رحم الله إدريس البصري وزير الدولة في الداخلية الأسبق، الذي خاطب المغاربة من على قبة البرلمان، عندما كثر الكلام عنه حتى أصبحت كل مصيبة هو المسؤول عنها، وإن كان مسؤولا عن بعضها، حتى إن سقطت سيارة في حفرة يقال إن المسؤول هو البصري، أو حتى لو أخطأت مذيعة في التلفزة لغويا فإن السبب هو البصري، قال كلمته الشهيرة بلكنته الفرنسية القادمة من ربوع الشاوية : أنا خادمة بيت الحكومة. ضحك البرلمانيون، الذين هم في أغلبهم إما يضحكون أو ينامون أو يتغيبون عن الجلسات، ناسين على الأقل أن الرجل كان "شغالا" ليل نهار وكانت له، مهما يمكن أن يقال عنه ومهما ارتكب من أخطاء، صفة الرجل الذي يحب بلده ويشتغل أكثر من باقي الوزراء وحظي بأكبر وسام ملكي وبتكريم حكومة اليوسفي عقب إعفائه من مهامه. مناسبة ذكري البصري، هي الخرجات غير المحسوبة لعبد الإله بنكيران وتصريحاته وحواراته الإعلامية، التي بدا فيها قريبا من الفكاهة أكثر من رجل السياسة الحاذق الماهر، ومن قفشاته المضحكة هو أنه لا يريد التعامل مع أحد غير الملك. هذه القصة تذكرنا بالراحل أحمد رضا أكديرة، المعروف بأنه داهية حكم الملك الراحل الحسن الثاني، الذي أخطأ في مفاوضاته مع الكتلة الديمقراطية، أيام كانت كتلة ديمقراطية يقودها زعماء من حجم امحمد بوستة وعبد الرحمن اليوسفي والراحل الكبير علي يعتة، وكانت المطالب الدستورية على أشدها، وكانت الكتلة تمثل نبض الشعب والشارع. لكن أكديرة أخطأ لا في دوره كمستشار للملك الراحل الحسن الثاني ولكن في دوره كقناة للمعلومات بين الكتلة والملك، وتحوير المعلومة في مثل هذه الظروف قد يكون كارثيا، ونتج عن هذا التحوير البلاغ الشهير الصادر عن الديوان الملكي الذي ارتقى بإدريس البصري مرتبة تضعه ضمن مقدسات البلاد، وهو الذي كانت الكتلة الديمقراطية ترفض المشاركة في الحكومة إلى جانبه. لم يتردد الملك الراحل الحسن الثاني في طرد أكديرة، وتوسل إليه كثيرون، من بينهم أحد فقهاء القصر، قصد إعادته إلى موقعه لكن الملك الراحل أجاب بعبارة بلغية عندما قال : أنا لم أطرد أكديرة صديقي ولكن طردت أكديرة الموظف بالديوان الملكي والذي أخطأ في حق الدولة التي يتقاضى من خزينتها أجرا. ومن مكر التاريخ أن عادت الكتلة الديمقراطية، التي تفاوضت في عز قوتها مع إدريس السلاوي وأحمد رضا أكديرة، عادت لتحكم مع البصري نفسه الذي رفضته في السابق ويقوم زعيمها اليوسفي بتكريمه في حفل الشاي المعروف. وظهر أن بنكيران ومجموعته وزعماء العدالة والتنمية ليست لهم معرفة بتفاصيل تاريخ المغرب السياسي القريب، وبالمناسبة فالتاريخ الذي نتحدث عنه كان فيه بنكيران مشغولا في البحث عن اللجوء السياسي إلى أحد الأحزاب القائمة بعد منع تأسيس حزب التجديد الوطني، وليست لهم معرفة بمجريات التطور السياسي في المغرب ولا بتجارب التفاوض حول الحكومات، والجهل بطبيعة الحكم في المغرب والتي تؤكد أن الملك يستعين بمستشارين لكن لا يقبل الزيغ عن جادة الصواب. هذا الجهل بهذه التفاصيل أوقع قادة العدالة والتنمية في تصريحات لا معنى وفي مونولوغات لا يرد عليها أحد وعلى حد قول المغاربة، وليس الوالدة طبعا، "بوحدو يفك ويحل". وكما قلنا في افتتاحية أمس فإن رئيس الحكومة يدبر مجموعة من القطاعات والملك هو رئيس الدولة، ويحتاج إلى مستشارين كما يحتاج إليهم بنكيران نفسه لتدبير مجموعة من الملفات الاستراتيجية، وإلا فبنكيران يريد تقزيم الدولة وحصر الحكم في شخص واحد، لكن المؤسسة الملكية ترفض مثل النوع من الحكم الشبيه بالحكم الثيوقراطي، لأن المؤسسة الملكية تعمل في إطار إمارة المؤمنين مستعينة بالمجلس العلمي الأعلى وعن طريق الحكومة يتم تدبير الشأن العام وهكذا دواليك. يا ليت قومنا من أبناء العدالة والتنمية يفهمون.