائية و .. و .. وتطول مراحل إعداد المشروع ..وانتهاء بعرضه على عموم أهل الريف في لقاءات وندوات ومهرجانات وموائد مستديرة هنا وهناك ، وأخذ وجمع كل المعطيات ووجهات النظر المختلفة والتعديلات المقترحة لتدمج في تقرير تركيبي ينبري له أهل الاختصاص..آنذاك يمكن أن نسمي ما قد تطرحه ” الحركة ” ” مشروع للحكم الذاتي للريف ” للحركة أجر وشرف سبق المبادرة في طرح الفكرة ، لكن كان عليها أن تكتفي بهذا الفضل وتدعو غيرها من الفاعلين ، والذين لهم اتصال وحضور شعبي حقيقي للانضمام إليها لبلورة هكذا مشروع . الحركة منقطعة ومقطوعة عن نبض الشارع بالريف ، وتسعى إلى فك الارتباط بالمركز في شكل حكم ذاتي والانقطاع عنه .. فأين سيجد أهل الريف هذا الرأس المدبر القائد المقطوع عن المحلي وعن المركز ليصله ويتواصل معه ؟ في السماء أم في برجه العاجي أم على صفحات الانترنيت أم في ندوات لا يحضرها أحد ..!؟ أعود مرة أخرى لأقول بأن الحركة كان لها شرف السبق ، وجرأة طرح فكرة الحكم الذاتي بالريف ، وحسبها ذلك..وليس عيبا ولا انتقاصا لها ولا من أصحابها إذا دعيت اليوم إلى إعادة النظرة والتفكير وطرح المشروع في سياق آخر وفي ظروف غير التي تمر منها المنطقة والدولة عموما. فالعبرة ليست بمن بدأ ، لكن العبرة بكيف نبدأ ومع من نبدأ ومتى نبدأ. الحركة لم تستعن لا بخطة ولا بمنهج عمل واضحين ، ولا بفريق عمل متكامل ولا بظرف وزمن عمل مناسبين ، فكيف نرتقب النجاح لعمل هذه هي شروطه ؟