طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :24
متعبا كان ذلك الصباح ..صورة محمود المحامي ألمتني كثيرا … انسانية هذا المسكين المفرطة امام جبروت الاب وسلطة الزوجة والواقع المر الذي يعيش فيه .. أفرغته من محتواه. وأصبح كالريشة في مهب الريح . توقفت الحافلة في محطة لم اخترها من قبل .. تبين لي ان المكان مكتظ بالناس ٬فنزلت ..فكل الاماكن في القاهرة يمكن اعتبارها « وسط البلد » كما يحلو للمصريين تسميتها .. كان مجسم للراحلة أم كلثوم هو أول ماوجدته في الساحة المكتظة بالمارة .. وقفت عند هذا المجسم لوقت طويل وانا أتأمل في سيدة الطرب العربي وفي مهارة النحات المصري .. رغم الضجيج كنت أسمعها تغني وتشنف أسماع كل من منح نفسه دقيقة صمت أمامها .. رجعوني عنيك لأيامي اللي راحوا علموني أندم على الماضي وجراحه اللي شفته قبل ما تشوفك عنيه عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ انت عمري اللي ابتدي بنورك صباحه انت عمرى
كنت ثابتا في مكاني هائما في ملكوت الله .. وكان الكل يتحرك بسرعة فائقة.. لا أدري لماذا هم دائما في عجلة من أمرهم.. دائما في ازدحام الى هذا الحد .. عدد السيارات لا يعد ولا يحصى ٬ تسير وتتوقف باستمرار . وتستخدم المنبهات بسبب وبدونه.أدخنتها وغبار الارض جعلا الرؤية في المدينة ضبابية و قد علتها بقعة هلامية من اللون الأحمر الغامق تحجب لون السماء .. لم يكن قد سبق لي حينها أن شاهدت ذلك التجمهر الغفير من الناس في رقعة جغرافية صغيرة من قبل ..الا المدن الهندية فيما بعد .الناس رغم كثرتهم لا يصطدمون ببعضهم البعض.. يجوبون الطرقات في كل الاتجاهات بدون نظام .. يتداخلون في فراغات بعضهم البعض كأنهم ألفوا المكان ويعرفون مساراتهم مسبقا.. كانت الساعة تشير الى الحادية عشر .. توقفت عن التيه و الهيام وعدت لارض الواقع وسألت آحدهم عن أحسن طريقة للوصول الى عنوان بيت رمضان.. منحته الورقة ورد قائلا: ياه دي بعيدة آوي .. دي في قليوب ..؟ قلت له: لا ..المكتوب هناك منطقة « كوم اشفين « وأنا أعتقد انها في العباسية … قال ضاحكا : لا .. ما انا عارف كوم اشفين دي فقليوب …ثم استمر في الحديث وقال لي : تعرف جامع الظاهر بيبرس..؟ قلت له : لا معرفوش … تمعن في وجهي وقال : خلاص امكن تكون انت مسيحي ولاحاجة .. تعرف كنيسة السيدة العذراء ..؟ قلت له : لا أعرفها … قال لي بعصبية : طب انت عايز تروح مكان ما تعرفوش ليه ؟ .. قلت له : أنا مش من مصر.. فقط أنا عايز أروح هناك .. قال لي : تروح هناك ليه .. دي عشرين كيلو يابني …قلت له : ممكن المسافة بعيدة .. بس انا مش حروح على رجليا .. عايز اروح راكب.. آخد ايه من فضلك …؟ قال لي : عارف المحطة لهناك ..حايجي ميكروباص أحمر .. اركب معاهم.. هو حيكون في الاصل رايح لدمياط بس انت انزل فقليوب .. عبرت الشارع للجهة المقابلة بأعجوبة..انتظرت في المحطة قدوم الميكروباص ولحسن الحظ جاء مبكرا .. استقلت الميكروباص وهو وسيلة نقل تتسع لاكثر من عشرين فردا وبثمن مرتفع قليلا عن تذكرة الحافلة .. وانا أحاول آن آجد لي فيه مكانا ..طلبت من السائق ان يخبرني بالنزول ٬ حينما نصل الى محطة كوم اشفين بقليوب . انطلق الميكروباص.. اخترقنا القاهرة عرضا في اتجاه الجزء الجنوبي الشرقي للدلتا ..الحر كان شديدا ذلك اليوم ..نساء بملابس سوداء شغلوا الاماكن الخلفية بالكامل ..ورجال بلحي طويلة تموقعوا بالقرب مني ..كان سائق الميكروباص كأنه يرقص على موسيقى وهمية .. راديو كاسيط الميكروباص لم يكن يعمل..ولا موسيقى في الجوار سوى الضجيج وصوت الريح التي تحدث أزيزا في الباب الكبير للميكروباص الذي ظل مفتوحا علي طول الطريق .. أو تلك الحركات كانت من عادته لا أدري… بعد فترة نطق أحدهم بصوت عال وقال : وحدوه … تبعه الاخرون وقالوا : لا الاه الا الله … ثم عاد الصمت من جديد..كأن شيئا لم يكن ..الا من ضجيج الخارج وصوت المحرك العجوز .. و لهيب الحر الذي يلفح وجوهنا لفحا شديدا … على درج باب الميكروباص المفتوح كان يجلس شابا في مقتبل العمر..عيناه تنظران الي الشارع والطريق مباشرة ..كان يدخن بشراهة وينفث دخانه الى الخارج.. لكن بفعل السرعة أحيانا كان الدخان يعاود الرجوع الينا ممزوجا بادخنة السيارات والاتربة .. بعد فترة من الزمن كذلك نطق نفس الشخص مرة ثانية وقال : وحدوه وقلت معهم انا أيضا : لا الاه الا الله.. وصمتنا جميعا مرة آخرى..وصمتت معهم عندما وصلنا للمحطة ماقبل الاخيرة..أخبرني السائق بضرورة النزول ..نزل الشاب الذي كان يجلس على الدرج أولا ٬وتبعته مباشرة .. بدافع الفضول سألته : لو سمحت عايز أسألك هو ليه كان الراجل داخل الميكروباص بيصرخ : وحدوه … نظر الى باستغراب وقال لي: هو انت مش من هنا ولا ايه ؟ ..قلت لا : لا مش من هنا …قال لي : الناس دي رايحا لبيت فيه عزاء .. قلت له : شكرا لك .. وأكملت طريقي .. لحق بي واستوقفي وقال : انت عايز حد هنا في المنطقة ..؟ انا ممكن أدلك ..لو تحب تزور جامع الظاهر بيبرص.. أنا تحت امرك … قلت له : لا ..لا ..شكرا .. ومشيت . ابتعدت عنه بمسافة تقارب المائة متر ووقفت .. لكنه ظل يلاحقني في كل مكان ..شعرت بالضيق والخوف و بدأت أبحث عن رمضان .. لا ادري لماذا لم يكن ينتظرني هناك في المحطة .. رغم انه قال لي صباحا عندما تواصلنا بالهاتف بانه سينتظرني هناك .. و لن يبرح محطة كوم اشفين حتى يراني .. بحثت عنه كثيرا ولم أجده..الشاب الذي كان يدخن في الميكروباص لايزال يهددني بنظراته من بعيد …تيقن فعلا أنني ضائع و غريب عن المنطقة وصغير السن وضعيف البنية و لست مصريا .. بالنسبة له كل شروط الطريدة السهلة قد توفرت ..حينها قررت الابتعاد عنه كثيرا و عن المحطة كذلك والبحث عن قسم شرطة آو شرطي المرور وأقف بقربه .. وانا أتجه الى ملتقي الطرق .. في اتجاه شارع حسين شخيمر كما كان مكتوبا على الورقة .. شعرت بيد تمتد الى جيبي الخلفي .. كنت أعلم بأنه فارغ .. لكن دقات قلبي تسارعت .. وبحركة لا ارادية أمسكت يده بقوة التفت ونظرت اليه بحزم ..انفجر ضاحكا في وجهي وقال لي: عفارم عليك .. امفتح اوي يا مغربي … قلت له بوجه عبوس : لا احب هذا المزاح مرة ثانية يا رمضان..اين كنت ..؟ فانا كنت ابحث عنك منذ ساعة تقريبا .. اعتذر و بادلته بابتسامة باهتة وتبادلنا التحية وأكملنا الطريق . نظرت خلفي ٬ لا آحد يترصدني لقد اختفى ذلك الشاب ولم أعثر له على أثر.. في مدخل حي شعبي وعلى طول الشارع ٬كان رمضان يقف عند كل دكان .. وعند كل تجمع ..كان يقدمني لهم ويعرفني بهم ..كان يقول لهم : انه صديقي المغربي جاء من المغرب مخصوص علاشان ازورني .. وكان في كل مرة يلتفت نحوي ويطلب مني تأكيد هذا الكلام.. ويدعوني الى التحدث باللهجة المغربية..كان الاخرون ينظرون الى رمضان كأنه أنجز عملا جبارا باستقدامي الى هناك .. كنت أرى في عيونهم الاعجاب وواقع حالهم يقول :ياسلام رمضان أصبح له معارف خارج البلد .. أكملنا الطريق و دلفنا شارعا شعبيا ضيقا للغاية الى أن وصلنا الى عمارة قديمة جدا ..ليس لها بابا خارجيا.. فقط بقاياه التي ظلت عالقة على الاطراف الجانبية للمدخل.. اظن أن الاستغناء على الباب الرئيسي كان واضحا أنه قد تم منذ زمان .. على المدخل الايسر لمدخل العمارة كانت توجد هناك ربوة من الخشب.. وقد وٌضع فوقها سجادة من الصوف البلدي .. وبالقرب منها مرجل بفتيل وزيت معد لطهي القهوة .. توقف رمضان عند الجالس هناك ٬ انه السيد الحاج آبو الفضل كما دعاه.. وقدمني اليه وهو في غاية الفرح وقال له باني صديقه المغربي الحميم ..ابو الفضل رجل في السبعينيات من عمره علامة الركوع بادية علي جبينه ..على مايبدو فهو السيد البواب .. قاطعه الحاج ابو الفضل وقال له :أه انا لما بعثت لها بيض مع الواد علي ..خبرتني الخالة مجيدة عنو في الصبح وقالت ان مغربي جاي عندكو مخصوص بعد صلاة الظهر .. تعجبت كثيرا لما قاله ابو الفضل وقلت مع نفسي هل انا مهم لهذه الدرجة ...التفتت نحو رمضان وبدون أن أقول شيئا قال لي مباشرة: الخالة مجيدة هي امي .. رحب بي ابو الفضل ودعاني للجلوس قربه على الربوة ..اشعل فتيل المرجل ٬ومن كيس بلاستيكي أخرج قليلا من مسحوق القهوة ..ثم صب الخليط في « الخمسينة النحاسية » ووضعها تغلي فوق النار .. قلت له رغبة منى في الحديث : قولي يا عمي الحاج تعرف المغرب ..؟ رد الرجل بشدة تميل الى الغضب وقال : أو مال ..بعرفو ايوى.. مش هو بتاع الملك الحسن .. قلت له : نعم هو كذلك ..تابع كلامه وقال : كل الناس اللي بتصلي في الازهر بتعرفوا… قاطعته وقلت له ضاحكا : لا …لا… جامع الازهر .. لا اكيد مش هو.. يمكن حد ثاني … رد بعصبية وقال : قلت لك الحسن الثاني ملك المغرب … هو ليكو غيرو ؟ قلت له : لا ..لا..ملناش غيرو ..نعم هو ملك المغرب.. لكن ايه هي علاقته بكل اللي بيصلو في مسجد جامع الازهر ..؟ قال وهو يبتسم : الملك بتاعكو عمل عمل مش ممكن حد ينساه …قلت له : ياسلام ..طب ايه العمل اللي عملو ؟ قال لي : الرايس حسني مبارك لما زار المغرب في 84 .. الملك الحسن طلب منو لما يرجع لمصر اغطي كل فضاء جامع الازهر بالزرابي المغربية.. وجات طيارة محملة من المغرب بزرابي ماشاء الله ..فكل حد بيدخل هناك بيسأل عن جمال تلك الزرابي المغربية ..فبيجيبو سرت ملك المغرب الحسن الثاني …وكل واحد بيحط جبهتو على الارض ويجدها رطبة وناعمة .. بيشكر الحسن ملك المغرب …هههههههههه فانهار من الضحك ..ولما اعتدل قال : والله الملك الحسن دا داهية … شاركته الضحك طبعا.. شربنا فنجانا من قهوة الخمسينة …واكملنا الحديث حول هدايا الملوك والرؤساء وبماذا قام كل واحد منهم لمصر ..منهم من بنى مستشفيات .منهم من بنى قناطر ومنهم من بنى معامل … وهكذا . يبدو ان التجمعات الشعبية تتداول هكذا اخبار بشغف كبير ..و بمبالغة في الكثير من الاحيان .. انتهينا من شرب القهوة وشكرت ابو الفضل بواب العمارة على حسن استضافته وصعدنا الادراج ..كان المنزل في الطابق السادس ..لا وجود لمصعد فقط هي الادراج من كانت أمامنا .. لما وصلنا و دلفنا المنزل وجدته شبه فارغ ..أثاث قليل جدا ..مساحته ضيقة .. جدران بالوان باهتة ..له نافذة يتيمة على الشارع كمنفذ للضوء والهواء .. و في بهوه كانت طاولة خشبية مستديرة ولحافين على الارض ..لاوجود لاحد في المنزل سوى أم رمضان وهي الخالة مجيدة في الخمسينات من عمرها.. وأخته عدلات شابة في مقتبل العمر.. استقبلتني الخالة مجيدة بترحاب كبير ..كانت تدعو لي باستمرار كأنني قادم من حرب اكتوبر ..بعدما جلسنا حول الطاولة المستديرة .. دخلت الأخت عدلات ورحبت بي بصوت خافت حيث قالت : اهلا بحضرتك .. وضعت منديلا ابيضا على الطاولة كاستعداد لوجبة الغذاء .. ثم تبادلنا بعض اطراف الحديث حول طول الرحلة وبعد المنطقة عن القاهرة … بعد غياب دام عشر دقائق عادت الاخت عدلات و بدأت تضع بعضا من الصحون على الطاولة .. أغلبها كانت صحون خضر غير مطبوخة .. طماطم على شكل دوائر ..بصل بقطع كبيرة ..فلافل حارة صغيرة الحجم ..بعض حبات فجل ..وصحن فيه بيض مسلوق.. ونوعان من الزبادي ..طبق مالح جدا والاخر عادي الى حد ما .. دعاني رمضان الى الاكل ..أم رمضان وضعت أمامي دزينة من الرغيف المصري بدون حشوة ..وجلست الاخت عدلات بعد أن جلبت قرورة من الماء .. في الحقيقة حاولت ان اتظاهر بان الاكل كان ممتازا .. لكن ملوحة الزبادي و قوة الفلفل الحار جعلاني اتراجع الى الوراء بسرعة.. وبالحاح شديد من الخالة مجيدة أكلت بيضة وبعض قطع الطماطم بعد ان وضعتهما في رغيف على شكل سندويش ..عندما توقفت عن الأكل مرة ثانية باغتتني أم رمضان وقالت : يظهر انى اكل عدلات ما عجبكش .. رغم انها ربة بيت شاطرة اوي … قلت لها بدون أن ألتف اليها : الحمد لله ..الاكل كويس بس انا اللي كنت واخد سندويش قبل ما اجي ..او بعدين شربنا القهوة مع الحاج ابو الفضل … قاطعتني وقالت : ابو الفضل ..داهو اللي مربيها ..لما تنزل اسالو عنها …هو اقلك بنفسو … قلت لها :لا والله مايحتاج ..الاكل كان كويس الاخت عدلات كانت تستمع لهذا الحديث..تبتسم وهي تسترق النظر الي خلسة … رمضان كان يأكل بشراهة كأن الامر لايعنيه ..واقع حاله يقول ..لقد أتممت مهمتي و أحضرته لكم حيا يرزق .. تمام كنكتة الاسود والحمار ولعبة الورق … لما انتهينا من الأكل توجهت الى مرحاض متواضع جدا٬ يتواجد بداخله صنبور ماء على وشك الانفجار. كان يستعمل لاغراض متعددة .. غسلت يدي .. وأمدتني الاخت عدلات بثوب على شكل منشفة ..آخذته وشكرتها بدون أن أنظر إليها .. بقيت واقفا و شكرتهم جميعا وطلبت من الرمضان ان يذهب معى الي محطة الحافلات ٬فالوقت كان مناسبا جدا للعودة الى القاهرة.. رفض رمضان هذا الطرح بشدة وأصر على شرب الشاي أولا ثم الذهاب الى المحطة . فالشمس كما قال لاتزال في كبد السماء.. لم آجد بدا من ذلك ..جلست مرة ثانية .. عادت الاخت عدلات الي المطبخ لتحضير الشاي٬ بعد أن جلبت الماء من صنبور المرحاض هناك .. رمضان طلب منى الاذن للنزول الى الشارع ..أظنه ذهب لاحضار بسكويت او ما شابه .. قال لي قبل نزوله .. البيت بيتك يا علوي..و نزل الادراج بسرعة و تركني بمفردي صحبة الخالة مجيدة .. بقيت هناك انتظر حضور الشاي لنصف ساعة تقريبا.. وفي كل ذلك المستقطع من الزمن٬ كنت أعاني من استنطاق الخالة مجيدة معاناة شديدة..فقد طرحت علي كل الاسئلة الممكن تخيلها.. كأنها عاملة احصاء ..اسئلة كثيرة عني وعن العائلة ..وعن طبيعة الحياة في المغرب ..وعن القدرة الشرائية للمغاربة ..وعن طبيعة النظام السياسي بالمغرب .. لدرجة اني شككت في انتمائها للمخابرات المصرية …لم تكف عن ذلك الاستنطاق ٬الا بدخول رمضان فجأة لبهو المنزل وهو يلهث.. وقف أمامي وبنفس متقطع لصعوده الادراج مسرعا .. ثم بدأ يستعطفني لمنحه جواز سفري … حينها فقط أصابني الذعر٬هي مكيدة تحاك ضدي لا محالة .. وأصبحت على يقين أن نزوله للشارع لم يكن من أجل جلب البسكويت كما كنت أعتقد ... في البداية رفضت منحه جواز السفر رفضا قاطعا .. قلت له بصوت حازم : آعذرني يارمضان ولكن لن أمنحك جواز سفري .. لكنه أصر اصرارا غريبا وقال لي أمام الخالة مجيدة : ماتخافش ياصاحبي ..باسبورك في امان ..فقط الواد اسماعين صاحبي كذبني امام الجميع وقالهم انك انت مصري ..ومش مغربي ..فانا عايز أوريهم الباسبور بس .. وارجعهولك بسرعة.. لم اجد ما أقوله ..أخرجت جواز سفري ومنحته اياه …بمجرد ما أخذه نزل الادراج مرة أخرى بسرعة البرق واختفى.. بعد برهة من الزمن خرجت عدلات اخيرا من المطبخ وهي تحمل الشاي ..وضعته فوق المائدة المستديرة وجلست بعيدا .. الخالة مجيدة طلبت منها الاقتراب بدعوى أني صديق حميم لرمضان و اننا كنا عشرة عمر في ليبيا .بمهل ودلع اقتربت الاخت عدلات مني وجلست ..كانت تحتسي الشاي كانها تداعبه فقط بشفتيها لا تصدر صوتا للشفط بتاتا..الخالة مجيدة كانت تدعوها الى الكلام لكنها كانت تتمنع .. كنت أعرف انني في ورطة. ولكن كنت أجاري الزمن حتي تتبين لي خيوط اللعبة بوضوح.. لا أخفي عليكم أنه منذ أن أخد رمضان جواز السفر٬ وأنا أنتظر دخول » المأذون « كما هو في المذهب الحنفي المتبع عندهم ..أو » العدلان » كما هو شائع في مذهبنا المالكي ..ما كان سيتم في تلك اللحظة هو زواج بالغصب لا محالة ..لكن كنت أعاود التفكير من جديد وأقول: نحن لسنا في غابة ..نحن في بلاد لها قانون ..وربما تساعدني السفارة المغربية إن تطور الامر الى مالا يحمد عقباه .. كانت الاخت عدلات سعيدة ٬لكنها كانت تبدو كفتاة مغلوب على أمرها..والخالة مجيدة كانت تتصرف كأن الوضع طبيعي جدا .. لا أدري ماذا حكى لهما رمضان عني .. في تلك اللحظات العصيبة ..نظراتي كانت تتحول من الابريق الى الكؤوس واحدا واحدا .. تأملت في كل شيئ موجود في ذلك البهو . ماعدا الاخت عدلات كنت أتحاشى النظر اليها خشية أن تعتقد أني أبادلها نفس الإعجاب … بعد فترة من الزمن..لم أجد بدا من التصرف قبل فوات الاوان .. بموثوقية نظرت الى الخالة مجيدة و طلبت منها الاذن بالانصراف .. نظرت الي مفزوعة وردت بالمصري : ليه يابني .. ماتخليك لما ايجي صاحبك رمضان.. واهو بالمناسبة نكلم الحج ابو الفضل افضيليك الأوضا فوق السطوح .. جواب الخالة واصرارها على عدم الذهاب..أذكى الخوف عندي كثيرا وزاد الطين بلة ..خاصة لما قالت » الاوضة فوق السطوح » ..تيقنت يقينا تاما على أن الامر فيه زواج بالغصب مع سبق الاصرار والترصد .. استسمحتها بلطف وقلت لها : لماذا الاوضة ياخالة ؟ ..قالت لي بيقين : مش انت جاي علشان تدرس سيما في مصر ..مش لازم تسكن ..اهو تكون قريب من صاحبك و نرعيك .. .ابتسمت في وجهها وشكرتها على حسن النوايا .. وعدت الى الشرود والانتظار من جديد .. رمضان تأخر كثيرا ولم أعد استطيع الانسحاب بدون جواز سفري.. ..طلبت من الخالة ان أخرج للبحث عنه لأن الوقت أصبح يداهمني ولابد من الرجوع الى الفندق قبل المغيب.. والطريق طويل جدا..ردت الخالة وقالت : وليه الفندق يا بني دحنا اهلك او ناسك ..مش رمضان هو اللي جابك من ليبيا ..يبقى هو المسؤول عليك ..ماتخافش ..ممكن تبات عندنا .. شيئا فشيئا بدأت تتضح الصورة ..رمضان حكى لهما أنه هو من أنقذني من الضياع ..هو من ساعدني على الوصول الى مصر بعد أن كنت تائها في ليبيا …ولذلك فأنا بالنسبة لهم مثل وديعة بدون صاحب تم العثور عليها في صحاري ليبيا ..هكذ اكنت أبدو لهم… لم نكمل حديثنا حتى بدأت تتعالى أصوات عراك في الشارع .. الاخت عدلات توجهت مباشرة نحو النافذة الوحيدة للمنزل واستطلعت الامر ..التفتت نحو الخالة مجيدة واخبرتها أن محمد صاحب الكشك يتشاجر مع زوجته …وأضافت العبارة التالية : رمضان أهو معاهم ..هو بيحاول اصالحهم … ما أن سمعت اسم رمضان حتى وجدت نفسي في الادراج انزل بسرعة البرق ..لم أعد أتذكر حتى الان هل استأذنتهما في الانصراف أم لا .. كل ما أتذكره انني كنت أشعر بلفحات حر ساخن على وجهي وانا أتخطى الطوابق بخطوات تتحدى الجاذبية كانني محمول على مصعد وهمي . في الشارع وجدت الكثير من الشباب وقد تجمهروا حول رمضان.. صاحب الكشك وزوجته في عراك دائم .. أخذت قسطا من الراحة واتسعدت أنفاسي .. وبدأت انادي على رمضان عله يسمعني ويمنحنى جواز سفري.. لكنه لم يكن يبالي ..كان منغمسا في فك الصراع .. كان محمد صاحب الكشك يدافع عن نفسه ويقول : طول عمري وانا مربوط جنبك لما تجيني الفرصة لحد عندي تحرميني منها ..ليه ..ليه … زوجة محمد كانت تردد جملة واحدة فقط وتقول : والله ماانا سيباك رجلي علي رجلك .. لم افهم ماذا كان يدور هناك.. ولم أكن أريد أن أفهم .. ماكان يهمني فقط هو الحصول على جواز سفري ..والافلات من الورطة التي كنت فيها .. الحاج آبو الفضل هو كذلك كان هناك يحاول الصلح بينهما .. رأيته وقد أصابه العياء لكبر سنه .. خرج من تلك الزحمة .. أخد سبحته التي كانت ملقاة على الارض.. ولما رفع رأسه رآني أقف مباشرة هناك في الخلفية .. حينها صاح الحاج أبو الفضل بأعلى صوته وقال : المغربي أهو جي .. هو اللي حيحلها انشاء الله … توقف العراك ..انتبه رمضان لوجودي وجاء يجري وهو يحمل جوازي ورقة وقلم ..قال لي وهو يبتسم ابتسامة ممزوجة بالخوف والترحيب : ليه نزلت ياصاحبي ماتخليك في البيت تشرب الشاي على راحتك .. الحاج ابوالفضل تدخل وقال لي بصريح العبارة : أولي يا مغربي.. العمال اللي عايز تاخذهم معاك للمغرب تحتاج رجالة فقط او يجوز تاخذو الراجل وزوجته ؟ صدمت لما قاله الرجل .. أحسست نفسي في ورطة أكبر مما فات.. وقفت مشدوها امام الجميع ..الكل كان ينتظر جوابي ..وانا كنت في حيرة من أمري ..رمضان التفت الي وبدأ يستعطفني بنظراته..كان يخشى ان أكشف تدليسه أمام الجميع .. وفي نفس الوقت كنت خائفا أنا أيضا أن ينالني جزء من العقاب ٬لان جوازي كان بيده وهو أداة الجريمة .. هو فقط صراع محمد صاحب الكشك وزوجته من فضح المستور …نظرت الى الورقة في يد رمضان وقد احتوت على قائمة من أسماء بعض البؤساء الذين كانوا يعتقدون أنهم مرشحون للسفر الى المغرب للعمل ..ثم نظرت لصاحب الكشك وزوجته . التفتت نحو رمضان.. بنظرة حادة باغتته .. ومن نظراته شعرت بخوفه الشديد . طلبت منه أمام الجميع منحي جواز سفري .. نظر الى الجميع فزاد خوفه ..منحني اياه بهدوء تام .. أخذت الجواز وأعدته الى الحقيبة الجلدية حول بطني .. دخلت بين صفوف الشباب العاطل واتجهت نحو المحطة ..لم اكن ألتف الى الوراء .. فقط كنت اسمع بعضهم يقول : هو مالوا عمل كيدة ليه ..؟ وسمعت رمضان يقول لهم : ارتحتو اهو زعل وروح … لما شعرت بابتعادي عنهم ..سلمت ساقي للريح..وعندما وصلت الى المحطة.. استقلت سيارة نص نقل كانت على وشك الانطلاق في اتجاه لا أعلمه .. كنت أشعر أن رمضان كان يجري ورائي ..لم اكن متأكدا من ذلك..لكن عندما انطلقت السيارة التقت نظراتنا ..لقد كان هناك فعلا .. لمحني من زجاج السيارة وهي تسير .. تبعني كالكلب المسعور ..رغم اني لم اكن قد تمكنت من ٬ الا أن ملامح وجهه للاسف كانت تدل على أنه كان يلعنني.. يسبني .. يشتمني … بعد ان ابتعدنا عن المحطة ..فتحت جزءا من النافذة ..استنشقت ما تيسر من الاوكسجين .. وبنظرات يشوبها الحزن كنت أتابع مرور السيارات ..اتابعها بدون تركيز …بدون رغبة…كنت اشعر كأني قطرة في بحر تتلاعب بها الامواج .. تدفعها نحو عمق عالم مجهول . محبتي التي لا تشيخ .