... حينما كان المغاربة يستمعون إلى الخطاب الملكي ل 9 مارس كنت في لحظته أتأمله وأتساءل مع نفسي حول رد فعل المحيط الملكي من هذا الخطاب وطبيعة تأثيره عليهم وعلى مصالحهم. أما ما جاء فيه فأنا أعتقد أنه شكل دافعا إلى حوار اجتماعي وسياسي بشأن المرحلة المقبلة في هذا البلد، لكن رغبة مني في استكشاف ما خلف هذا الخطاب وبموازاة الضغوطات التي يواجهها القصر حول موضوع الدستور والتي نتج عنها مضمون هذا الخطاب؟ إدراكا لطبيعة القصر كمؤسسة سياسية لها خيوط تمتد على المستويين السياسي والاجتماعي من خلال المؤسسات ولدور الملك الدستوري، ولطبيعة المخزن المتمكنة من السلطة. كما تمتد على المستوى الاجتماعي من خلال التركيبة الاجتماعية بالمغرب، وذلك بفضل مؤسسات أنشئت لتقوم بدور اجتماعي، ومنحت لها الوسائل لاستعمالها بطريقة ممنهجة كمطية للتدخل في المجال الاجتماعي. تجدر الإشارة قبل الدخول في تفاصيل الموضوع إلى أن الضغوطات لا تتم دائما بشكل مباشر، لكن تصل من خلال إشارات تارة يلتقطها القصر وأخرى يتنبأ بها أو يفرضها عليه موقعه كمحافظ على التوازن السياسي العام في إدارة الدولة، وكيفما كان الحال فإن قراءتنا لهذه الضغوطات المختلفة ستنطلق من الاستناد على بعض الافتراضات التي قد تكون صحيحة وقد لا تكون، محاولين خلخلة القرار السياسي الذي كان وراء التوجه نحو التعديل الدستوري أو مناهضا له لاحقا. لا ندعي من خلال هذه الافتراضات ضبطنا لعلاقات القصر بمحيطه أو بعلاقاته الدولية، ولكن نحاول أن نقرأ قدر المستطاع ما لا نضبطه أصلا. لذلك فالمغرب، ومن خلال القصر، يعرف حتما ضغطين دوليين بديهيين في ظل المرحلة التي نعيشها، أولها الوضع العربي بتجلياته وحراكاته وثوراته وما سيكون لذلك من انعكاس على المحيط الاجتماعي بالمغرب، والذي نعتقد أن له الشرعية التاريخية والسياسية في التطور أكثر من شعوب دول العالم العربي. ذلك أن تاريخ ونضال الشعب المغربي وما حققه من مكتسبات يجعله مؤهلا لهذا التحول أكثر من الشعوب العربية الأخرى، وأنه لن يقبل أن يحيد سياسيا واجتماعيا عن الدرجة الأولى التي كان يحتلها قبل الثورات العربية الأخيرة باعتباره أكثر الشعوب والأنظمة العربية انفتاحا وأحسنها في ممارسة الحريات السياسية والنقابية والفكرية. في حين يمكن التنبؤ بأن الممارسة السياسية في العالم العربي ستعرف انفتاحا وديمقراطية أكبر، قد يصل مداها إلى الأقصى، نظرا لضغط ثوراتها، مما سيجعل المغرب ينتقل في انفتاحه السياسي من المراتب الأولى إلى مراتب وسطية أخذا بعين الاعتبار ما تعرفه دول الخليج من جمود سياسي وهيمنة سلطوية لا تقبل التغيير على الأقل مرحليا. لذلك فإن مسألة التأهيل السياسي والتاريخي التي يعتقد المغاربة توفرهم عليها، ستجعل الحراك الشعبي فارضا نفسه كحالة طبيعية لمجتمع يتطور، ومن ثم يلعب العنصر الدولي للثورات العربية محفزا ومحركا للعملية السياسية الداخلية بما فيها التعديل الدستوري الذي قد يكون من نتائجه أيضا. أما العنصر الدولي الثاني فيشكله دور الدول الأوروبية والولايات المتحدةالأمريكية التي لا ترغب في زعزعة الاستقرار السياسي بالمغرب، نظرا لاعتباره نموذجا سياسيا، إسلاميا وحداثيا في نفس الوقت، منفتحا، ومندمجا في بعض الممارسات الديمقراطية، من ثم كان المغرب دائما يتعرض لضغوطات أكثر، رغبة من الغرب في الحفاظ عليه كنموذج للعالم العربي وكنظام إسلامي، يتوفر على إمارة المؤمنين، والقريب في ذات الآن من النظامين الأمريكي والأوربي والحليف لهما، ومن ثم لا يريدون لهذا النموذج أن يعرف اهتزازات، خاصة أن الموقع الجغرافي والدور الإفريقي للمغرب يجعل مصالح الدول الكبرى في القارة الإفريقية مهددة جراء أي اهتزاز سياسي جدري في المغرب. وعليه فإن العنصر الدولي يعتبر حاسما للضغط السياسي على القصر في المغرب. أما إذا انتقلنا إلى الضغوطات الداخلية، فإننا سنراها متشعبة ومعقدة وجلها مرتبط بالمحيط الخاص والعام للقصر، والباقي منها مرتبط بطبيعة الحركية السياسية والوعي السياسي داخل المجتمع المغربي. أولا : المربع الملكي بين الدستور المكتوب والدستور العرفي : لا يمكن أن نتجاهل أن للملكية مربعا ثارة يكون مقدسا وثارة يتجاوز هذا التقديس ليثير نقاشا حول مدى مشاركته في القرار السياسي، ولأن هذا المربع له موقع ومصالح فإننا نفترض مجازيا أن يكون بعضهم معاديا لأي إصلاح بما يرون فيه من مجازفة بموقع يتموقعون فيه من خلال علاقة الدم بالأسرة المالكة، ولأن تقليص اختصاصات الملك قد يحد من أي تحرك مصلحي لفائدتهم مستحيلا. وسيبرز ذلك من خلال دفاعهم المستميت عما يسمونه بالتقاليد المرعية التي حاول ملوك العلويين الحفاظ عليها كحصانة للسلطة. بل إن المغفور له الحسن الثاني قام بواسطة علماء التاريخ بتدوين تاريخ العادات والتقاليد والبروتوكولات قصد الحفاظ عليها باعتبارها مرتبطة بوجود النظام ككل، مما يجعل أي مهتم يستنتج أن هناك دستورين : دستور مكتوب نتنازع حوله، ودستور عرفي نجهله. لكن يبدو جليا من خلال تلك التقاليد والتصرفات والقرارات الناتجة عن بروتوكولات النظام هي مصدر سلطة المربع الملكي والتي يغفل الكثيرون الحديث عنها، لذلك من المناسب التفكير بموازاة تعديل الدستور المكتوب التخفيف من حدة البرتوكولات التي تشكل في بعض الأحيان حاجزا بين المكونات السياسية والملك، أي إعادة النظر في الدستور العرفي. ثانيا : المحيط الوظيفي وتقاطع الاقتصاد بالسياسة : إن إطلاق وصف المحيط الخاص بالمربع الملكي يبقى المحيط الذي يشتغل وظيفيا قرب الملك من أصدقاء الدراسة، ومرحلة ولاية العهد، ومتموقعي البروتوكول، ومستشاريه الذين أصبحوا ينقرضون واحدا تلو الأخر، أغلبهم يتوجسون من هذه المراجعات التي اقترحها الملك، ويحاولون الحد منها، أو على الأقل التقليص من نتائجها. أعتقد أن هؤلاء أخطر ضغطا على الملك، لأنهم يتواجدون بين المكونات السياسية والاجتماعية وداخل القصر، فمن خلالهم تنتقل الاقتراحات والرسائل، وفي جل الأحيان يُعتمد على استنتاجاتهم لاتخاذ القرار، وهؤلاء طوال عشر سنوات الأخيرة، شكلوا شبكات مصالح وعلاقة زبونية معقدة، مستندة على الممارسات التي يوظفون فيها سلطات الملك، والتي باسمه تمارس عدة تصرفات، تارة اقتصادية وتارة أخرى سياسية، بدعوى أنها إرادة الملك، ولأنه لا أحد يستطيع أن يتأكد من انسجام الإرادة الملكية مع هذه التصرفات مما يجعل احتمال السقوط في انزلاقات سياسية شيئا واردا، خاصة عند توظيف موقع العلاقة مع الملك من أجل مصالح المجموعة أو الفرد، والتي قد تبدو حالة بديهية في أعينهم. وأعتقد أن هؤلاء يشكلون أكبر عرقلة لعملية الإصلاح في الوطن، ليس لأنهم من المحيط الملكي فقط ولكن لأن موقعهم منحهم اختراقات خطيرة داخل المكونات السياسية والاقتصادية، بل وصفوا في مرحلة ما باحتكارهم للسلطة التي للملك على المستوى السياسي والاقتصادي، أي أن الملك يسود وهم يحكمون، وأعتقد أن هؤلاء -منهم من رفعت صورهم في مظاهرة 20 فبراير و20 مارس- هم أكبر قوة ضاغطة في مواجهة أي إصلاح سياسي، لان قضية المراجعة الدستورية وإصلاح التركيبة السياسية هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم. ثالثا : رجال الأعمال طلاق بائن أو رجعي : لم ألاحظ طلاقا بين القصر وبعض رجال الأعمال كما لاحظته في المدة الأخيرة، فلأول مرة يخرج بعض من رجال الأعمال إلى الشارع، وهذا التصرف له دلالة كبرى، خاصة إذا أدركنا أن القصر في الماضي كان دائما يعمد إلى تقريب رجال الأعمال منه، مع إبعادهم عن توظيف القصر في صراع مصالحهم، ففي الماضي كان لهم إجماع حول القصر ونزاع وصل إلى حد اقتتال بعضهم حول المصالح، غير أن قيام البعض في ربط قنوات الاتصال مع بعض من المحيط الوظيفي للقصر وخلق مصالح مباشرة، كثيرا ما تُنعت بزواج السلطة بالثروة مما حذا ببعض المقصيين إلى التحرك والانضمام إلى الحراك الاجتماعي بالمغرب، لأنهم يعتبرون أن قواعد المنافسة لم تعد محترمة كما كانت، فالبعض مقرب من محيط القصر ويحظى بالامتيازات، والمشاريع، والأراضي، والبعض الآخر مهمش، ويتعرض لهجمات اقتصادية وإعلامية. بل تُحرك بشكل مغرض في مواجهته آلة المراقبة الضريبية، أو تُخلق له عراقيل إدارية لإفشال استثماراته ومشاريعه. وأعتقد أن هذا الشرخ الذي أصاب عددا من رجال الأعمال في موقفهم تجاه القصر يطرح إشكالات كبرى لكون هؤلاء يشاركون في القرار الاقتصادي الذي يعتبر أكبر عنصر فعال في عملية الاستقرار بالمغرب، وهؤلاء يعتبرون أن صراعهم مرتبط بالمحيط الوظيفي للملك وأن هذه المراجعة الدستورية قد تحد من تلك السلطات التي هي للملك والتي يوظفها بعض مما نعتناهم بالمحيط الوظيفي ضد بعض من رجال الأعمال، بل إنهم دُفعوا إلى رفع شعار التخلص من « التسلط » السياسية والاقتصادية وأدمجوها بشعارات الإصلاح السياسي، ومن ثم فان رجال الأعمال هؤلاء يتصرفون بانتهازية مع الحركية السياسية في المغرب من أجل تدليل العقبات لمراكمة الثروات وفتح المجال لهم للمشاركة في الغنائم الاقتصادية لوطننا الفقير. وأتذكر في جلسة خاصة قال فيها أحد رجال الأعمال حينما ذكرتُه بأنه في عهد الحسن الثاني هم أنفسهم كانوا لا يتوانون عن سرقة ثروة البلد، فأجاب بجرأة يشوبها نوع من الوقاحة :« في عهد الحسن الثاني كنا نسرق جميعا والآن هم يسرقون لوحدهم دوننا، والمغرب لنا كلنا ». إن هذه الشريحة الاقتصادية، بدورها، عنصر ضاغط على العملية السياسية في المغرب، وتتجه إلى دعم الحراك الاجتماعي بدعوى الإصلاح السياسي رافعة شعار :« دعهم يثوروا، دعني أغتني أكثر ». وهؤلاء يشكلون كذلك مصدر ضغط، نظرا لما يملكون من قدرة على التشويش، وذلك بتمويل الحركية الاجتماعية في المغرب واستعمال الآلة الإعلامية التي ندعوها تجاوزا بالمستقلة. العنصر الديني بين « الله » وقيصر : يشكل العنصر الديني خطورة قصوى. بل إن صفة أمير المؤمنين التي يتضمنها الفصل 19 من الدستور هي التي جعلت هذا الفصل موضوع اتهام من طرف البعض باعتباره يختزل سلطات كبرى مناقضة لمبدإ توزيع السلط التي تنص عليها مقتضيات أخرى بنفس الدستور. ونظرا لتراكم مجموعة من المهام والأوصاف في ثنايا الفصل 19 مما يجعله دستورا داخل دستور، أو دستورا مستقلا استعمل في الماضي من طرف الحسن الثاني، والغريب في الأمر أن الذين يطالبون اليوم بإلغاء هذا الفصل هم أنفسهم الذين لا يرون حرجا في مطالبة الملك بالقيام بمجموعة من الإجراءات الإصلاحية التي لا يمكن أن تتم إلا من خلال ما يملكه الملك من سلطات تنبع من الفصل 19 نفسه. وبعودتنا إلى الشأن الديني يمكننا القول إنه موضوع يتنازعه تياران، الأول له أهداف سياسية يعتبر إمارة المؤمنين مصدر شرعية النظام ولأننا شعب مسلم لا يمكن أن نختزل هذه الشرعية في النظام وحده، خاصة أن هذا العنصر الديني يشترك فيه القصر مع بعض الحركات السياسية الدينية، خاصة المتصوفة منها أو المؤسساتية كالمجالس العلمية، في حين يعتبر هذا الاختزال للعنصر الديني في إمارة المؤمنين مصدر إلغاء أية إمكانية للحركات الإسلامية السياسية في الحصول على الشرعية الدينية التي تريد من خلالها اختراق المجتمع والحصول على مكاسب سياسية لمكوناتها ولحركاتها وهو التيار الثاني. وهكذا انفصم الخلاف ليؤسس حركية سياسية تعتبر أن النظام أساء إلى الدين واختزل في نفسه مهامه دون القيام بها، وذلك يتبين من الضعف الديني للشباب والفساد الأخلاقي، أي بعجالة مجموعة من أحكام القيمة، وهذا شكل قطبين متناقضين، الأول يعتبر أن الفصل 19 فصل مشروع بما يملكه من سلطات دينية لأنها ترتبط بشرعية وجود هذا القطب « المجالس العلمية » و« وزارة الأوقاف » و« حركة التصوف »، والقطب الآخر وهو الثاني الذي يبحث عن موطئ قدم سياسي من خلال الدين ويريد أن ينزع هذه الشرعية الدينية للنظام لأنه يعتبرها ليست لقيصر ولكنها لله. لهذا فإن هذا الخلاف يشكل بدوره ضغطا على القصر خاصة أنه موضوع حساس ويطرح سؤالا كبيرا :« كيف نخفف من الضغط الديني لدور أمير المؤمنين لفائدة الدور السياسي للملك دون أن نتجاهل المطالبة بالتقليص من الدور السياسي للملك نفسه؟ » أي أننا أمام معادلة معقدة يتنازعها الديني والدنيوي. الأحزاب السياسية المنزلة بين الملك والشعب : تلعب الأحزاب السياسية دورا آخر في الضغط بشأن هذه العملية السياسية التي يعيشها المغرب. فمن الأحزاب من يعتبر أن المحيط الوظيفي للملك يتحكم في الساحة السياسية من خلال تأثيره على اختيار الوزراء وكبار المسؤولين ويصل هذا التأثير إلى اختراق نتائج الانتخابات، وهذا التصرف تعتبره هذه الأحزاب قاضما لكثير من استحقاقاتها السياسية وتعتبر أن كثيرا من سلطات الملك التي يتركها لمحيطه السياسي توظف في مواجهة هذه الأحزاب، بل وصلت إلى درجة الإخلال بالسير العادي للأحزاب من خلال فرض أشخاص في القيادة ضدا على قواعدها (التجمع الوطني للأحرار) (حزب الشورى والاستقلال) غير أن هذه الأحزاب نفسها ترغب في إصلاح مضبوط لا يجعل هذه الإصلاحات تنعكس على سيرها العادي ذلك أن منح سلطات كثيرة للأحزاب في حالة وصولها إلى السلطة التنفيذية سيجعل الشارع يخترقها وهذا يشكل خطرا على القيادات الموجودة التي تذهب ضحية أي دور موسع للأحزاب أو أي غياب كلي لصناعة هندسية لقياداتها من طرف السلطة. ذلك أن تدخل السلطة في اختيار قادة هذه الأحزاب مازال يضمن لهذه القيادات الاستمرارية في مواقعها بينما توسيع الممارسة الديموقراطية في العملية الدستورية ينعكس على الأحزاب مما يهدد قيادتها، بل إن هذه المراجعة الدستورية قد تقطع مع الماضي الشيء الذي يفرض تشبيب القيادات السياسية وهو ما لا تريده هذه الأحزاب، إضافة إلى أن طبيعة أغلب الأحزاب الحالية وارتباطها بالمحيط الوظيفي للملك يرضي بعض اللوبيات داخل الأحزاب وأن أي قطع لهذه العلاقة سيقطع الدعم عن هذه القيادات وستكون نهايتها، بالإضافة إلى أن الأحزاب « السياسية الصغيرة » تطالب بالإصلاحات الكبرى لكونها ليس لديها ما تخسره وأن هذه الإصلاحات قد تفكك الأحزاب الكبرى من الداخل وهذا سيشكل مكسبا لها، مما تجعل الضغوطات تتناقض بين الأحزاب الكبرى وطبيعتها والأحزاب الأخرى وطبيعة مصالحها. أما العنصر الإضافي الثاني فيكمن في أن هناك أصواتا عليا ارتفعت توجه الاتهام إلى حزب الأصالة والمعاصرة، بل إن البعض تنبأ بنهايته، وهذه الوضعية جعلت البعض يفكر في قضم المساحة التي يحتلها هذا الحزب في موضعه بين القصر والأحزاب السياسية من خلال التعبير عن مواقف خجولة حول تعديل الدستور، محاولين في ذلك تقديم أنفسهم كبديل عن هذا الحزب إلى القصر، مما جعل مواقفهم متذبذبة وباهتة في حقيقة الأمر لن تنفع في موقفهم الشعبي ولن تخدم القصر في أي شيء، بل أن بنكيران قائد العدالة والتنمية لم يتوان في التعبير عن ملكيته المطلقة موجها عدة رسائل إلى القصر : « نحن ملكيون أكثر من علي الهمة، وأن ما يقال لكم مجرد كذب وبهتان » طامعا في التفاتة تصل إلى درجة التعيين في الوزارة الأولى لكونه يعتبر نفسه مؤهلا لها، وأنه فقط وفقط ملكي القناعة.... الضغط الشعبي وتجاذب الوعي والمصالح : أعتقد أنه من الموضوعية والتواضع أن ندرك أن الشارع المغربي لم يخرج طالبا الإصلاحات السياسية بنفس الزخم والحماس الذي خرج به الشارع العربي ككل، نعتقد أن ذلك ناتج عن عدة أسباب أهمها : 1) إن المغرب عرف تراكمات سياسية خلق نوعا من الإنفراج السياسي خفف من حدة الضغط والاحتقان. 2) إن الأحزاب الوطنية ساهمت في تشكيل نوع من الوعي السياسي مفاده أن الاستقرار السياسي مرتبط باستمرار الملكية والذي ينتج عنه نوع من الاستقرار الاقتصادي. 3) إن التوظيف الشعبوي لبعض الإذاعات والقنوات الدولية لم يكن بنفس الحدة على المغرب. 4) الضربة الاستباقية لخطاب 9 مارس 2011 قلصت من حدة التوتر. إلا أن الوضع الشعبي يمكن اختزاله في ثلاث ملاحظات أساسية : 1) إن ثقافة الريع الاجتماعية التي عرفها المغرب منذ عشرات السنين من خلال مؤسسة محمد الخامس للتضامن ومشاريع السكن الاجتماعي والقضاء على مدن الصفيح خلقت نوعا من التحالف بين القصر وبعض من الطبقات الشعبية والتي ترى أن مصالحها في الحصول على ما تيسر من السكن وبعض من الصدقات المؤسساتية تصنع لها نوعا من هذا التحالف. 2) إن الطبقة الوسطى في المغرب ورغم ما تعرفه من صعوبات مازالت تحافظ على نوع من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية، وهي طبقة مسيسة وحاضرة عبر الأحزاب ولم تتضرر كثيرا بالأزمة الاقتصادية التي عاشها المغرب، لذلك لم تنهض بشكل كلي لكي تثور، مما يجعلها تكتفي بالوضع الحالي مراقبة التطور الشعبي العربي وتتعامل معه بنوع من الانتهازية، مدركة أن ذلك سيكون له تأثير إيجابي على ممارسة السلطة في المغرب، من دون أن تقدم -كطبقة وسطى- تضحيات. والحقيقة أن هذه الطبقة ستظل جامدة مادام وضعها الاقتصادي مازال مريحا بشكل نسبي، كما أن الوضع السياسي الحالي والمستقبلي قد يلبي بعضا من الطموحات السياسية لها. شباب الفايسبوك إرادة التغيير ونزوعات الإجهاض : يبدو أن هؤلاء الشباب لهم عالمهم الافتراضي، ومن الطبيعي أن يتحركوا لكونهم قادرين على التواصل عبر الفايسبوك على المستوى الوطني والدولي، كما يمنحهم -في نفس الوقت- الاطلاع عن تجارب الآخرين من الدول العربية الأخرى، غير أنهم لم يستطيعوا أن يؤسسوا توجها فكريا يجمع حولهم الشارع المغربي، فتضاربت شعاراتهم بين مطالب اقتصادية وأخرى سياسية وأخرى ذاتية (مثل التشغيل) بالإضافة إلى ذلك سرعان ما تعرضوا لهيمنة سياسية من بعض المكونات السياسية والحقوقية ورجال الأعمال وهؤلاء لهم أوراق ضغط مختلفة ومتناقضة في بعض الأحيان، لهذا لم يستطيعوا أن يؤسسوا قوة جماهيرية وتصورا فكريا مشتركا فتواجهوا مع أطراف مختلفة داخل النظام مستبعدين القصر، وهذا ما جعلهم يتشتتون سياسيا، في حين سنلاحظ أنه في تونس ومصر التقى شباب الفايسبوك مع الحركات السياسية في مواجهة رئيس الدولة، ومن ثم كان تأثيرهم في بلدنا تارة يخبو وتارة يرتفع، غير أن البعض منهم أصبح يطرح تساؤلات حول أهمية حركيتهم بعد الاختراق الذي قام به خطاب 9 مارس 2011، إضافة إلى أن هذه المعطيات تجعل الضغط جليا من خلال المواقف المعبر عنها والذي يستشف من الحوار الدائر حاليا على المستوى الوطني. اللجنة الدستورية بين الأصالة والمعاصرة : يعتقد البعض أن هذه اللجنة أسست لتكون مصدر حل للخلاف السياسي الذي يعيشه المغرب في الظروف الراهنة، وبغض النظر عن الخلاف الذي عرفه موضوع تشكيل اللجنة، باعتبارها مؤسسة صنعها القصر بناء على مقاييسه التي يدركها هو، أما نحن فنجهل العنصر الإيجابي منها وندرك فيها العنصر السلبي فقط، والذي يمكن اختزاله في محاولة جلب شخصيات بعيدة عن القرار السياسي القيادي. لكننا لا يمكن أن نتجاهل أنها تتضمن شخصيات لها نوع من الحضور الفكري كرئيسها وبعض أعضائها، بينما تتضمن محافظين قد يعرقلون عملية الإصلاح، أما الطرف الثالث فيها فيمكن أن نلاحظ أنه تحوم حول وجوده في هذه اللجنة علامات استفهام لتواضع إنتاجه الفكري وتذبذب مواقفه. وكيفما كان الحال فإن تركيبة اللجنة توحي بأنها ستعرف صراعا عنيفا بين المتنورين والبعض الآخر من المحافظين الجدد الذين لهم تاريخ في إدارة بعض مؤسسات الدولة بشكل سلبي، وهؤلاء المحافظون سيرفعون شعارات من أجل الاختباء وراءها وإحراج الآخرين بدعوى الحفاظ على الملكية وعدم التفريط فيها من أجل الحد من جرأة أعضاء اللجنة المتنورين أو العمل على إفراغ الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 من محتواه الجريء، ولقد اكتُشف هذا التصرف أمام الملأ حينما كان يُناقَش قانون الحريات العامة تحت رئاسة عبد الرحمان اليوسفي فيما يهم التنصيص على عقوبات سجنية عند المساس بالاحترام الواجب للملك. ولأن اللجنة اكتسبت من خلال الخطاب الملكي والهالة الإعلامية التي أحيطت بها نوعا من الحضور القانوني والأدبي الذي سيفرز ضغطا بدوره على القصر، غير أن ضرورة وفاء الملك لخطابه التاريخي يشكل التزاما ذاتيا للملك أمام شعبه خاصة عندما أنهى خطابه بالآية القرآنية الكريمة :« إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب »، بكل ما تملكه هذه الآية القرآنية من دلالات أخلاقية وسياسية تجعل الملك يتجاوز اقتراحات اللجنة الدستورية في حالة نكوصها، لأننا متأكدون أن التركيبة الحالية لها « اللجنة » ستقدم الحد الأدنى المطلوب بدعوى الحفاظ على التوازن السياسي، في حين أن المرحلة تقتضي الحد الأقصى لإخراج شعار المجتمع الديمقراطي الحداثي إلى مستوى الواقع. إضافة إلى كل هذه العناصر لابد من الإشارة إلى أن هناك مصادر ضغط أخرى مثل مؤسسة الجيش والإدارة واللتين تشكلان قوة سياسية صامتة، لكن حضورهما فقط يشكل ضغطا على القرار السياسي، فلا يمكن للقصر أن يتخذ قرارا دون أن يأخذ بعين الاعتبار انعكاسه على الجيش أو عمل الإدارة، مما يجعل وجودهما يشكل ضغطا سياسيا إضافيا. إن هذه المكونات في مجملها تصنع نوعا من الضغط على القصر، سواء من خلال مواقفها في بعض الأحيان فقط، أو من خلال وجودها، فهي تفرض إنتاج نوع من التوازن بينها من أجل إنشاء قرار يضمن سير الدولة ويرضي الأغلبية وليس الجميع. غير أن ما يمكن ملاحظته أن هذه الضغوطات وبقدر تأثيرها على اللجنة المكلفة بمراجعة الدستور فإن تأثيرها يكون أكبر على القصر بوصفه الجهة المسؤولة على ضمان التوازنات واتخاذ القرارات الكبرى التي قد تغير كثيرا من المسارات. إن ما يثير انتباهي ليس نتائج المراجعة الدستورية فقط لكن الإجراءات التي ستتم في ثلاثة شهور المتبقية، لأن نجاح المراجعة الدستورية رهين بإعادة النظر في المكونات السياسية في البلد وطبيعة الأشخاص الذين يديرونها والتخلص من بعض الشوائب السياسية والاقتصادية حتى يأتي مشروع التعديل الدستوري غنيا بكل هذه التحولات، ويجد مشروعيته في الوجود. أما إذا كنا سنعرف دستورا بنفس المؤسسات والأشخاص السابقين فأعتقد أن المواطن والمكونات السياسية والاقتصادية لن تعطي أهمية قصوى للنصوص بقدر ما تحكم عليها من خلال طبيعة المؤسسات التي ستنتجها وتصححها، وهي مسألة معقدة خاصة إذا أدركنا أن القصر قد لا يمكنه أن ينجز تغييرات كبرى في هذه المرحلة انتظارا للنتائج العملية الدستورية غير أن الشارع يتسم بحركية غير معهودة لا ينتظر المراجعة الدستورية فقط، لكن إعادة النظر في المؤسسات والأشخاص وهي مسألة أخطر ما فيها وأخطر ما يهددها هو عنصر الزمن، هذا الزمن الذي يحيل اليوم وأكثر من أي وقت مضى على المستقبل يجد رمزيته في حضور ولي العهد، لأول مرة في مراسيم إلقاء خطاب ملكي حول دستور المغرب الآتي.