مر أسبوع كامل بأيامه ولياليه عندما تحدثنا في الحديث الأخير عن معاناة المسلمين في كل مكان، وبالأخص في فلسطين أرض النبوات وفي مدينة غزة بالذات، هذه المدينة التي لها تاريخ حافل في نضال وجهاد المسلمين ومقاومة الغزاة والظالمين، وقد كانت هذه المدينة حاجزا يحول بين مصر وما تتعرض له من لدن الغزاة، وكانت بهذه الصفة ولا تزال عمقا استراتيجيا تاريخيا لأرض الكنانة مما يفرض أن تكون مصر هي أول المدافعين عن هذه الأرض الطيبة ليس بحكم الأخوة العربية والدينية فقط، ولكن بحكم المصالح وبناء المستقبل، ولكن الظاهر حتى الآن أن بعض المسؤولين في أرض الكنانة، اليوم هم في صف أعداء المستقبل المشترك بين مصر وغزة، وهو ما لا يرضى وما لم يرض به المصريون، ولكن واقع الحال فوق الرضى وعدم الرضى حتى الآن إن صح التعبير، إذ الصهاينة يعتبرون موقف مصر في صالحهم. وقد امتاز الأسبوع الذي نودعه كذلك بما ظهر على أيدي المقاومين الفلسطينيين من شجاعة وقوة وثبات في مقارعة العدو وقتل أفراده وتشتيت شمل جنوده. وكانت المسيرات التي خرجت من كل مدن العالم الذي فيه مناخ الحرية والتعبير عن الرأي إجماعا على إدانة العدوان، ودعما للجهاد المشروع للمقاومين. وقد عبر المغاربة في مسيرة متميزة عن الدعم والتأييد والمساندة لجهاد المجاهدين في غزة وهو أمر ينسجم مع ما عرف به الشعب المغربي من دعم للحق والحرية واحتضان المجاهدين والمناضلين في سبيلهما، وما يسير كذلك مع دعم جلالة الملك لضحايا العدوان. وعلى أي حال فإن العيد عيد الفطر الذي سيظللنا بعد أيام لن تكون له نكهة العيد وأحرى مباهجه عند جموع الشعب الفلسطيني وبالأخص في غزة ولا نملك إلا أن ندعو الله سبحانه أن يعجل بنصرهم ودحر عدوهم. ونقول معهم العيد الحقيقي هو ما أنتم فيه، وما تنتظرونه من نصر وما تبذلونه من بطولات وما تكتبونه من تاريخ جهادي حافل في سفر المجاهدين الخالدين في تاريخ الإسلام والمسلمين، مع تأكيد أن تخاذل المتخاذلين من الأقارب ولن يضركم وإنما سيضربهم وبكشف حقيقتهم أمام الناس وفي صفحات التاريخ الذي يسجل كل صغيرة وكبيرة، جاهدوا واصبروا وصابروا والنصر آت إلا أن نصر الله قريب..» *********** النفس وما تهوى عندما يتأمل الإنسان واقعه الحق، ويسبر عمق خوالجه النفسية، ويحاول استيطان ما يترأى له من أمام، وما يعايشه من ناس وأشياء، ويمكن نفسه ما لا يطبق من تدقيق في محاسبة النفس، في سعي للعودة بها إلى النهج الأقوم، وتجاوز ما تهوى ويلذ لها من أمور، وهي في اندفاعها لا تعبأ بما تدفع إليه، من سلوك وأفعال بهذا أو ذاك، وما هي عواقب ما تسوله من أمر بسوء، أو إخلال بطاعة، أو ارتكاب ما لا يليق في عالم الناس الأسوياء، القائمين على حدود الطاعة والامتثال، إذ هي إنما تهوى وتأمر، وعلى الإنسان الضعيف أن يمتثل لكل الشهوات والنزوات التي هي أبعد ما تكون عما جاء به الشرع، وآنست به الفطرة، وتعشقه الصادقون مع الله، والقائمون على حدوده لا يتجاوزونها قيد أنملة. سوء المنقلب فهؤلاء في حساب النفس الأمارة لا يكادون يقام لهم وزن أو حساب، إذ قدوتها التي تسعى لمسايرتها هي تلك التي تعب من بحر الهاوي والسقوط، ولا تتفطن لسوء القدوة وعواقب المصير، إلا بعد أن يصل الإنسان إلى درك المحظور من الأفعال، مع ما يترتب عن ذلك من سوء المنقلب والمصير، وهنا تنقلب شر منقلب، وتعود إلى أسوأ مما كان وتشرع في توجيه اللوم، وما يستلزم من نذير بعواقب الاندفاع في طاعة الأهواء والامتثال لما ذعت إليه في سالف الأيام، ومدار زمن مضى وولى، كان يمكن أن يكون من نتائجه الاطمئنان، والاستئناس بالنفس المؤمنة المطمئنة، والمنقلبة والعائدة إلى ربها مطمئنة راضية. بين الفجور والتقوى إن قارئ أشارات أبي حيان نجد نفسه بين هذه الأحوال التي تعتري الإنسان والتي ترجع إلى النفوس الثلاث، الأمارة واللوامة والمطمئنة، والناس إنما يشتكون من هذه الأمور التي يطيعون فيها ويسايرونها فيما تهوى ولم يتجاوز الشاعر الحق إذ وصفها بما وصفها به حيث قال: والنفس كالطفل إن تمهله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم وما لنا والشاعر وفي محكم التنزيل ما ينبغي وأكثر عندما قال سبحانه في شأن هذه النفس: «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها». عابرون وأبو حيان في صحبته اليوم سنعايش نقده لهذه النفس وممارسة محاسبتها لما تدفع إليه وبالأحرى فهو يوقظ القارئ. ويوجهه لتجنب أهواء النفس ومزالقها والاستعداد لما ينتظر الإنسان، وهو ما لا يلقي إليه الإنسان بالا، ولا يعتبر بكل ما يمر به، وما يشاهده أمامه في شريط الحياة الذي لا يكاد يخفي واقع الاندفاع نحو ما تهوى الأنفس وما يشعل عما بعد هذه الحياة الصاخبة والناعمة لدى البعض الذي طغى بما لديه من جاه أو سطوة أو مال مع أن كل شيء يذكر وينذر بأن الأمور مجرد عابرة ودوامها لا يمكن لعاقل أن يغتر به، أو يأنس إليه، فالناس مجرد مسافرين عابرين. سفر الكون وكأن الإنسان لا يقرأ سفر الكون وما يصيب الناس من حوادث وأحداث وما يتقبلون فيه من شؤون الأحوال وتبدلها، ولم يضع نفسه أمام الميزان الحق لهده النفس الذي وضعه الله عندما قال: (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى). ذميم السيرة إن أبا حيان ببدأ هذه الإثارة التي تحتل رقم 37 من النسخة التي آثرنا أن تكون ما نقرؤه لأبي حيان في هذه الجمعة الرمضانية. وفي مقدمة هذه الإثارة يوجه أبو حيان خطابه إلى صاحبه الذي هو في الواقع نفسه وغيره من الناس لأن هذا الذي يطرحه أبو حيان من ضرورة الارعواء والعودة إلى النفس لاستكمال فضائلها والرجوع بها إلى ما ينفع صاحبها ويقلع معه عن سوء الفعل وذميم السيرة يقول: كأنك عدوك يا هذا: أما ترى كيف نصب كل شيء تجاه عينك لتبصرن وقبالة قلبك لتفكر، وردد على مشاعرك وإحساسك لتعتبر، ولطف بك في الأول والثاني لتثق وتنتظر؟ فأبيت إلا اللجاج الذي به هلك من تقدمك وأنت تراه، وعاندت نفسك حتى كأنك عدوك. إن أنت إلا بلاء عليك، وإن أنت إلا ميؤوس منك. حسرة لازمة الويل لك منك، والحسرة لازمة لك بك: أما لك من شراب الدنيا صحو؟ أما لك من أقذارها أنفة؟ أما بك حاجة إليك؟ أما لك ذرة من الشفقة عليك؟ أما تشهد هذه الآثار التي يجلوها عليك الليل والنهار؟ أما تعاين هذا الاختلاف الدائم بين الإيراد والإصدار؟ أما تستبين الفرق بين مدارج الإعلان ومناهج الإسرار؟ أما تبحث عنك؟ أما تعرف إياك؟ أما تحن إلى مأواك؟ أما تشتاق إليك؟ أما تفرق من فاجئات الغيب؟ أما تستحيي من الاشتمال على العيب؟ الانس بالوحشة إلى متى هذا الأنس بالوحشة، وهذا الاعتراف بالنكرة، وهذا الذهاب في المضلة، وهذا الزهد في الحظ، وهذا التجليح بالبهت، وهذا الاعتقاد للباطل، وهذا الاستشهاد بالزور؟ بعد هذا المدخل الذي وضع فيه أبو حيان جملة من أسئلة محرجة والتي مهد بها للسؤال الأكبر يضع هذا السؤال بقوله على النحو الآتي: الرضى بالمقدور أين التوقع للموت؟ أين الإعداد لما بعده؟ أين الفكر فيما له طائل؟ إذا جاء الحق وزهق الباطل؟ أين لائمة النفس على التفريط؟ أين قبول الهدي من الناصح؟ أين الرضى بالمقدور؟ أين الاستسلام للحكم؟ أين إمساك اللسان عن الفضول؟ أين سلامة الصدر في الأمور؟ أين الشفقة على زمان الحياة المتصرم؟ أين الشوق على البقاء الدائم؟ أين الاعتبار بهذا العالم القديم بقدرة الناظم؟ أين التزود لهذا الطريق الشاسع؟ أين الاحتياط في أمر لا محالة واقع؟». موت وموت هذه المجموعة من الأسئلة حول المصير هي الأسئلة التي يجب أن يطرحها كل واحد وهي وإن كانت تستحضر ما بعد الموت، ولكنه علينا أن نفهم الموت بالمعنى الواسع فالموت لا يعني فقط الانتقال من حياة الدنيا إلى الآخرة ولكنه قد يكون الموت مع وجود الإنسان على ظهر الأرض يصول ويجول، ومحاسبة النفس والنقد الذاتي بعيدان الإنسان إلى الحياة على نفسه. محاسبة النفس لم تكذب نفسك، وأنت تغضب إن كذبك غيرك؟ لم تغمسها في البلاء وأنت ترضى بمثله من مثلك؟ لم تحول بينك وبينك وأنت المتهالك في ذلك؟ لم تخالف العقل في نفسك وأنت تحتج به على سواك؟ لم تنقض العادة في خاصتك وأنت تطالب بها في جميع معاملاتك؟ لم توقد نار الغضب عليك حتى تحترق بها؟ لم تشاق الحق حتى يفرقك عند حاجتك إليه؟ عبادة الهوى يا هذا: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (يوسف:39) فلم تعبد هواك، وتذل لشهوتك، وتتحمل الأذى والبلوى في حظ ساعة تبقى عليك تبعاته، وتنأى عنك لذاته، وتدع السعي فيما له مرد عليك وثمرة لك، على الدوام والسرمد والخلود والأبد؟ بين الذهب والخزف ويدخل أبو حيان في تفاصيل أكثر في مقارنة الدنيا بالآخرة وما يجب على العاقل أن بفعله في هذه الحالة. أما سمعت بعض الدعاة إلى الله كيف قال في أمثاله ومواعظه: لو كانت الدنيا من ذهب فان، والآخرة من خزف باق، لكان ينبغي أن يرغب عن الأولى ويزهد فيها، وتطلب الأخرى ويرغب في الأخرى؛ فكيف والأمر على العكس، يغير شك ولا لبس: إن الدنيا من خزف فان، والآخرة من ذهب باق. أشهد أن أمرا يعرق عقولنا عن هذه الغاية التي قد جلت عن الخبر وبادت على العيان لعجيب، وأن سببا أورثنا ها الجهل لغريب؛ وأشهد أن حكم الله نافذ، وقضاءه ماض، وإرادته سابقة، ومشيئته مغيبة، وعلمه خاف، وأن الحلق على تلك المناهج يصعدون ويتحدرون، وإلى تلك المعارج يعرجون وينقلبون. فطوبى لمن سبقت له منا الحسنى، فسلك الطريقة المثلى في هذه الحياة الدنيا، ثم ارتفع إلى الدرجة العليا، واختلط بالملأ الأعلى، غير نعرج على ما ترك ها هنا وخلفن لسروره بما وجد هناك مما قدم وأسلف. اللياذ بالله يحدد أبو حيان الطريق السالك إلى النجاة وهو الفرار إلى الله. فقد نظرت –عافاك الله- ونظرنا، وعرفت وعرفنا، وبان لك كما بان لنا: أن مدار الأمر منا والأخذ بالأحوط عندنا إنما هو في اللياذ بالله، والفزع إلى الله، والاستسلام لله، والتصرف بين يدي الله، بخلع الحول والقوة إلا بالله، والهرب من أوطان عدو الله. والتعلق بهدي أولياء الله، لعلنا نحوز مرضاة الله في جوار الله. الفضل بلا غايات ولا نهايات اللهم: إنك شاهدنا، وشاهد فينا، وشاهد بنا، وشاهد علينا، فبحرمة شهادتك التي قد اكتنفتنا منك، وبقدرتك التي أبرزتنا لك، وبجلالتك التي حققت فاقتنا إليك، وبنورك الذي سطع علينا منك، وبنعمتك التي غمرتنا بك، وبرحمتك التي جمعتنا على بابك، وبسلطانك الذي قهرنا لعزك وبالخير الذي توالى عندنا من جهتك، وبكلمتك التي سمعناها على لسان المبلغ عنك، وبسرك الذي حجبتنا عنه بحكمتك – إلا بشرتنا برضاك عنا، ومحوت بكرمك صحائف ذنوبنا، وبدلت سيئاتنا حسنات، ورفعتنا إليك درجات بعد درجات، وأقررت عيوننا بالنظر غلى وجهك ذي السبحات، وعممتنا بالكرامات، وخصصتنا بما لا نصل إليه بالصوم والصلاة والحج والغزاة ولا بشيء من الأعمال والقربات، بل بفضلك وجودك اللذين أتيا على الطلبات والرغبات، وزادا عليها مقامات وبسطات، بلا غايات ولا نهايات. الطريق السالك بعدما بين أبو حيان للمخاطب ما يجب عليه طرحه من الأسئلة واختيار الأجوبة تصريحا أو تلميحا، وبين الطريق السالك الموصل إلى الحق وإلى إدراك ما ينح الإنسان، ويوفر له السعادة الأبدية يفتح باب الأمل ويلجأ إلى هذه الابتهالات والدعاء، وهو أسلوب من أساليب التأثير وفي نفس الوقت بفتح للإنسان وهو يرد معه هذا الدعاء أبواب الأمل ويحرك فيه مشاعر الإيمان، واللجوء إلى الركن الذي لا ينهدم عفو الله ومغفرته ورحمته التي وسعت كل شيء فإلى هذا المقطع من الدعاء. لسان التكليف إلهنا: هذه آمالنا فأعطناها، وهذه أمانينا فبلغناها، وهذه عطاياك فهنئناها. اللهم: إنك إن دعوتنا دعوتنا في الظاهر بلسان تكليفك، وغمرتنا بضروب حججك، وأسمعتنا محكم آياتك، وشملتنا بأنواع خيراتك وملكت نواصينا بقدرتك، وظاهرت عندنا المخبرين عنك، المرشدين غليك. لكنك – يا ربنا – طويت عنا إرادتك بنا، وأخفيت حكمك لنا وعلينا، فبقينا حيارى متسكعين، وسكارى متدلهين. وهذه ربوبيتك المسلمة لك، وسلطانك المردود إليك، لا معارض لك، ولا متحكم عليك. ويوضح أبو حيان في هذه الفقرة عجز الإنسان عن الوصول إلى ما يريد إذا لم يكن العون والتوفيق من الله فكما قيل: إذا لم يكن عون لله للفتى فأول ما يجنب عليه اجتهاده لكنا - يا ربنا- لا نستطيع حفظ أنفسنا على طرائق أمرك ونهيك إلا ببوادي صنعك ولطفك. فاكنفنا يا إلهنا بالعصمة، واحففنا يا ربنا بالنعمة، واعطف علينا يا سيدنا ومولانا بالرحمة، حتى نحوز رضاك، وننال الفوز الأكبر في ذراك. أيها الرفيق المؤانس، والصاحب الملابس: إلى متى تطالبني بالكلام في هذا النمط وأنا على تعرف من ضيق صدر، وتقسم فكر، وعزوب لب، وذهول بال، وتشتت رأي، وخاطر عقيم، وفؤاد سقيم، ومصائب في الدين والدنيا متوالية، وآفات في الصباح والمساء متواترة؟ لاجرم إن وعظت استحييت من الله من قلة التعاظي، وإن هديت خجلت من شدة ضلالي، وإن بينت قطعني عن البيان سوء استباني. فإذا كان كلي وبالا علي، كيف يكون بعضي فائدة لغيري؟ إلى الله نشكو ما حل بنا منا. فقد والله طالت البلوى، واشتدت النجوى، وقلت الدعوى، فغنه أولى من شكي إليه، وأحق من توكل عليه. آلاء مشهودة إننا في هذه الأيام الأخيرة في رمضان ونحن نودع العشر الأواخر فما أجدرنا بمثل هذا التضرع مصحوبا بالخشوع، ولاسيما إذا كان عقب تلاوة مباركة من كتاب الله ويكون بلسان صادق، وقلب مستجمع لنوازع الخير، مبرأ من نوازغ الشر لقرع وباب الرحمة والقبول يقول أبو حيان: اللهم: إنه لا غني إلا من أغنيته، ولا مكفي إلا من كفيته، ولا محفوظ إلا من حفظته، فأغننا واكفنا واحفضنا، وإذا أردت بقوم سوءا فميزنا عنهم، يا ارحم الراحمين. إلهنا: الرغبات بك موصولة، والآمال عليك مقصورة، والخدود لقدرتك ضارعة، والوجوه لوجهك عانية، والأرواح إليك مشوقة، والنفوس إلى كهف غيبك مسوقة، والأماني بك منوطة، والأيدي نحوك مبسوطة، والهمم غلى طلب مرضاتك مرفوعة، وآلاؤك عند جميع الخلق مشهودة ومسموعة. فآتنا اللهم من لدنك ما لاق بكرمك، وانف عنا ما قد نفانا بابك، صدورنا للثقة بك، ووفقنا لما يبيض وجوهنا عندك، ويطيل ألسنتنا في تحميدك وتمجيدك، يا نعم المولى ونعم النصير. اللهم: أفرغ علينا من رحمتك ذنوبا، واجعل لنا في مسالك مرضاتك طلوعا وغروبا، وأنلنا من لدنك هدى وبشرى ونصيبا، واحففنا برضوانكن بعد أن تغمدنا برحمتك وغفرانك، إنك ذو الجلال والكرامة في هذه الدار ودار المقامة. الرجاء والغرور في الحديث الأخير صاحبنا أبا حيان وهو يتحدث عن رمضان وما يلزم معه من الطاعات وفعل المبرات، واليوم ورمضان وقد أوشك غمره ان يوع، وهلال العيد قد أوشك على البزوغ فقرأ مع أبي حيان هذه الفقرة التي تقمع فينا الغرور وتدفعنا إلى التضرع والرجاء في القبول. أيها الإنسان الذي قد شقي في هذا الحر الواقد، والهواء الراكد، بالجوع والعطش صائما: هل لك خبر عنك فيما أريد بك؟ وهل لك إحساس بما سيق إليك؟ أم أنت من الجاهلين بل الغافلين عنك؟ ما أخوفني عليك، واشد يأسي من فلاحك! طال جوعك وعطشك في صومك، ولا تدري ما حاصلك في غدك من يومك، وما الذي عاد إليك بقصدك ورومك. أظن أنك مغرور، وعلى ما أصبت به غير مأجور، وبما طلبته ووجدته غير مسرور، وهذا لأنك مسلوب الإخلاص في العبادة، قليل النشاط في الاقتداء بالسادة والقادة تتيقظ في أمور النهي والحجى، ولا من عادة ذوي الورع والتقى، بل أصحب عاجلتك بالحلم، حتى تستيقظ في آجلتك بالعلم، أعني العلم الذي لا شوب فيه من الشكوك، ولا غشاء على صاحبه من الريب، ولا اثر فيه من الظنون، بل هو يقين حق وحق يقين، لمثله جهد الجاهد رائحا وغاديا، ومن أجله زهد الزاهد نائبا ودانيا. أطلب نفسك أبي يطلب الا نفسه هو خلاصة ما قدمه أبو حيان في هذه الفقرة التي يلخصها فيما يلي: فاطلب نفسك أيها الصائم في هذه المواطن: فإن كنت بها ثاويا، وفي عرصاتها متبخرا، ومن أغصانها جانيا، زانتك العبادة، وشملتك العصمة، ودر عليك خلف التوفيق، وإن كنت عنها بعيدا وعن أسبابها ساهيا، شمت بك عدو الله، وتجنبك عباد الله، ومقتك ملائكة الله، ورفضك كل خلق الله لا تظلك سماء إلا بالصاعقة، ولا تقلك أرض إلا بالفاقرة، ولا ترمقك عين إلا بالزراية، ولا يذكرك لسان إلا بالغواية، ولا تصافحك يد إلا بالكراهة. تجارة لا تبور فاختر –هداك الله- تجارة لا بوار لها، وانح غاية لا لبث دونها، واستشعر الرعب فيما أنت عليه، تنل الدعة فيما تنتقل إليه، واحصر فلتات لسانك في صومك، وحركات قلبك في نيتك، وخواطر سرك في ضميرك، واعلم أن الله على قدر دلك يجزل مواهبك، ويفتح مذاهبك، ويريك في نفسك ما يتضاعف به أنسك، ثم يطويك عن الدنيا وآفاتها، وينشرك للآخرة وبركاتها ويحبب إليك خيراتها وبهجاتها. العيد بعد رمضان العيد فكيف ينظر أبو حيان إلى العيد؟ قد أقبلت العيد، ولبست الجديد، فهل أنت واثق بما عرج منك إلى الله الحميد المجيد؟ إن كنت واثقا غير مغرور، وآمنا غير خائف، ومطمئنا غير مستوفز، فما أسعد بما كان منك، وما أغبطك بما أفضيت إليه، وإن كان الأمر على غير هذا النهج، فما أولاك بالنوح على نفسك، وما أحوجك إلى استئناف أمرك، وأغلب ظني أنك في الحالة الثانية راسخ، وللحال الأولى ناسخ. وقد قيل لبعض السلف: متى يكون العيد؟ فقال: كل يوم لا تعصي الله فهو عيد. الحظ السيء حبيبي: للناس عيد بالعادة في الخروج من الصوم، ومراجعة الأكل والشرب والتنعم. فإن كنت منهم، فما أخس حظك فيما كنت متقربا به إلى ربك، وإن باينتهم، فما أفوز قدحك فيما أنت مخصوص به عند ربك، فهات علامتك التي هي علامة القبول، وإلا فابك على ما فاتك بكاء المعولة الثكول. أتدري ما العلامة؟ العلامة أن ترى نفسك يوم العيد دليلة بالشكر، لهجة بالذكر مستبسلة بالصبر، خاضعة بالتوجه، متواضعة بالتنزه، متبدلة بالتوبة، مقلعة عن الحوبة، راغبة في ذخائر الحق وصحبة الصادقين من الخلق. فإذا اشتملت على هذه الصفات، وعلى ما كان من جنسها من سائر الجهات، غشيتك الملائكة بالتحية، ومسحت ناصيتك بالبركة، وكانت شفعاءك عند الله. فعند ذلك يلبسك الله شعار الهدى، ويهيئك للصواب في القول والعمل والتقى، ويبث محبتك في صدور أهل الحجى، ويبلغك الغاية القصوى، متمسكا بالعروة الوثقى. يا قوم هذا الكلام بعقلك كله، فإنه جماع كل نصيحة، ونظام كل موعظة، وباب كل نجاح، وطريق كل فلاح، ومنهج كل صلاح. فإذا تبصرت ما في ضمنه، فثب إلى المكان الذي دعيت إليه، ولا تكسل كسل الجاهل الغوي، والسلام. وبهذا الحديث تنتهي مصاحبتنا لابن حيان رحمه الله في هذا الشهر المبارك وعيد مبارك سعيد وإلى اللقاء في صحبة أخرى مع ابن حيان في أدبه الإسلامي الرائع. ذ.محمد السوسي