أن لقب الإمارة الذي تم استكثاره على محمد بن عبد الكريم الخطابي لم يكن منة من أحد، ولم يرثه عن أجداده، بل استحقه في الميدان مجاهدا، وبواسطة الانتخاب من طرف برلمان ريفي مصغر. وإذا لم يكن الخطابي قد ورث الامارة، فقد ورث الجهاد، لا عن أبيه فقط، بل عن أجداده، وعن التربة التي نشأ فيها، مما يعني أنه لم يكن طارئا على الجهاد.. .. فهو راسخ فيه رسوخ تربة الريف فيه. ذلك أن بلاد الريف كانت دائما موطنا للجهاد والوطنية، فمنذ آواخر العصر الوسيط، وبعد ضعف الدولة الموحدية وسقوطها، ظلت سواحل الريف تتعرض للغزوات الأجنبية، سواء من القراصنة أو غزاة مختلفين، وبقي تذكار من تلك المرحلة في اسم مدينة الناظورؼ هذا الاسم الذي يعني مركز المراقبة والرباط الذي يحرس الساحل ليخبر السكان والمجاهدين المرابطين عند ظهور طلائع العدو... وكانت سواحل الريف إلى سواحل المحيط تحتوي على شبكة من هذه الرباطات والمحارس وأبراج المراقبة والانذار والتي تشارك أيضا في رد الغزاة، فشكلت نظاما فعالا للإنذار والدفاع. وبعد احتلال مليلة ونقط أخرى على الساحل إلى سبتة أواخر القرن15 والقرن 16 م بسبب التفوق العسكري الاسباني والبرتغالي، ودخول المغرب في مرحلة انحطاط واجه الريفيون محاولات التوسع في بلادهم وردوها، بل قاموا بمحاولات مسترسلة لاسترداد مليلة وسبتة، حتى أن تاريخ المدينتين مابين القرنين 16 و 19م يكاد يتلخص في عمليات الحصار والهجمات المتوالية التي تعرضت لها بمساهمة المخزن أو بدونه واستمرت مرابطة المجاهدين الريفيين ومناوشاتهم لترهق الحاميات العسكرية وتضيق عليها الخناق دون كلل، ولم يكن ينقذ أولئك الجنود من الموت جوعا وعطشا الا تزويدرهم بالمؤونة والماء بحرا... هذه التقاليد الجهادية في الريف تواصلت عبر الزمكان، وامتدت مكانيا لتشمل التضامن مع الاخوة الجزائريين، فقد كان الريفيون أول من لبى نداء الأمير عبد القادر الجزائري وساهموا بكثافة في قواته واستمرارا لهذا التقليد نجد الريفيين بعد منتصف القرن العشرين يزودون ثوار الجزائر بخبرتهم الجهادية، ويضخون خبراتهم ودماءهم في أتون حرب التحرير الجزائرية. وقبل ظهور الخطابي، قاوم الريفيون محاولات الغزو الاسباني قبل إعلان الحماية وبعدها. فقبل اعلان الحماية واجه الريفيون الاسبان ومحاولاتهم الاستيلاء على أراضيهم واستغلال ثرواتهم الطبيعية، بحيث خاضوا 113معركة فيما بين يوليوز ونونبر9091. هذه المعارك قادها الشريف أمزيان الذي استمر في قيادة الجهاد ضد الاسبان وخاض عشرات المعارك الآخرى التي بلغت أكثر من 061 معركة إلى أن استشهد في مايو2191 ، فارتاح الاسبان مؤقتا. بعد إعلان الحماية واستشهاد الشريف امزيان تمتع الاسبان بفترة هدوء، حاولوا فيها توسيع مناطق الاحتلال، تارة بالقوة وتارة بالدبلوماسية والرشاوى، إلى أن ظهرت قيادة جديدة للجهاد في أسرة الخطابي من قبيلة بني ورياغل ولم يكن عبد الكريم الخطابي الوالد إلا قاضيا عينه الحسن الأول، وظل يمارس مهمته بنزاهة دون أن يخطر بباله أنه سيجاهد ضد الإسبان، بل إنه كموظف مخزني رضخ للأمر الواقع واعترف بالحماية، والأكثر من ذلك أنه في البداية، وبسبب أفقه الواسع، رأى أن من مصلحة الريفيين أن يربطوا علاقات مع الإسبان للاستفادة منهم نظرا لحاجة البلاد إلى مهندسين وأطباء ومعلمين وكل الأسباب التي تساعد على إخراجهم من حالة الفقر والجهل والمرض... وقام في هذا الباب بربط الاتصال مع مسؤولين إسبان ليقوم بدور سياسي في المنطقة، وهو ما وافق رغبة الإسبان في التمهيد والتمكين لتوسعهم بوسائل ديبلوماسية. وبناء على رأيه في ضرورة التعلم من الإسبان بالاحتكاك بهم والدراسة في مدارسهم، أرسل ابنه امحمد للدراسة في مليلة ثم في إسبانيا حتى صار مهندسا، وأرسل ابنه محمد الذي نال حظا وافرا من التعليم في القرويين للانخراط في سلك التعليم بمليلة، وأرسل أخاه عبد السلام ليتولى منصب كاتب لدى قائد جزيرة نكور. هذه العلاقة مع الإسبان جعلت القاضي عبد الكريم الخطابي يفهم أهدافهم واستعجالهم احتلال الريف ومطالبتهم له بالتعاون في هذا الباب، فبذل جهودا لخلق مبررات للتسويف والتأخير، وقد وافق هذا رأي بعض القادة الإسبان الذين ترددوا في خوض مغامرات جديدة بعد حروبهم وصراعهم ضد الريفيين بقيادة الشريف أمزيان، مكتفين بمد نفوذهم السياسي بواسطة الأعيان مثل عبد الكريم الخطابي. وقد عرضت العلاقة مع الإسبان القاضي الخطابي لمتاعب كبيرة واتهامات بالخيانة، بل لاعتداءات وإحراق بيته واضطراره للفرار منه، واضطر لبذل جهود جبارة لإقناع المشككين في وطنيته ودينه حتى أبرم صلحا معهم وعاد إلى بلدته أجدير. وخلال هذا نفد صبر الإسبان وقرروا الشروع في الهجوم العسكري، فتقدمت قواتهم في أراضي قبيلة تمسمان وقبيلة بني توزين المجاورتين لبني ورياغل قبيلة الخطابي، وآنذاك استدعى عبد الكريم ولديه محمد وامحمد وأخاه عبد السلام للتذاكر حول الوضع واتخاذ قرار الجهاد، فانطلق القاضي عبد الكريم يدعو الريفيين إلى الجهاد ونجح في مسعاه، وأسس مراكز للجهاد في مواجهة العدو، وظل في جبهة القتال حوالي شهرين ، أصيب بعدها بمرض مفاجئ تبين أنه بسبب دس السم له في الطعام على يد خونة بإيعاز من الإسبان، فمات شهيدا وترك لأبنائه مهمة قيادة الجهاد، وهي تركة اضطلعوا بها وقاموا بها خير قيام، وشرفتهم أكثر مما لو ترك لهم لقب الأمير الذي رأى من رأى أنهم لا يستحقونه. ) بقلم : محمد مؤيد