المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلوم الإنسانية و فكر الاختلاف
نشر في أريفينو يوم 10 - 11 - 2012

” ليست الأنتروبولوجيا علما بدون طموح كما هو الشأن بالنسبة لعلم الفلك القائم على تأمل موضوعات بعيدة “.
كلود ليفي ستروس
تحيل كلمة شعب ، كما يبدو ، إلى التعدد والاختلاف في الوقت نفسه الذي يفهم منها الوحدة والهوية . وربما لذلك ، فلكي ينفلت الخطاب العلمي حول الشعب المنطلق من موقع علوم الانسان من النزعة الاختزالية ، التي تبلور حوله ( الشعب ) تصورا شموليا ، بسبب من أنها تدركه كقوة قابلة للاستثمار السياسي في المقام الأول ، فإن أقل ما يمكن أن يطلب هو أن يكون المتحدث عن الشعب مثقفا بثقافته ومتكلما لغته بل لغاته .
مما لا شك فيه أن المثقف المسكون بهاجس التغيير يرى في مثل هذا الطرح ميلا شعبويا يستدعي إعادة النظر والترفع ، والحال أن التوجه العام المفروض تفكيره بكل ما يكفي ويلزم من اليقظة والحذر المنهجيين هو منحى التهديم الذي دشنته العلوم الإنسانية بوصفها خطابا عن أناس لا يتكلمون ، ليس لأنهم لا يملكون قوة خطابية ، وإنما لأنهم أسكتوا بكل القوى وعلى رأسها القوة الخطابية للعلوم الانسانية وللأنتروبولوجيا تحديدا .من هنا تطرح مسالة مقاربة ثقافة الشعوب إشكالا نظريا لا يمكن استسهاله . فإذا كانت الفلسفة المؤسسة على فكر الاختلاف تعلمنا أن لكل شعب ثقافته الناتجة عن ممارساته الحياتية المختلفة ( الجنسية ، الإنتاجية ، الاجتماعية والثقافية اللغوية …) وإذا كانت الثقافات مختلفة ، فكيف يمكن استثمار الدرس المعرفي النظري للعلوم الإنسانية في مقاربة ثقافات الشعوب دون الوقوع في مطب الاختزال ؟ ثم ، ألا يستدعي هذا الحذر نوعا من النقد لمفاهيم ونظريات علم إنسانية يبدو أنها لم تتخلص تماما من جذورها الميتافيزيقية ؟
غير خاف أن المفكر المغربي عبد الله العروي ، الذي فكر قضايا مثل : التاريخ والمجتمع والأيديولوجيا والثقافة ، لم تغب عنه إشكالية العلاقة بين الجهاز المفاهيمي والنظري للعلوم الإنسانية والتاريخ الآخر . فهو القائل : ” إننا عندما نفكر نستعمل مفاهيم وصورا ونماذج هي كلها نابعة من واقع آخر غير واقعنا ، فإذا لم نقدم على نقد هذه المفاهيم والصور والنماذج سوف لن نكون على يقين من أننا نتحدث فعلا عن أنفسنا . ” (1) لكن هل كانت ممارسة العروي للعلوم الإنسانية ، مثل تفكيره ، قائمة فعلا على أساس من إدراك واضح لفكر الاختلاف ؟
لم يكن صاحب كتاب ” الأيديولوجية العربية المعاصرة ” في نظر مفكر مغربي آخر هو عبد الكبير الخطيبي سوى منظرا أيديولوجيا بالمعنى الذي يفيد كونه مثقفا مسكونا بهاجس بلورة مفهوم شمولي ، ومن ثمة اختزالي ، عن الشعب . فهو يدرك الشعب كقوة سياسية قابلة للاستثمار من أجل التغيير . ولعل هذا ما جعله ، حسب الخطيبي ، ” يرد التاريخ إلى شمولية ميتافيزيقية نسيجها الاستمرارية والعقلانية والنظام (…) من جهة أخرى يتيح العروي من حيث إنه يريد أن يغير التاريخ أساسا بقانون الاستمرارية ، يتيح للحركة الأخرى (أي تاريخ الشعوب والأمم الأخرى ) أن تتسرب بين الأصابع ، حركة الفرق ( الاختلاف ) واللا استمرارية . ” (2)
يقول العروي متسائلا ومستنكرا : ” منذ ثلاثة أرباع القرن يطرح العرب على أنفسهم سؤالا وحيدا : من الآخر ومن أنا ؟ ” (3) غير أن هذا السؤال الذي يعتبره العروي لاغيا ولا قيمة له بل ومتجاوز ، هو في نظر الخطيبي السؤال المركزي الملخص لدينامية المسألة الوجودية للكائن العربي . ولعل عدم انفلات الخطاب العلم إنساني عند العروي من المحددات النظرية للعلوم الانسانية الغربية من جهة وعدم الفرز الواضح بين ” الأنتروبولوجيا الثقافية وفكر الاختلاف ” (4) هو ما أنتج ما يمكن اعتباره ” تاريخانية معممة ” بمناسبة حديثه عن الأنا العربي ” المتأخر ثقافيا (عبارة للعروي ) والآخر الغربي المتقدم .
تتوارى هنا تلك اللحظة من الوعي بعلم التاريخ كترسانة نظرية وجهاز مفاهيمي من جهة والتاريخ (التواريخ ) كدينامية وجودية للإنسان كما ميز الخطيبي بين الإثنين . هل معنى هذا أن اليقظة الابستمولوجية إزاء المعرفة العلم إنسانية الغربية والتي لم تغب عن العروي في المنطلق توجد بصورة أكثر جذرية عند عبد الكبير الخطيبي ؟
إن العلوم الانسانية هي ، بمعنى ما ، وارثة الميتافيزيقا الغربية ذات الجذر الإغريقي المعروف . فالأيديولوجيا تسكنها كما يسكن الوجود اللغة على حد تعبير هايدغر . ولقد عبر جاك دريدا عن هذه المسألة حين قال : ” الإتنولوجيا ، ككل علم ، تتولد داخل عنصر الكتابة ، إنها أولا علم أروبي يستعمل مفهومات تقليدية وبالتالي ، سواء شاء الاتنولوجي أم أبى ، إذ لا يتعلق الأمر بقرار من طرفه ، فإنه يضم في كتابته مقدمات التمركز حول الذات في اللحظة نفسها التي يعلن فيها رفضه لها . ” (5) وفضلا عن الإدانة الصريحة للإتنولوجا ، يشير هذا القول إلى مسألة أساسية أخرى هي أن كل كتابة ، بما هي تناص وتداخل بين عدة نصوص ، فإنها تنزع نحو الشمولية كآلية لحجب عملية التحويل والنقل للجهاز المفاهيمي العلمي من ثقافة إلى أخرى .
يقول رولان بارت : ” وشيئا فشيئا أدرك كيف أن المشروع السيميولوجي الذي ساهمت فيه وما أزال ( قبل وفاته ) ظل حبيس مقولات الكلي التي تقعد كل مناهج الغرب منذ أرسطو (**) . كنت أفترض ببراءة وأنا أسائل بنية العلامات أن هذه البنية تبرهن على عمومية ما ، تؤكد على هوية لم تكن في العمق ، وبسبب المتن الذي اشتملت عليه ، إلا هوية الإنسان الثقافي لموطني . “(6) هل يمكن أن نقول بناء على هذا الاعتراف إن بارت كان ضحية النزعة الاختزالية للجهاز المفاهيمي الغربي ( الغرب المقصود هنا هو الغرب الثقافي ) القائم على شمولية واهمة تجعل رموز وعلامات الإنسان الأروبي رموزا وعلامات شمولية ؟
يمضي بارت في اعترافه ليقر بأن الخطيبي ، بأعماله السوسيولوجية هو الذي نبهه إلى الطابع الاختزالي للجهاز المفاهيمي الغربي . ذلك لأن ” ما يسائله الخطيبي هو إنسان شعبي كلية هذا الذي لا يتكلم إلا بهذه الأدلة (العلامات ) الخاصة به ويجد نفسه مغدورا من طرف الآخرين . ” (7) لقد ساعد الخطيبي إذن بارت ، بوصفه مفكرا غربيا ، على الخروج من دائرة الأنا الغربية التي تريد نفسها أنا كلية والحال أنها ليست إلا أنا جهوية . فهل لنا أن نقول إن الإنسان ” الثقافي ” اللاغربي لا يمكن فهمه على حقيقته بوضعه دون حذر داخل الأطر النظرية والمعرفية للعلوم الإنسانية ، بل لا بد من النظر إليه انطلاقا من رموزه وعلاماته ، إذ لا وجود لرموز وعلامات كلية ؟ وهل هذا هو معنى ومغزى عبارة ” الاختلاف غير القابل للمعالجة ” La différence intraitable ” في فكر الخطيبي ؟(***)
تقع ممارسة العلوم الانسانية في المجتمعات اللاغربية إذن تحت تأثير وهم التعميم والشمولية الذي كرسته العقلانية الكلاسيكية الغربية مما يجعل تاريخ هذه الثقافات والشعوب تاريخا مكبوتا أو مسكوتا عنه . غير أن القوة الكابتة لهذا التاريخ الآخر المختلف لا توجد فقط في ثنايا الخطاب العلمي الأنتروبولوجي الممهد والمصاحب للمشروع الاستعماري ، كما تؤكد الأنتروبولوجيا السياسية من خلال أعمال جورج بلاندييه G.Balandier وأيضا جون كوبنس J.Copans ، وإنما توجد أيضا في حديث المثقف المحلي عن الشعب سواء كان هذا الحديث مفعما أو غير مفعم بحماس التعبئة من أجل الثورة والتغيير وبخاصة في مرحلة العصر الذهبي لأيديولوجيا التغيير . فهو ، أي المثقف المحلي ” المعبر والمترجم عن مجموع نظري ومنهجي تكون في لغة وبلد آخرين يكاد لا يدرك في غالب الأحيان الجذر الفلسفي لهذا المجموع ونوعيته . “(8) مما يجعل مهمة إثبات الذات واسترداد القوة الخطابية للأنا اللاغربي تمر عبر إعادة التفكير في التاريخ والمعرفة بغاية الخروج من النظام المعرفي المؤسس السائد مع إعمال النقد والخلخلة لوهم المركز ، وذلك لأن ” أقوى سيطرة ( على مستوى المعرفة ) هي تلك التي تجعل المسيطر عليه يصل إلى الاعتقاد أو التفكير بأن نقطة ومركز وأصل كلامه هي نفس نقطة ومركز وأصل المسيطر . ” (9)
لبلوغ لحظة الوعي الجديدة المختلفة التي تأخذ على عاتقها مهمة تفكير المعرفة والتاريخ ” لا بالنسبة لمركز أو أصل ( الغرب) كما كنا نفعل من قبل ، ولكن بالنسبة لما يسميه عالم اجتماع مصري معروف ( أنور عبد الملك) عقلانية ذات متغيرات متعددة ” (10) ، لا مناص من استثمار الرؤية والمقاربة النيتشويتين ( نسبة إلى الفيلسوف نيتشه ) في تحطيم ميتافيزيقا الأصنام حتى تنقلنا لحظة الوعي الجديدة تلك إلى اختلاف وتعدد القوال والخطابات ، إذ ” ليس هناك قول بريء بل على كل قول أن يجيب بطريقته الخاصة عن شعلة الحياة . ” (11) لكن هل يعني تقويض المركز الاعتراف بالأطراف والهوامش فقط أم إعادة النظر في هذه الثنائية نفسها ؟
ظاهر للعيان أن العقل الغربي حين يشتغل على نفسه وعلى تاريخه ينتهي إلى تكوين نظريات مفسرة كلية وشمولية ( النظرية التطورية ، النظرية الماركسية ، التحليل النفسي …) وهو لا يقصر هذه النظريات على تفسر واقعه وتاريخه فحسب بل يسحبها على كل التاريخ ( التواريخ ). هنا يصبح التاريخ واحدا والواقع واحدا والعلم واحدا . وعوض التصدي بالنقد لهذا الاختزال النظري والمعرفي يعمد الممارس الأهلي أو المحلي لعلوم الإنسان إلى مسايرة هذا الاختزال ومجاراته . ولعل الخطيبي ، عندنا في المغرب ، هو أكثر المنتبهين إلى هذه المسألة فهو يقول : ” إننا بمعنى ما نتابع التهديم الذي بدأه الاستعمار وعلم الأجناس ( الإتنولوجيا ) . ” (12) أما حين يشتغل نفس العقل على الآخر كموضوع للعلم والمعرفة ، فإنه لا يصل إلا إلى بلورة مفاهيم ونظريات جزئية وهامشية ذات قوة تفسيرية محدودة ( نمط الإنتاج الأسيوي كمثال ) . وعلى الرغم من أن النظرية الماركسية تبدو هنا مهتمة بما سيطرح فيما بعد كخصوصية في مقابل الكونية ، فإن مفهوم الخصوصية بوصفه حاملا لمكونات مفهوم الاختلاف ليست الماركسية هي أصله النظري الأساسي . ذلك لأن الخطاب الماركسي يريد نفسه خطابا شموليا لا يشكل ” نمط الإنتاج الأسيوي ” داخله سوى هامشا ومجرد تفرع للوادي الكبير .
منذ إعلان روجي غارودي ، ” البنيوية فلسفة موت الإنسان ” والماركسيون يعتبرون البنيوية سجنا للتاريخ . وبما أن الانسان هو صانع التاريخ فهي إذن سجن للإنسان . غير أن الإلغاء البنيوي للتاريخ ( إذا كان هناك إلغاء أصلا ) هو إلغاء لضرب من التأريخ أو لتاريخانية محددة ترفد تاريخا خطيا شموليا من أجل إثبات ، في نفس الوقت وبالمقابل ، للتاريخ (التواريخ ) المذاب ، التاريخ المختلف ، تاريخ المجتمعات التي لم تكن تعتبر في الخطاب الأنتروبولوجي ما قبل البنيوي سوى بقايا وهوامش التاريخ الأم ، يجب التعجيل بإدماجها في صيرورة النموذج الكلي العام . بيد أن العقلانية الغربية كما تتبدى من خلال العلوم الانسانية ، إن كانت تريد نفسها عقلانية نموذجية أصلية كابتة للاختلاف وتنظر إلى الآخر باعتباره فرعا وهامشا تابعا ، فإن فكر الاختلاف النابع من صلب هذه العقلانية ذاتها ينقلب ضدها ويقوض مرتكزاتها النظرية القائمة على ميتافيزيقا الوحدة والكلية والمركز …
تغدو العقلانية الغربية ، وفق منطق هذا التحليل النقدي الداخلي ، منطق التفكيك الديريدي ( نسبة إلى الفيلسوف جاك دريدا ) ، مركزية وطرفية في نفس الوقت ، أصلية وفرعية ، كما تغدو العقلانيات أو ما تسميه هي باللاعقلانيات الأخرى ، متصلة بها ومنفصلة عنها في نفس الآن . ذلك لأن كل أصل هو أصل ونسخة في ذات الوقت ، هوية واختلاف . ففي البدء كان الفصل والانفصال . أما الأصل المطلق فهو التوحش كما يعلمنا نيتشه . إن الاختلاف ، بهذا المعنى ، هو انفصال والانفصال استمرار وبداية . إنه نفس الشيء وقد صار آخرا . إنه الهوية وقد صارت اختلافا أو ، بلغة التحليل النفسي ، “الهو ” المكبوت الذي ينفلت من عقاله باستمرار . ألا يمكن النظر إذن إلى كل تاريخ باعتباره يمثل ” الحركة اللامتناهية بين الذاتية ( الهوية ) والاختلاف ” ، الوحدة والتعدد ؟ ألم تعلمنا ” التاوية ” أن : المركز المشروخ ، المثقوب ، هو وحده المركز الإيجابي ؟ ذلك لأن ” ثلاثين محورا تشترك في مركز العجلة لكن ثقب المركز هو الذي يجعلها صالحة للاستعمال . ” (13) متى يعرف المركز إذن أنه مثقوب ومتصدع وأن في ذلك فقط تكمن إيجابيته وفعاليته ؟
غير أن هذا الترافع ضد الوحدة والشمولية المؤديتين إلى الاختزال لا ينبغي أن ينتهي ، بالمقابل ، إلى رفع ، مفهوم الاختلاف إلى درجة وثن ميتافيزقي جديد . كما لا ينبغي الذهاب في إقرار ” الحق الثقافي في الاختلاف “إلى أبعد مما يقتضيه “الاستثناء الثقافي ” في عالم معولم ، وهو ما يعني حذرا من نوع آخر هو الحذر من أن يتحول التشبث بالخصوصية والاختلاف إلى ذريعة لطرد ورفض الكونية خاصة في مجال ثقافة وحقوق الإنسان . فمتى تدرك الأطراف ، من جهتها أيضا ، أن اختلافها وخصوصيتها وهويتها التي صارت من الحقوق في عالم اليوم لا ينبغي أن تنتصب كحجة في وجه إقرار قيم ومبادىء وحقوق كونية . فهل معنى هذا أن النقد هو إذن نقد مزدوج للمركزية والخصوصية على حد سواء ؟
الهوامش :
* مفتش مادة الفلسفة بنيابة الناظور
** أرسطو هو صاحب القاعدة الشهيرة ” لا علم إلا بما هو كلي ”
1 . عبد الله العروي ، الأيديولوجية العربية المعاصرة ( بالفرنسية) ، ماسبيرو ، 1967 ، ص 6 .
2 . عبد الكبير الخطيبي ، النقد المزدوج ، دار العودة ، بيروت ، بدون تاريخ إصدار ، ص 19 .
3 . ع العروي ، مرجع سابق ، ورد في النقد المزدوج ، ص 20 .
4 . النقد المزدوج ، ص 20 .
5 . جاك دريدا ، الكتابة والاختلاف ، ورد في ” النقد المزدوج ” ، ص 159 .
6 . رولان بارت ، من مقال ” ما أدين به للخطيبي ” ، مجلة Pro-culture رقم 12 ، يوجد مترجما في كتاب ” الاسم العربي الجريح ” ترجمة محمد بنيس ، دار العودة ن بيروت ، ط1 ، 1980 ، ص 13 .
7 . نفس المرجع ، نفس الصفحة .
8 . النقد المزدوج ، ص 161 .
9 . نفسه ، 158 .
10 . نفسه ، نفس الصفحة .
11 . نفسه ، ص 161 .
12 . نفسه ، ص 21 .
13 . هادي العلوي ، ” التاو ” نصوص من الفلسفة الصينية القديمة ، دار إبن رشد ، 1980 . أنظر أيضا “المناضل الطبقي على الطريقة التاوية” ، للخطيبي ، ترجمة كاظم جهاد ، دار توبقال ، ط 1 ، 1986 .
*** حول معنى هذا المفهوم أنظر هوامش المترجم في كتاب ” المناضل الطبقي على الطريقة التاوية ” ، ص 82 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.