وسط ساحة بلاصا دي كطالونيا بقلب برشلونة يبدو المشهد غريبا .. عادة في مثل هذه الأيام الأولى من شهر غشت من كل سنة كان المكان يعج باحتفالية العالم القاصد لأيقونة السياحة الإسبانية .. فسيفساء من الوجوه و السحنات و اللكنات كانت تنخرط في سمفونية المتعة التي يوفرها قلب عاصمة كطالونيا النابض .. على امتداد البصر من الساحة إلى الميناء كانت تبدو " الرامبلا " شريطا طويلا من رؤوس السياح المتزاحمين في عروض مسرح مفتوح يختلط فيه الإبداع و الفنون مع خدمات المطاعم و الحانات و محلات بيع التذكارات .. مسرح لا ينتهي إلا تحت أقدام تمثال كريستوف كولومب الذي يقف مشيرا بسبابته إلى العالم الجديد خلف البحار . كل مظاهر البهجة اختفت من المكان مع اختفاء السياح المتوجسين من وباء قتل الآلاف في ذات البلاد المحبة للحياة و لا زال يتجول فيها بصمت .. أشخاص معدودون على رؤوس الأصابع يحتمون بكماماتهم و يتجولون في الرامبلا بعيون متوجسة .. أغلبهم فرنسيون و ألمان أسعفهم قرار الحكومة الإسبانية فتح الحدود خلال أوائل يوليوز الماضي لزيارة الجنوب الأوربي و طرد ملل شهور مقرفة من الحجر الصحي داخل منازلهم ... يقول " أوليفيي " القادم من تولوز و الذي إعتاد قضاء عطلة أسبوعين من كل سنة في كوستا برافا : " هذا الصيف لم نحجز في شاطئنا المعتاد و اكتفينا بزيارة خفيفة لبرشلونة تدوم يومين فقط " قبل أن يضيف : " الوضع لازال يشوبه الكثير من الغموض و أرقام المصابين بالكوفيد عادت إلى الإرتفاع و حتى تعقيدات التحرك و إجراءات الحدود تفرض عدم المغامرة بحجز شقة هنا لمدة طويلة ". أصحاب التماثيل البشرية الذين يقدمون عروضهم في الرامبلا عادوا إلى أماكنهم بعد توقف طويل , لكن بشروط وقائية صارمة أبرزها الحفاظ على مسافة معقولة مع المتفرجين و ملتقطي الصور التذكارية .. هم أيضا تضرروا كثيرا بعد تراجع عدد السياح و نقص " البقشيش " . في الأعوام الأخيرة كانت برشلونة تسجل توافد أزيد من 15 مليون سائح سنويا من ضمن 80 مليون التي كانت تزور إسبانيا , 4 ملايين منهم ينزلون في شهري يوليوز و غشت للإستمتاع بمختلف المرافق العديدة التي تضمها عاصمة كطالونيا أبرزها لارامبلا .
المطاعم و البارات شبه الخالية الممتدة على طول الشارع الشهير يقف النواذل في أبوابها منتظرين توقف العابرين من السياح القليلين لتناول شيء .. كثير من المحلات فضل أصحابها عدم العودة لفتح الأبواب مؤقتا في انتظار مزيد من تحسن الأوضاع .. " مالكو كثير من المطاعم يفكرون في المصاريف اليومية التي تتطلبها محلاتهم و سومة الكراء الغالية بالإضافة إلى واجبات العمال و التي لن تعطيها المداخيل الهزيلة حاليا " يقول ميݣيل رئيس إحدى جمعيات أرباب مطاعم الرامبلا بكل أسى , قبل أن يستدرك : " بعضهم أغلق أبوابه نهائيا و البعض الآخر فضل تأجيل العودة لنشاطه التجاري حتى شهر شتنبر المقبل " . رغم التطمينات التي أطلقتها الحكومة الكطلانية حول الوضع الصحي في الإقليم , و رغم مجهودات المكاتب السياحية في إطلاق حملة إشهارية ضخمة لتحفيز السياح على المجيء , إلا أن ذلك لم ينجح في إنقاذ الموسم الصيفي من الكساد .. إذ سجلت بلدية المدينة تراجع الوافدين بحوالي 70 ٪ مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية .. وضع دفع بجمعية " أصدقاء الرامبلا " التي تضم أرباب بعض الفنادق و النزُل القريبة إلى تخصيص عروض بأثمنة تحفيزية ... يقول رئيس الجمعية فيرمي فيار : " خصصنا عرض الإقامة في نهايات الأسبوع للعائلات بنصف الأثمنة المعتادة .هدفنا أن نسترجع نسبة الملئ التي كانت قبل الوباء " .
في باحة مقهى " زويخ " الشهير أعلى الرامبلا , يجلس أندريس أمام كأس الجعة الطويل ملتقطا من صحن المكسرات المالحة و يقول بإستغراب : " قدمت إلى برشلونة رفقة أسرتي و أنا طفل ذو عشر سنوات . أبلغ من العمر اليوم 56 سنة , لم أشاهد الرامبلا طيلة هذه العقود بكل هذا الخواء الغريب " . أسراب الحمام الكثيف تطير و تنزل في بلاصا كطالونيا بدون مؤنسيها من الزوار الحاملين لحبات الزاد و الكاميرات الأنيقة .. وحده الباكستاني " علي " يدرع المكان جيئة و ذهابا و هو يصرخ في العابرين القلائل عله يبيعهم واحدة من " كانيطاته " الحمراء الباردة : " باموس آكي سيربيسا فْرِيَا "