تشكل التربية أهم الركائز التي تعتمدها الشعوب لبلورة وتحديد مشروعها المستقبلي الذي يحدد مكانتها وموقعها بين الأمم. ويقتضي ذلك أن يقوم هذا المشروع بالضرورة على منظور للإنسان وعلى رؤية للعالم وعلى مفهوم للحياة وتأويل للواقع، بمعنى أن يقوم على فلسفة. ما علاقة الفلسفة إذن كمجال للتنظير بالتربية كمجال للفعل؟ تلعب الفلسفة والتربية أدوارا مصيرية بل فاصلة في تحديد ثقافة المجتمع وقيمه وأسلوب عيشه، وتوضيح علاقة الإنسان بذاته وبمحيطه، حيث تحدد الفلسفة الاعتقادات والقناعات الأساسية سواء على مستوى منظورها للواقع، أو على مستوى كيفية إدراك معرفة عنه تكون قريبة من حقيقته، أو على مستوى الاعتقادات المتعلقة بالقيم والأخلاق. وتتمثل مهمة التربية في ترجمة ذلك إلى أسلوب عيش ونمط تفكير وتحيين كل ذلك في أفعال. لذلك يرى جون ديوي(1) أن الفلسفة هي ‹‹ النظرية العامة للتربية›› وأن التربية هي ‹‹المعمل الذي تختبر فيه الأفكار الفلسفية››. إن الفلسفة التي تعتمدها كل تربية ينبغي إذن أن توضح وتعبر عن اعتقاداتها حول ثلاثة أسئلة جوهرية تتعلق الأولى بمنظورها للعالم، أي ما هو هذا الواقع وكيف يتشكل؟ وتتعلق الاعتقادات الثانية بالمعرفة، أي تتعلق بما نعتقد أنه صحيح، حيث نحدد إلى أي حد تقترب معارفنا وإدراكاتنا من الواقع وكيف يتحقق هذا الفهم والإدراك؟ ويتعلق التوضيح الثالث بالاعتقادات حول القيم التي تقبع وراء السلوك والمواقف. إن بلورة نسق فلسفي منسجم ينبثق عن محاولة توحيد وتناغم المفاهيم الصادرة عن هذه المستويات الثلاثة من التفكير. وسوف يشكل هذا النسق دون شك أداة لتنقية وتطهير الخطابات والمفاهيم من التضارب والتعارض والتناقض، كما يشكل وسيلة للكشف عن المقولات المضللة والخادعة والملتبسة التي تختفي في طيات كثير من الخطابات التربوية. ومجمل القول فإن الفلسفة تحدد وتوضح معنى التربية. بما أن الفلسفة هي تعبير عن اعتقادات وليس عن وقائع مؤكدة، ينتج عن هذا الأمر وجود اتجاهات فلسفية مختلفة. وسنعتمد في هذا الموضوع على خاصيات اتجاهين في الفلسفة يهيمنان على المشهد التربوي: الفلسفة الجوهرية essentialiste التي تستند إليها التربية التقليدية والفلسفة التقدمية التي تؤطر التربية الجديدة. يرى الاتجاه الأول أن العالم الموجود هو تام ونهائي وأزلي. وغاية التربية المنبثقة عن هذا المنظور تتمثل في العمل على إدراكه كما هو بل وإعادة إنتاجه. في حين يرى الاتجاه الثاني أن لا شيء موجود بشكل نهائي وقار، بل كل شيء يتحول ويتغير ويتطور عبر التاريخ، ويتمثل دور التربية في الانفتاح على هذا الواقع المتحول والديناميكي والتفاعل معه والفعل فيه. الفلسفة الجوهرية والتربية التقليدية إن العالم، بالنسبة لهذا الاتجاه الفلسفي، كيان موحد وتام يسود فيه نظام محدد سلفا ومكتمل منذ الأزل، وينبغي على الإنسان أن يستوعبه ويخضع له ويندمج فيه. وتندرج في هذا التيار الفلسفة المثالية التي ترى أن هذا العالم هو نظام ثابت ومنظم تتحكم فيه قوى خارجة عنه. كما تندرج فيه الفلسفة الواقعية كونها ترى أيضا أن العالم نظام قار لكنه يدار حسب قوانين محكمة عبر علاقات سببية تضبطها قوى داخلية، مثل قوانين ميكانيكية نيوتن وتطورية داروين إلخ. إن المنظور التربوي بالنسبة للنزعة الواقعية كما هو بالنسبة للنزعة المثالية يظل نفسه، ويتمثل في إيصال هذا العالم الثابت إلى الأجيال الصاعدة. وعليه تصبح عملية إدراك المعرفة على المستوى الإبستمولوجي هي عملية اكتساب وتسجيل هذه المعارف في العقل، ويتحدد معيار صحتها من خلال مدى تطابقها مع هذا العالم كما هو موجود في صيغته المحددة سلفا. ويعتبر اكتساب هذه المعرفة إجازة تضمن النجاح في الحياة. وفي نفس السياق تعتبر القيم المثالية والأخلاق "الحميدة"، مثلها مثل "المعرفة الصحيحة"، محددة موضوعيا بشكل قبلي ومسبق. ويعود معيار صحتها إلى التقاليد باعتبارها طبيعية وملائمة ومسايرة للأمور كما هي قائمة، أي بناء على"العادة الثقافية" ( habitus حسب تعبير بورديو) ولا مفر من الامتثال إليها، ويعتبر هذا الامتثال هو السلوك الحسن والمحمود. لذلك اعتبر "ألان" Alain (2) أن التربية هي تذكير بالماضي وتخليده، بمعنى أنها تقود الأجيال الجديدة إلى الاقتناع بأن ما قاموا به الأسلاف هو النموذج المثالي تبعا للمقولة المشهورة ليس في الإمكان أحسن مما كان. وهذا ما يفسر المكانة الهامة الذي تحتلها أعمال الأسلاف وفكرهم في البرامج التقليدية، وعليه يصبح التقليد الجيد هو الوسيلة الجيدة للإبداع. هكذا تنغلق المدرسة على ذاتها لتحترز من الغزو الثقافي الخارجي الذي سيلوث أصالتنا. وينجم عن هذا المنظور الفلسفي التقليدي المحافظ رؤية للتربية تعتبرها وظيفة تقتصر على التعريف بهذا الواقع والقوانين التي تحكمه والمعدة بشكل جاهز في المقررات الدراسية أو في خطاب المدرس أو يمكن إعادة اكتشاف بعضها عبر التجريب لكن دون أن تنتسب إلى المتعلم، لأن مهمته تتحدد في استقبال هذه المعرفة الجاهزة باعتباره جهاز مستقبل ومردد. كما أن الغاية من التربية من هذا المنظور، على المستوى السياسي، تتمثل في تأييد النظام القائم وتبريره والحفاظ عليه والانخراط فيه عبر التنشئة. هكذا يصبح من بين غايات التربية الحفاظ على مصالح الفئة المستفيدة من النظام القائم. الفلسفة التقدمية والمدرسة الجديدة تتميز الاتجاهات الفلسفية المسماة بالتقدمية بمنظورها للواقع باعتباره معطى متغير ومتحول باستمرار كما أكد ذلك Héraclite منذ زمان. وتنعث هذه الفلسفة الجديدة بالتقدمية لأنها ترى أن وظيفة الفلسفة تتمثل في السعي إلى التقدم والتطور وتحرير الإنسان من عبودية الماضي. لذلك تقوم هذه الفلسفة على منظور جديد للواقع وللعقل وللتفكير وللقيم وللتربية. لذلك فإن "ديوي"، باعتباره أهم رواد هذه الفلسفة، يعترض على ما جاء به "لوك" حين اعتبر أن العقل هو مجرد مستقبل للتجارب بواسطة الحواس، ويرى عكس ذلك أن العقل يبنى من خلال الفعل والجهد المبذول لحل الإشكالات التي تعترض وتثير الفرد في سياق اجتماعي معين، فبدون تواجد هذين العنصرين – الفعل والمجتمع- يغدو النمو والتقدم غير ممكنين (3). هكذا يغدو الفعل عنصر أساسي في التقدم، ويغدو الفكر غير مفصول عن الفعل بل ‹‹العقل هو ما يفعل›› (Brameld,1956,p.102)(4). والفعل يتجسد في التجربة. وعليه تصبح ‹‹الحقيقة هي ما يصمد لاختبار التجربة في ظروف ومتطلبات مجال ثقافي معين.›› (Clausse 1990 ص:9). (5) بناء على هذا المنظور تصبح المعرفة على المستوى الإبستملوجي وليدة تفاعل الفكر والواقع من خلال التجربة والبحث المتواصل، باعتبار أن الحياة ذاتها هي فعل وتجريب حسب تعبير Wiliam James(6). هكذا تبنى المعرفة عبر البحث التجريبي الذي يعتمد منهجية تتمثل بداية في أن الشخص، مثله مثل الباحث العلمي، حين يواجه إشكالا يتطلب الفهم والحل والتجاوز، يعمل على وضع فرضيات كحلول ممكنة بناء على المعطيات الموضوعية للإشكال المطروح. ويختار، بناء على تجاربه السابقة وخبرته، الفرضية التي تبدو له ملائمة أكثر، ويتصرف على إثرها. وإذا أثبتت التجربة ذلك أضحت معرفة صحيحة. غير أن هذه الحقيقة تظل مؤقتة بل قابلة للتطور وليست أزلية. وهكذا تبنى المعرفة والخبرة والذكاء أيضا. أما على مستوى القيم، يرى "ديوي" أن القيمة الأساسية هي التطور والنمو والتقدم، أما القيم الأخرى الثانوية تظل إما ذاتية وإما وسائلية. ومثال على ذلك أختار العمل في الرباط لأني ولدت فيها (قيمة ذاتية)، أو أختار العمل في الرباط لأبقى قريبا من الجامعة لمتابعة دراستي الجامعية (قيمة وسائلية). وعليه فالديموقراطية بالنسبة ل"ديوي" هي قيمة لأنها تساهم في إنماء الفرد كونها تستجيب لحاجة الإنسان إلى الكرامة والحرية والمسؤولية. إن التربية التي تنبثق عن هذا المنظور الفلسفي، كما حددها كثير من رواد هذه الفلسفة من أمثال Dewey و Claparède وغيرهم، تتعارض مع التربية التقليدية التي تدعو إلى "تبليغ" أكبر عدد ممكن من المعارف حول العالم الخارجي، وتؤكد عكس ذلك على اعتماد بيداغوجيات تتطابق ورؤيتها للعقل التي تعتبره لصيق بالفعل وبالوقائع عبر تفاعل ديناميكي وتأثير متبادل. لذا تدعو التربية الجديدة إلى اعتماد بيداغوجية ترتكز على خلق وإحداث وضعيات يتمكن من خلالها المتعلم التمرن على اكتساب وتوظيف مهارات وخبرة مساعدة على الفعل والتجريب الذي يدعم بدوره النمو العقلي والمعرفي، كما تدعو إلى التعلم عن طريق حل المشكلات التي تطرح فعليا في الحياة، ليلتصق الفكر بالواقع الذي يريد تطويره. لذلك فإن هذا المنظور يرفض وضع مقررات صارمة جامدة مجزأة بشكل تعسفي، ويدعو إلى تعويض مفهوم المقرر بمفهوم المنهاج curriculum لأن الهدف لم يعد تخزين في الذاكرة معارف جاهزة وتامة، ولكن الأهم هو اكتساب منهجيات وكفايات ودربة وخبرة. ومن جانب آخر فإن هذا التيار الفلسفي يدعو إلى مدرسة ديمقراطية ليس لسبب دوكمائي ولكن لأنها تسمح بإعادة النظر في الأمور بشكل دائم وتسمح بالتطور والتغيير والتجاوز المستمر. غير أن "ديوي" لا يدعي أن الديموقراطية نظام تسود فيه العدالة المطلقة. ويرى أن الكمال الديموقراطي هو هذا المنظور المثالي - المنهج والوسيلة - الذي يمكن العدالة من الانبعاث المتواصل عبر النقائص والتعترات والتعسفات التي يمكن أن تترتب عن الممارسة الديموقراطية. إن هذا الانبعاث غير ممكن إلا إذا تم الاعتراف بضرورة مساهمة كل الأفراد في بلورة قيم مشتركة تسمح بتطور المجتمع وتنمية الإنسان.(7) رغم أن هذه التربية تدعم قيما كونية مثل الديموقراطية والمواطنة والتسامح واحترام حقوق الإنسان وصون كرامته، غير أنها تعرضت لانتقادات، أهمها كونها تنبني على فلسفة ليبيرالية تعطي أولوية للفرد على حساب الجماعة الاجتماعية المتضامنة، حيث أن الفعل الذي تدعو له، والذي يؤدي إلى التقدم والتغيير، لا تقوم به الجماعة بل يقوده الفرد في تفاعل مع البيئة. كما أن هذه الفلسفة تركز على "كيف نفعل" و"كيف نفكر" على حساب "ماذا نفعل" وما الهدف والقصد من هذا الفعل. وخلاصة القول إن مجال الفلسفة يظل واسعا وينبغي على رجال التربية الاستمرار في اكتشافه واعتماده، لأن التربية بدون فلسفة هي عمياء بدون أفق. ونقول مع Soltis 1982) ص. 1411 ) أن الفلسفة ‹‹تفكير سوي وعميق حول ما سوف نقوم به، وما نقوم به الآن، وهل ما نقوم به له تأثير عميق على الممارسة الحياتية. إن الفلاسفة يساعدون المربين على التفكير بوضوح وبعقلانية في مختلف القضايا (...) غير أن خلق الأفق والتوضيح والنقد والمنطق والفهم المعمق سوف لا تكون لكل ذلك أية فائدة إذا لم يستعمل. وتعود مسألة الاستعمال المتقن للفلسفة إلى الممارس التربوي سواء لأغراض شخصية أو مهنية››(8) وبناء عليه ينبغي أن تدرج الفلسفة ضمن كل التكوينات الأدبية والعلمية والتقنية وفي كل المستويات الثانوية والجامعية وتكوين الأطر التربوية وغير التربوية. فبدون ذلك ستظل العوائق الإبستملوجية (9) التي جاء بها "باشلار" قائمة في ثقافتنا تمنعنا من تكوين فكر علمي يمكننا من التقدم والتطور