يلقي حادث سقوط الرافعة في الحرم المكي الضوء على النمو العمراني السريع الذي تشهده المدينة المقدسة، وهو نمو ضروري من جهة لأنه يسمح باستيعاب الزيادة المستمرة في عدد الحجيج والمعتمرين، لكنه يثير من جهة أخرى جدلا إذ يفقد المدينة بعضا من طابعها الروحاني. تضع حادثة سقوط الرافعة في الحرم المكي في هذه المدينة المقدسة، في دائرة الضوء، مشاريع التوسعة التي تسهر على تنفيذها السعودية والتي أطلقت في عهد الملك الراحل عبدالله. وقتل أكثر من مئة شخص الجمعة 11 سبتمبر/أيلول عندما سقطت رافعة عملاقة داخل الحرم خلال عاصفة رعدية. وبعد يومين على الحادث سلم أمير منطقة مكة خالد الفيصل تقريرا تضمن "نتائج التحقيق" الذي أمر به العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، إلى وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف. ولم تشر وكالة الأنباء السعودية الرسمية إلى مضمون التقرير، إلا أن شهودا أكدوا أن سبب سقوط الرافعة هو الرياح القوية التي ضربت المنطقة ساعة وقوع الحادث. والرافعة هي واحدة من عشرات الرافعات الضخمة التي تنتشر في منطقة الحرم حيث تستمر أعمال توسعة عملاقة، وذلك فيما تستعد الأراضي المقدسة لاستضافة موسم الحج هذا الشهر. مشروع توسعة الحرم المكي.. وكان تنفيذ مشروع التوسعة الحالي بدأ قبل سنوات، وقد رصدت له مليارات الدولارات. وفيما يرحب الجميع بمشاريع توسعة الحرم التي تهدف إلى استيعاب الزيادة المستمرة في عدد الحجيج والمعتمرين في الوقت الذي بلغ فيه عدد المسلمين في العالم حوالي 1,5 مليار نسمة، تثير المشاريع العمرانية المحيطة بالحرم الجدل، سيما أنها حولت المدينة المقدسة إلى مدينة تملؤها الأبراج الشاهقة. وتنتشر حول الحرم الأبراج والمجمعات التجارية والفندقية، وأبرز هذه الأبراج هو مجمع أبراج البيت وخصوصا برج مكة الملكي المعروف ببرج الساعة، وهو ثالث أطول برج في العالم إذ يبلغ ارتفاعه 601 متر. ويهيمن البرج على الأفق في مكة، وتعلوه ساعة عملاقة واسم الجلالة، فضلا عن مسلة ضخمة يعلوها مجسم للهلال. ويوازي حجم الساعة أربعة أضعاف حجم ساعة "بيغ بن" الشهيرة في لندن. وتضاء الساعة وتنطلق منها أشعة الليزر عند مواعيد الآذان. ويتضمن فندق "فيرمونت" في البرج 56 مصعدا، ويتم الترويج له على أنه يتضمن إطلالة مباشرة لا مثيل لها على البقاع المقدسة، لاسيما على الكعبة. ويرى كثيرون أن هذا النوع من المشاريع يفقد المدينة طابعها الروحاني ويبعدها عن جذورها الثقافية والتاريخية المرتبطة بالسيرة النبوية. ميترو المشاعر المقدسة.. بنية تحتية عملاقة! وفي نفس الوقت، نفذت السلطات مشاريع بنية تحتية عملاقة مثل مترو المشاعر المقدسة، وجسر الجمرات المتعدد الطبقات في منى المجاورة، وهو سمح بحماية الحجيج من حوادث التدافع المميتة التي شهدتها مواسم الحج مرارا وتكرارا في السابق. وبين توسعة الحرم والتطوير العقاري ومشاريع البنية التحتية، غيرت مكة وجهها بالكامل في غضون سنوات. وقال عرفان العلوي المؤسس المشارك في مؤسسة أبحاث التراث الإسلامي إن "مكة ليست مدينة مثل سائر المدن". وأعرب العلوي عن تخوفه من أن تكون المدينة قد "تحولت إلى ما يشبه مانهاتن" في نيويورك. والعلوي من أبرز المنتقدين لمشاريع التنمية العقارية في مكة، وهو يعتقد بأن التطوير العمراني يمحو الصلة الملموسة بين المكان وسيرة النبي محمد. وقال العلوي "الناس يزورون المسجد الحرام للعبادة والصلاة وللشعور بروحانية الوجود في بيت الله، لكن المكان بات أشبه بمنتجع سياحي" مشيرا بشكل خاص إلى انتشار الفنادق وأحواض السباحة. وأضاف "أن المكان يفقد روحانيته ... لن تجد هذا النوع من الترفيه في أي مكان قريب من الفاتيكان مثلا". ردا على الانتقادات.. إلا أن صخر الحارثي عضو غرفة مكة للتجارة دافع عن برج الساعة، وقال إنه "معلم ليس لمكة وحسب، بل للمملكة ككل". من جهته، قال فيصل السالمي، وهو أستاذ مدرسي، إن التطوير العمراني غير المسبوق الذي تشهده المدينة قد جلب الكثير من الوظائف وفرص الاستثمار. وتظهر صور قديمة تعود لخمسين سنة، الحرم محاطا بالأحياء القديمة. وكان حجم المسجد الحرام نفسه أصغر بكثير. وتمت تسوية الأحياء القديمة المحيطة بالحرم من أجل تنفيذ مشاريع التوسعة. وقبل أربع سنوات، أطلق الملك الراحل عبدالله مشروع توسعة للحرم تصل مساحتها إلى 400 ألف متر مربع. وهذه التوسعة تساوي مساحة 50 ملعب كرة قدم، وتزيد الطاقة الاستيعابية للحرم بمقدار مليوني شخص إضافيين.