تمّر سنة كاملة عن ذكرى دموية أليمة تأبى الذاكرة المشتركة أن تُدخلها طيَّ النسيان، وهي “ذكرى” سلخ قرابة مئة منضوٍ تحت لواء التنظيم المحلي للمعطلين بالناظور، حين كانوا في مثل هذا الشهر من العام الماضي بصدد تنفيذ شكل احتجاجي سلمي وحضاري جاء كحلقة مسترسلة ضمن سلسلة الأشكال النضالية التي انخرطت قواعد التنظيم في البَصْم عليها على غرار ما دأبت على خوضه كل دوائر المعطلين عبر العالم مغربه ومشرقه، بموجب أنها أبسط الحقوق المكفولة دستوريا لدى سائر الأمم ومنها المغرب الذي يتشدق ساسته بأول ما يتشدقون به من قبيل أننا قطعنا أشواطا مراطونية على درب الحريات (بين ألاف الأقواس) التي اِجترح المغرب توقّيعا على كافة وثائقها الأممية الضامنة لهذا الحق حتى يتمتع به بنو البشر عندنا، وبما أنّ الذي يسمع ليس كالذي يرى بأمّ العين، فإننا بإلقاء نظرة متأنية على مستوى الممارسة بعيدا عن الشفوي نكاد نشّك في ما إذا كان بلدنا قد وقّع بإسمه حقا على هذه الصيغ الدولية، الكفيلة بانضمام دولة تحترم مضامين إتفاقياتها إلى حظيرة الدول الديمقراطية، أم ختم عليها بطابع يحمل إسماً لكوكب شارد في فلك مجرة تائهة مفقودة للأبد. ففي مثل هذا الأسبوع من السنة الفائتة وبالضبط إبان ما عُرف حينها بالخميس الأسود، سيق حوالي المائة معطل إلى حيث المجزرة وكأنهم قطيع خرفان مُساقة إلى أقدارها بلا رحمة، حيث الجزارون في انتظار التناوب على سلخها واحدة تلو الأخرى، في مشهد داميٍّ مخزٍ تئن تحت وطأته أعتى الأفئدة قساوة وتندى له الأجبن، ولسوء الصدف أن القاعة العمومية التي اِحتوت مُعتصمَ المعطلين كانت مسيّجة عن آخرها إلى درجة لم يعثروا معها عن منفذ واحد وسط طوق أمني محكم الإغلاق يلوذون عبره بجلودهم لإطلاق سيقانهم للريح حتى تبتلعهم الزقاقات للنجاة بأرواحهم من “العلقة” كأضعف الإيمان، رغم أن الوقفة التي تلاحقت في أعقاب ذلك على الفور كما تؤرخ لذلك الكليشيهات الفوتوغرافية، بعد قيام المصابين آنذاك وقفة رجل واحد وهُمْ مضرجون بالدماء ومحنطون بالضمادات يترصدون الجلاد ذي الهراوات عن كثب، بأعين حزينة تغلى فيها أحاسيس جياشة فوق نار هادئة، في منظر يدعو السيكولوجيون المغاربة لدراسة مدخل حديث العهد ل”ظاهرة نفسية” جديدة آخذة في التبلور على أرض الواقع بغية الوقوف على حقيقة ما أضحى يؤدي إليه القمع من تداعيات خطيرة تقف وراء إكساب المواطن المغربي الحالي سيكولوجية غدت تنكسر أمامها أصلب الهراوات تماماً كسيكولوجية الإنسان المقهور، تؤكد لمن يجيد القراءة الميدانية طبعا، ثبات صمود المعطلين وسط المعارك النضالية وفي الميدان إلى آخر قطرة دم، وكما يبدو حتى تحقيق مطلبهم المشروع ولو تطلب الأمر يفيد لسان حالهم تقديم أنفسهم مشاريع شهداء جُدد على خطى رفاقهم وإخوانهم في الرضاعة من ثدي هموم العطالة وقسوة الوطن، غير أن ما يُخلفه القمع من شروخات لا تبرح، أقوى في الأنفس من شيء آخر. لقد رأى الجميع يوم الخميس الأسود الذي نأبى كمعطلين نسيانه التدخل الهستيري غير المبرّر لعناصر قوى الأمن الهمجي بالشكل الفج الذي كشرت فيه عن أنيابها وأبانت عن هيبة عضلاتها الأمنية إزاء معطلين لا حيلة لهم، فقط تجمعهم بهؤلاء حلبة جغرافية اسمها الوطن، أما وان كسب فوق رقعتها آنذاك أولئك الملاكمين من الوزن الثقيل جولة من جولات المعركة المفتوحة التي بدت من أيامئذ أنها سوف لن تنتهي في المنظورين القريب والبعيد، بحضور الشارع العام الذي بدا بمظهر ساخط تماماً، رافضاً التصفيق لانتصارهم الوهمي، فإن معظم المواطنين ممّن عاينوا سيناريو الرعب هذا عبر المُعاينة المباشرة، تمنّوا لو أنهم بادلوا عناصر قوات الأمن “التصرفيق” عوض التصفيق لهم وهم يبرزون عضلاتهم وأطقم أنيابهم بكاملها، ناهشة في أجساد أبناء وبنات الشعب بكل سادية ودموية بلغت فيها الوقاحة ببعضهم حدّ التفنن والإبداع في توجيه ضربات تحت الحزام وفوقه وفي كل مكان. لا شك اليوم أن أيّ معطل عايش تفاصيل مجزرة الخميس الأسود عندما يحاول جاهداً استعادة مشاهد ذات فيلم الرعب هذا ركيك الإخراج، من بطولة مزيفة لرجال أقل ما يقال عنهم أنهم مجرد أجساد فارغة من كل جوهر لا بد وأنه يشعر بالتقزز وبالرغبة في التقيؤ من جراء سلوك بدائي ضاربٍ في عمق تخلف القروسطى تنهجه السلطة سياسةً أكل عليها الزمن وشرب. وما يحزّ بالنفس حقا هو ما حدَّث به المغاربة أنفسهم بالأمس القريب، قبل ذلك بقليل، بحيث همس كل مواطن منا في أذن الآخر بأن الحكومة نصف الملتحية بالرغم ممّا يشاع عنها، ستأخذها الرأفة بأبناء الشعب الذين ذاقوا ذرعا من وطن يخاصمهم في اليوم أكثر من سبعة وعشرين ألف مرَّة في اللحظة التي يُمنّون بها ذواتهم بغد أفضل لهذا البلد الذي ما يزال يبدو أنه منذور للخيبة والهزائم دوما، في حين أن بنكيران مع توليه قيادة الحكومة متسلقاً إلى هرمها على أكتاف المواطنين الكادحين والمقهورين، لم يزد بالأحرى سوى ذرّ الملح على جراح الشباب العاطل في ظل بوادر لا تؤشر أنها ستندمل قريبا، خصوصا عندما يخرج سعادته بين الفينة والأخرى للإدلاء بتصريحات رسمية تتعلق بشأن الوظيفة العمومية كتلك التي أقسم فيها أغلظ الأيمان على ألا يلتحق أيّ من المعطلين إلى الوظيفة في أسلاك الدولة عن طريق الإدماج المباشر بينما من يعرف كون حكومته حكومة خطابات شعبوية وشعارات جوفاء دونما حصيلة تذكر للآن بعد مضي فترة مديدة كافية لاستشراف واقعها ومآلها، يعي جيداً أن لا شعبوية بنكيران ولا خطاباته غيّرتا شيئاً من الواقع الذي لا يرتفع ولو قيد أنملة، وما ملف الصحراويين المدمجين بأسلاك الوظيفة العمومية بلا إخضاعهم عبر شكليات المبارة وفق الطرح الحكومي الجديد المتعلق بهذه الباب إذا سلمنا به جدالاً، علاوة عن قضية المُعطلة المعروفة التي فجرت فضيحة تشغيلها عن طريق الوساطة بعد إحساسها بوخز الضمير حيال رفاقها المعطلين، وكذا أخيراً فضيحة تشغيل ابنة أخت والي أمن وجدة بمكتب وكالة مارتشيكا الذي فتح لها المسئولون الباب الخلفي لولوجها سرا من الرباطً بعيداً عن أعين معطلي الناظور في أفق تنقيلها إلى المدينة الأخيرة، إلا تأكيداً بارزا يوّرط رئيس الحكومة توريطاً صريحاً لا غبار عليهً. ومن ثم، فإن ما تعرضنا له كمعطلين، بالأمس، على مستوى موقعنا النضالي بالناظور وما يتعرض له رفاقنا بمدينة زايو، اليوم، بحيث تمّ اعتقال سبعة معطلين منضوين تحت لواء فرعها المحلي، الأمر الذي دفع بالمناسبة بساكنة المدينة إلى مؤازرة أبنائها المعتقلين عبر تنظيم مسيرات تنديدية تضامنية، ما أدى إلى عسكرة البلدة كما تشير إلى ذلك التقارير الصحفية، بعد انقضاء شهر العسل بين السلطة والمواطن على إثر تراجع مسلسل الحراك الشعبي وتقهقره نتيجة عوامل لا يتسع الحيّز هنا للإتيان على معالجتها، من سيناريو قمعي هستيري استخدمت فيه أشد وسائل الأذى الجسدي والشفهي لدى أجهزة الأمن، من هراوات وركلات وكذا سباب مهين وحاط بالكرامة إلى حدّ يخجل فيه المواطن من مغربيته، يرمي إلى التأكيد على أن السلطة لا تزال تنهج نفس أسلوب الحوار مع معطلي الوطن باللكمات لا الكلمات، مع أنَّ المعطلين لم يقترفوا ذنبا يستحقون عليه هذه “التربية” العقيمة التي تُعدّها لهم الدولة وفق نظرياتها المُبحرة في علم البيداغوجيا الهمجية المبنية على أسس “الزرواطة” والعصا لمن عصى، والتي هي بالمناسبة لا تنتج في المستقبل سوى نماذج انهزامية لمواطنين مشوهين خلقيا وأخلاقيا، بل كلّ جرمهم أنهم يحوزون شواهد دراسية هللّ لها ذويهم قبل أن يهللوّا لها هم أنفسهم، فرحاً بانفراج مصدر رزق آتٍ لا محالة بعد ضياع سنوات من عمر أبنائهم تحصيلا للدراسة بين مدرجات الجامعات بغية التتويج بوثيقة مختوم عليها بطابع الدولة الرسمي اِعترافاً بجدارتهم واستحقاقهم الذي يمتد جذوره لسنوات ولا يقاسُ بمباراة خجلى ما تلبث تطّل إلا لتغيب ردحا مديدا من الزمن. ومن السهل جداً علينا كمعطلين مغاربة التصريح جهراً بالرغبة في تجديد إقامة علاقة حبٍّ حميمية مع الوطن رغم غلظته وفظاظة لهجته، لكوننا في الأول والأخير أبناء هذا الوطن إذ لا فرز، و”في قلوبنا ينمو حبّ الوطن كما تنمو النباتات بين شقوق الصخر” يقول حيدر حيدر الروائي السوري الكبير في رائعته وليمة لأعشاب البحر، والحال أنَّ ما يلخص لدى المعطلين جوهر هذا الانتماء الوجداني لوطنهم ويكرِّس هوّيتهم المرتبطة به اِرتباطاً وثيقاً لا فكاك له، هو ذاك المتجسد بوضوح في شعار دراماتيكي معبّر ذي مغزى عميق تصدح به حناجرهم في كلِّ ربوع الوطن لتملأ أرجاءه من أقصاه إلى أقصاه دوياً إلى حد القشعريرة “ما أنا فوضوي، ما أنا إرهابي، أنا معطل”. وهل هناك تلخيص دقيق للقضية برمتها وبكل أبعادها أوجز من هذه الخلاصة المتمثلة في شعار؟ وعليه، فمن هنا إذن نستمد شرعية طرح السؤال الحارق لماذا يتّم انتهاج هذا التعاطي في التعامل مع “صوت” المعطل الذي ينبغي له وفق المقاربة الأمنية أن يتّم إخراسه وإعطابه بمختلف أساليب القمع والاعتقال، رغماً عن عدالة مطلبه كحقٍّ مكفول دستورياً وبإقرار المواثيق الدولية، بدلاً من التفكير في وضع إستراتيجية يتم وفقها الاعتماد على مقاربات اجتماعية صرفة تدعو إليها الضرورة وتمسّ إليها الحاجة في آن؟ ونحن بدورنا كمعطلين لا ننتظر إجابات بل نطّل على صحراء، فقط نطل على صحراء على حدّ قول الراحل محمود درويش. كان لزاما علينا قبل الخوض في أية محاولة للحديث عن واقع البطالة في المغرب لا تحيلنا إلا على ما يشبه الخطاب الغوغائي لأن الموضوع شائك ومعقد، أن نعترف مسبقا بأنها ليست قدرا محتوما سلّطه ربّ العباد على البلاد، بل هي باختصار شديد نتاج تراكم سياسي ماضوي فاشل، فاقد لأية إستراتيجية كفيلة من شأنها حلّ المعضلة من جذورها، ومن “أعراضها” الجانبية على سبيل الاستئناس لا الحصر بروز ما يطلق عليه باقتصاد الريع الذي تعطي عفونة رائحته منبعثة من الصحف في كلّ مرة وحين، لذا أضحى من سابع المستحيلات وجود خطاب وسط الساسة والمسئولين من شأنه إقناع المعطل بالتخلي عن “الاحتجاج” كوسيلة مشروعة والتراجع عن خيار النضال والاستماتة في الميدان بعدما مسّته هذه “السياسة” في حياته كلّها، على خلفية ما يعنيه استقرار العامل الاقتصادي في حياة كلّ فرد، واسألوا التاريخ تطلعكم دروسه عمّا يشكله الاقتصاد الذي كاد يُشعل الإنسان بسببه “قيامة” في الأرض قبل قيامة الله في السماء، خلال مراحل سابقة، بحيث فتحت أبواب “جهنم” على مصراعيها في كل بلدان المعسكرات الدولية الشرقي والغربي منه واكتوى الجميع بنيرانها وما تزال بعض دول العالم لحدّ الآن تعيش حدّة أثر انعكاساتها السلبية جراء الصراعات التاريخية من أجل لقمة العيش. وبناء على هذه اللمحة فأيُّ بديل بمستطاع المسئول تقديمه للمعطل من أجل مطالبته بالتنازل عن خيار النضال والصمود!؟ لا نريد جوابا إننا فقط نطلّ على تخوم صحراء مرة ثانية، أما جواب المعطلين يفيد لسان حالهم أنهم على درب النضال والصمود سائرون. وأمام بلوغ الأمور النفق المسدود، دعوني أقول بحقّ انطلاقا من رأيي الشخصي، إنه من الصعب بمكان الرمي إلى محاولة إقناع المعطلين بضرورة إيجاد بديل آخر لعطالتهم، ذلك في اعتقادي أن كل الخطابات تتكسر فوق صخرة واقعهم الصلبة وحتما لن تؤتي أكلها حتى ولو مع معطل واحد، فور الإنصات بكل آذان صاغية وحكيمة إلى صوته المبحوح من شدة المناجاة، ممَّا يستلزم على من في أيديهم ملف التشغيل داخل دواليب الحكومة الحالية الذين يكرسون لواقع الأزمة بنهج سياسة تنصلية مكشوفة باللعب على رهان الوقت، كورقة وحيدة لكسب المعركة لصالحهم والإجهاز على حقوق المعطل، إعادة النظر في مقارباتهم البدائية الموغلة في التخلف، ما دامت لم تثني من عزيمة المعطل، ومن وجهة نظر محايدة لا تحركها الخطابات الرنانة قد يُتفهم وضع الحكومة الحالية التي دخلت تقول في إحدى تصريحاتها على تراكمات ماضوية من الفساد قد يستدعي معها التدرّج في تقويم الاعوجاج بما يتطلبه ذلك من جدولة زمنية متباعدة الأسقف، وحتى على فرض إذا سلمنا على سبيل الاقتناع، إلا أنّ الأمر على المستوى العملي يستدعي بدوره في تقديري لزوم العمل على إعداد إستراتيجية موازية قد تتمثّل في مخطط ضمني على شاكلة برنامج استعجالي مماثل للسابق ولكن في صيغة أنجع بهدف استيعاب أفواج من المعطلين الواقفين بطابور الانتظار، وذلك امتصاصاً لحدة النزيف الشبابي المهول وللحدّ من استشراء الأزمة أكثر ممَّا هي عليها اليوم، ويكون ذلك ساريا على امتداد الأسقف الزمنية المفترض تحديدها تبعاً لأجندة الحكومة في أفق تحسّن الأداء الحكومي في التعاطي مع الملف، أفضل من إتباع سياسة الزرواطة. هامش المقال لا يتحدث باسم أحد من المعطلين، كما لا يعبر بالضرورة عن رأي تنظيم الجمعية الوطنية للمعطلين بالمغرب، إنه رأيي الشخصي لكوني معطلا أنا الآخر ولا غُرو من الإدلاء بوجهة نظري حول هذا الخصوص، هذه الصفة التي أعتبرها على غرار المئات من الرفاق والإخوة شارة فخر فوق صدر حاملها. عدا هذا فقد ضمّنت ما تقرؤون جملة أفكار بديهيٌّ جداً أن يختلف معي بشأنها الواحد في موضع ويتماهى في الاتفاق معي في موضع أخر، بالرغم ممّا قد ينجلي للقارئ من أن فقراته متنافرة بعض الشيء، ولكن من المؤكد ثمة خيط ناظم رفيع ينسجها ويجمعها في بوتقة واحدة ألا وهي إدانة السياسة التي تنظر إلينا كمعطلين من خلال ثقب “مقاربة القمع الأمنية” بشكل عام، بحيث حاولت قدر ما أمكن معالجتها من منطلق موضوعي، فيما تعرضت لمواضيع لم يكن يسعني المجال للوقوف عندها طويلا لتناولها بإسهاب من أجل إعطاء مفاهيم وأبجديات حولها، بسبب ضيق الحيّز ولسبب آخر سبق لي ذكره أنفا هو تشعبها وكذا شائكيتها، ولكن حتما سأعود إليها في وقت لاحق ضمن مقالات انتظروها.