حينما أتأمل في مدينتي اليتيمة، للكشف عما بطن وما ظهر، وما جلا وما اختفى واستتر، والاستجلاء والامتياح من فضائها، أجدني في فضاء لا ستر ولا حجر، يصيبني المضيض والمضاض، فأقول: مضا وتبا لما أراه، أليس من منقذ لهذه اليتيمة، ومن غيور عليها؟ أراها سقيمة حتى أمكنتها، وبعض المسؤولين سقام الصدور بالغبر، ومرضى القلوب بالجشع البشع، والطمع المؤدي بصاحبه إلى الضرع والخنوع، لا يبحثون إلا على القدور والفطور والفجور، حتى أصبحوا من بني قدراء وأغلبية السكان من بني غبراء، لا أعي هذه المفارقات، ولماذا لا تكبح وتحجم وتجمح هذه السلوكات النابعة من الحثالة، إزاء هذه الثويلة القاطنة في المدينة اليتيمة، إن المثقف الراكن في زاوية وزوايا سيتثيتل مما يعاينه ويعانيه في هذه المدينة الوجمة الوجلة التي أصابها الجثوم بضم الجيم بسبب بعض الجثوم بفتح الجيم من ساكنتها. حينما أتأمل مدينتي ينتابني الحزن والأسى، وتحضرني الهموم والهواجس والذكريات الجميلة والأليمة، يمحوها الوسن والنسيان، وتذكرت مقولة فيريدرك نيتشيه “قد يتمكن المرء من العيش دون أن يتذكر كالحيوان، ولكن من المستحيل عليه أن يعيش دون أن ينسى”، ثم استيقظ بعد أن غبت زمنا وجيزا، لأستمر في تدبر العلل التي طالت هذه المدينة التي ترجع القهقرى بسبب الإهمال المفرط المضر، وعدم التواصل الذي يبدأ من الأسرة المفككة، أفرادها يتعرضون للتشرد لغياب عنصر الحنان والتربية، والنفور من التواصل مع الكتاب الذي هو جنة المثقف وهو من العناصر الهامة في تثقيف وتهذيب الفرد، وكما قال أندري جيد “أن تقرأ كتابا لا يعني مجرد أن تأخذ فكرة عما يقوله، بل، أن ترحل معه وتسافر برفقته”. ثم غياب دور الثقافة والفنون ليتواصل الأفراد بالتشارك والتفاعل، واختفاء الجمعيات واضمحلالها وانحلالها التي لها دور أساسي في التواصل والتأطير والتوعية والخلق والإبداع، فيبقى الأفراد مختلفين متشتتين لا أحد يوجههم، وكل واحد يغني خارج السرب، بالإضافة إلى الصراع بين الأحزاب والأجيال، فتبقى المدينة وحيدة يتيمة غريبة عن نمط المدن الراقية فكريا وفنيا وثقافيا…، يصيبها اليتم بفتح الياء فاليتم بضم الياء، ثم اليتم بفتح الياء والتاء، لا بد من النظر في الاختلاف، لإيجاد وسائل الائتلاف، وتدبر دواعي الضعف والفتور والتقهقر، في سيرها وعيشها واقتصادها وبنيتها ومداخلها للوصول إلى التسوية بين المتناقضات، والضرب على أيدي المتشاغبين والمتطاولين، وقطع وبتر دابرهم والذين لا يعرفون قبيلهم من دبيرهم، وهذا من شأن المثقفين الملتزمين الغيورين لا الحربائيين الملتبسين الانتهازيين الجمركيين على هذه المدينة التي تعيش على هامش الحياة، تندب حظها ويتمها، وخارج الزمن الراهن، وفي مكان قاحل ماحل، تسير عرجاء كسحاء بسب ثقافة الرفض والعداء، أضف إلى هذا التذبذب في الطاقات الشابة، إذ لا بد من تجذر وترسيخ الثقافة الهادفة، لأنها هي سلاح الإنسان لرفض كل ما هو سلبي وضار بالمواطن، علاوة على الوعي وثقافة الاحتجاج. مدينتي اليتيمة ليس لها من يحميها وينافح عنها، من كيد الكائدين والبغاة والمفسدين الذين لا يعرفون إلا النهب والسلب والابتزاز، ويأكلون أموال اليتامى، ولا يشعرون ولا يحسون بالفقير الضعيف، ولا بالمسكين المعوز، ولا باليتيم المدقع المعدم، بهذا الشره والنهب والنهم الصادر على المنهومين بالمال والحصول على النهمة والنعمة والغلمة والطيبة والغنيمة الباردة، وأخاف في يوم ما أن ينقلب كل هذا إلى نقمة ونحاسة وضناكة وضيقة، وبكاء وندب ونواح وصياح وندم حيث لا ينفع الندم ولا هذا وذاك، هذه الشرذمة الشريرة (والشرير لقب إبليس) هي التي أوصلت مدينتنا إلى اليتم والعقم والبهم بضم الباء وفتح الهاء وأصبحنا بهما وبهمة لا اعتبار لنا، ولسنا بشرا بل يعدوننا بقرا وحميرا وقطميرا، وأصفارا على اليسار، وسفارة على جنبات المدينة، وهلم وصفا ونعتا وجرا وكسرا وخفضا، بسبب سوء تدبير القائمين على شؤون المدينة المكلومة الكسيرة الحسيرة الكليلة الثكلى، صرنا أنذالا باختيارنا السيئ الحثيث، وطمعنا الخبيث النبيث، فلماذا اليوم نندب ونبكي ونصرخ ونرثي مدينتنا اليتيمة؟ آن الأوان أن تقطع أعناق الطامعين، ومحاربة الانتهازيين ذوي المصالح النفعية الخاصة، الذين لا تهمهم بعد فوزهم مصالح المدينة اليتيمة ومشاكلها. هل مدينتي فعلا يتيمة؟ ليس هناك من ينافح عنها، ويناضل من أجلها، ويعاضدها على الخروج من المأزق المنغلق، هذا المأزق هو أزمة الثقافة والإبداع والتواصل الفكري والفني والاجتماعي، هذه العوامل أفضت إلى الجمود والركود واليتم بل الموت، ناهيك عن أزمة التدبير والتسيير وغياب المراقبة والمحاسبة والمعاقبة، وبدون رادع، هذه العوامل أدت إلى التصرف الفوضوي بدعوى الحرية، وجون بول سارتر يشير إلى الحرية بقوله: “محكوم على الإنسان أن يكون حرا لأنه ما إن يلقى به في هذا العالم حتى يكون مسؤولا عن كل ما يفعله” هذا التصرف الفوضوي الذي أشرت إليه ملموس في جميع الميادين في الإدارات العمومية والخصوصية، وفي مشينا وسيرنا في الشوارع، وجلوسنا في الحدائق والمقاهي والمطاعم، وفي ملبسنا وأفكارنا دون اعتبار الآخر واحترام حريته وحقه، وما يحيط بنا وكما قال الفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غاسيت: “أنا هو أنا، وظروفي”. ومن فرط الهم والحزن والألم، وما نلاحظه من تصرفات هوجاء، وسلوكات رعناء، سأردد تخفيفا ما قاله أبو البقاء الرندي: لمثل هذا يموت القلب من كمد // إن كان في القلب إسلام وإيمان أو أقول من قاله هيرودوتس: “أسوء أنواع الألم هو ذلك الذي يواكب الكثير من الوعي… والقليل من القدرة على تغيير الواقع”.