بعد الانتخابات المحلية والجهوية الأخيرة خرجت عدة أصوات لتتحدث عن "هزيمة اليسار" في ضوء النتائج التي أفرزتها الاستحقاقات المذكورة. والحال أن مثل هذه الأطروحات تُصور الأمر وكأنه تراجعٌ مرحلي، أو طارئ، ليسار كان له امتداد فعلي داخل المجتمع وانحسر في الانتخابات الأخيرة. وهذه، في نظري، مغالطة كبرى قد يسقط فيها مَن لم يواكب المرحلة التي كانت تُنعت ب"العصر الذهبي" لليسار المغربي. أما أن يصدقها بعض اليساريين أنفسهم، أو المتياسرين بالأحرى، فهو ما لا يمكن أن يجد تبريره سوى في الرغبة الدفينة في إيجاد مشجب يمكن أن تُعَلقَ عليه الأوضاع المخزية التي ظل اليسار المغربي يعيشها منذ أن كان. أعرف تماما أن ما أذهب إليه هنا سيغضب كثيرا من المناضلين الصادقين، الشرفاء، والنزهاء، الذين ينتمون إلى مختلف أحزاب وفصائل اليسار. لكن الصدق، والشرف، والنزاهة، وكل القيم النضالية السامية هي أول ما يدعو إلى التساؤل بموضوعية عما إذا كان اليسار المغربي، يوما ما، قوة سياسية حقيقية وفعلية داخل المجتمع؟ وهي تفرض، قبل غيرها، أن نسعى للإجابة عن هذا السؤال بأكبر قدر ممكن من التجرد. يبدأ تاريخ اليسار المغربي من سنة 1943 التي شهدت تأسيس الحزب الشيوعي المغربي، الذي تحول لاحقا إلى حزب التحرر والاشتراكية، قبل أن يصير "حزب التقدم والاشتراكية". وقد ظل الحزب يعرف انشقاقات تلو أخرى وتفرعت عنه، بشكل أو بآخر، جل فصائل اليسار الراديكالي بما فيها جبهة البوليساريو. ثم انضاف إلى الساحة اليسارية حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي انشق عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انشق بدوره عن حزب الاستقلال. وعن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية انشق تيار "رفاق الشهداء" ليصير لاحقا حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي. وبما أن الهاجس هنا ليس تأريخيا، فلا تهمنا التفاصيل الدقيقة في شيء بقدر ما يهمنا أن نلاحظ أن الانشقاقات المتوالية، والخلافات العقيمة، والدسائس، والمؤامرات الصغيرة، هي التي طبعت أساسا تاريخ اليسار المغربي في مرحلة الاستعمار كما في عهد الاستقلال. وهو ما جعله يساراً مشتتا، ضعيفا، غير قادر على تعبئة الجماهير حول برنامج حقيقي. أضف إلى ذلك أن سوء تقدير موازين القوى قد أدخل هذا اليسار، أو على الأقل جزءً منه، في معارك خاسرة، دون أن ننسى أن خلافات اليسار ودسائسه ومؤامراته الصغيرة تلك قد امتدت أيضا إلى الحركة النقابية لتشتت قوى المأجورين والفلاحين الصغار وباقي الفئات التي هي، موضوعيا، فئات متضررة من الوضع القائم. بل إن هذه الدسائس، والمؤامرات، قد امتدت أيضا إلى العمل الجمعوي الذي أصابه منها ضررٌ جسيم. وهكذا دخل اليسار المغربي عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي (وهي المرحلة التي توصف خطأ بأنها "عصر ذهبي" لليسار المغربي) ضعيفا، منهكا، لينخرط جزءٌ منه في المسلسل الديموقراطي من موقع الضعف لا من موقع القوة، بينما ظل الجزء الآخر في السجون العلنية، والمعتقلات السرية، والمنافي، لا يتعدى "فعلُه" اجترار الكليشيهات الأيديولوجية الجاهزة، وترديد أغاني الشيخ إمام وسعيد المغربي ومارسيل خليفة ومجموعة العاشقين في بعض المناسبات. وهو ما جعل منه يساراً خَطابياً وخِطَابياً بامتياز. بمعنى آخر فقد كان الوجود "الفعلي" لليسار في الخطابة والخطاب أكثر مما كان على مستوى تأطير الجماهير وتعبئتها على أرض الواقع. وحتى حين بدا في الثمانينيات والتسعينيات أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هو الحزب الأكثر حضورا في الواقع المغربي فقد كان الأمر أشبه بخدعة بصرية، أو لسانية بالأحرى، لأن الجماهير كانت منساقة وراء الخطاب البراق الذي كان ينتجه الحزب عبر جريدته و على لسان قيادييه أكثر مما كانت ملتفة حول برنامج فعلي للإصلاح والتغيير. بمعنى أوضح، فقد كان اليسار ناجحا على الدوام في استمالة جزء من الجماهير. لكنه كان، على الدوام أيضا، فاشلا في تأطيرها وتعبئتها. وبين الاستمالة (Persuasion) والتأطير مسافة شاسعة بكل تأكيد. ومع وفاة الملك الحسن الثاني يوم 23 يوليوز 1999، وبداية العهد الجديد، اقتحمت المؤسسة الملكية آخر قلاع اليسار، أي قلعة الخطاب والخطابة، وظهر الملك الجديد، الشاب، وهو يتحدث لأول مرة في تاريخ الملكية عن الفئات المحرومة والمهمشة بنبرة أقوى بكثير من خطاب مكونات اليسار التي كانت مشاركة في حكومة التناوب التوافقي. بل، أكثر من ذلك، وبينما كان بعض وزراء اليسار منهمكين في إقامة ضياعهم الخاصة لتربية الخيول الأصيلة، ظهر الملك وهو يسير وسط الجماهير دون حراسة تقريباً، ويتجول في أزقة أحياء الصفيح، والدواوير المعزولة، والمداشر النائية. وتواصلت وتيرة سحب بساط الخطاب من اليسار قولا وفعلا من طرف الملك الجديد حتى أضحت الصحافة الدولية تقول بصريح اللفظ بأن المغرب يسير بسرعتين: سرعة الملك وسرعة الحكومة التي كان يقودها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ومع الفضائح المدوية التي فاحت لاحقا، من اختلاس المال العام إلى تخصيص مبالغ خيالية للشوكولاتة والورود من طرف بعض وزراء اليسار، ارتسمت أمام الجماهير صورة الملك الأكثر يساريةً من اليسار، واليسار الأكثر تيامُناً من اليمين. وبالنتيجة، لم يعد هناك أي مجال لتنويم الجماهير عبر قرع منصة البرلمان، أو بالعناوين البراقة على الصحف، خاصة مع دخول البلاد مرحلة الطرق السيارة للمعلومات، والشبكات الاجتماعية، والهواتف الذكية، وما سوى ذلك من الوسائط الجديدة التي عرت كثيرا من فضائح اليسار، وكشفت في كثير من المناسبات عن ممارساته غير الديموقراطية. قد يُقال بأن اليسار خاض المعركة الفلانية أو المعركة العلانية، وبأن مناضليه قدموا تضحيات كبرى، وزاروا السجون وأقبية التعذيب، وما سوى ذلك. وهذه، بالطبع، وقائع لا سبيل إلى إنكارها. لكنها لا تعني بتاتا أن اليسار المغربي كان قويا في يوم من الأيام. بل إنه كان دائما في موقع الضعف وظل يلعب دور الضحية أكثر من أي دور آخر. وحينما أتيحت لبعض مكوناته فرصة المساهمة في تدبير الشأن العام لم تكن نتائج تدبيره مختلفة في شيء عن تلك النتائج التي حققتها الأحزاب التي كانت تُنعت ب"أحزاب الكوكوت" أو "أحزاب الإدارة". بل، في بعض الحالات، فإن زعماء اليسار بدوا أكثر جشعاً، وأكثر استغلالا للمأجورين، وأكثر هضما لحقوقهم، من اليمين. ولا داعي لأن ننكأ جراحاً قد تكون اندملت لدى البعض أو تكاد. لم يكن اليسار المغربي دائما إلا أقل من أقلية داخل المجتمع المغربي. ولم يكن يوماً في موقع المنتصر حتى يُقال اليوم بأنه تعرض لهزيمة انتخابية. والنتائج التي حصدها في الاستحقاقات الأخيرة تعيدنا ربما إلى تلك الجُملة التي واجه بها إدريس البصري محمد بنسعيد أيت إيدر ذات جلسة برلمانية ساخنة حين قال له: "أنت اللي من الصباح مصدعنا الحزب ديالنا الحزب ديالنا. إيلا جمعناكم كاملين ما تعمروش حتى تيليبوتيك".