أبو حيان افتتح هذه الإشارة بدعاء من بين ما جاء فيه: اللهم فاجمع هذا الشمل المبدد، واكفنا مؤونة هذا اللفظ المردد، بالمعنى المقوم المسدد، وإنما نعيد السؤال ونكرره لعلمنا بأنك القادر الممجد». ونحن مع في هذه الدعوة والرجا، والإلحاح في الرجاء والطلب لديه سبحانه أن يجمع شمل هذه الأمة المحمدية المبدد، والذي صارت فيه الأمة وكأنها ما نعمت بالأخوة والمواخاة فهذه الأمة التي انطلقت متآخية، وصفوفها متراصة، وجهادها في سبيل الله قائم على التضامن والتساند، وهي اليوم صارت ذات الشمل المبدد، وبعضها يقاتل البعض، والبعض الآخر يلعن البعض، وانخرط في هذه الفتنة المميتة كل الناس إلا من رحم ربك، وكان الأمل والمتوقع بحكم المسؤولية لدى المسؤولين في الأمة، والأمانة العلمية لدى علماء الأمة أن ينخرطوا في دعوة إخائية توحيدية تتجاوز كل الظروف التي هيئت والتي كان التحذير منها متواصلا منذ اللحظة الأولى «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» فها هي ذي الأمة تنازعت المغانم والمكاسب والمناصب، والمقاعد، ووجد أعداؤها في هذا التنازع والصراع أبوابا مشرعة فدخلوا منها لإذكاء نار الفتنة وتأليب البعض ضد البعض وآل الأمر أنك تصبح في أمر هذه الأمة على الفواجع، وتمسي على الكوارث، وصار جسم الأمة متخنا بالجراح والأوطان ممزقة ومهددة بما هو أكثر ولا بارقة أمل في الأفق، أن الناس سيستيقظون من الغفلة بل الكل سادر فيما هو فيه، والعدو المتربص يزحف من كل جانب وأنين الأطفال والعجزة والشيوخ يصم الآذان في كل مكان في الشرق والغرب وفي القلب في فلسطين جرح ينزف والأرض تفضم والناس تهلك ولا أحد يتحرك للإنقاذ وكيف والقيامة في الأمة قائمة، ولكل قوم منا شأن يغنيه وإذ أسندت الأمور إلى غير أهلها فانتظر الساعة وكانت الساعة ساعة الإخفاق والانكسار والى الله المشتكى، وهو الحسب والوكيل. ومرة أخرى مع أبي حيان اللهم فاجمع الشمل المبدد. *********** الالتجاء واللجوء إلى الله سبحانه في الأحوال التي يجد فيها الإنسان نفسه أمام طريق مسدود أمر يشترك فيه المؤمن بالله والجاحد لهذا الإيمان، بل إن أقوى شخصيات العناد والجحود والكفر تضطر في هذه الحال إلى الصدع بالإيمان، وان كان مشوبا ببقية من غطرسة وتجبر على الناس من دون الله، فهذا فرعون موسى لما أدركه الغرق قال (آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل) ولكن هذا الإيمان وهذه العودة جاءت في غير وقتها وفي سياق وجد فيه فرعون نفسه وقد قضي أمره وانتهى ما كان عليه من قوة وطغيان ولذلك كان الجواب (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين). النكوص وهذه الظاهرة التي لها نماذج وشواهد كثيرة في تاريخ الأديان والعقائد، تثبت ما جبل عليه الإنسان من عناد في حال قوته ومن التظاهر بالإيمان والإذعان في حال صعفه وضآلة ما عليه أمره، ولكنه ما يلبث عندما يجتاز أزمنه كما جاء في كتاب الله «فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ» وهذه حال من أحوال الناس التي تؤكد اللجوء إلى الله في حالة الانكفاء وظهور العجز لدى الإنسان، وهذا على عكس ما عليه أهل الله وخاصته ومن على طريقهم من أهل الإيمان والانقياد لله سبحانه فالأصل في أحوالهم اللجوء إلى الله مهما كان الأمر، ومهما تقلبت الأحوال لأن الأمر كله إليه، فإليه ترجع الأمور وهو يصرفها ويصرفها على أساس القدرة وهو كل يوم هو في شان وهو عظيم الشأن لا يسئل عما يفعل وهم يسألون. الصفوة والرضى والصفوة التي اختار لها الله أن تكون كذلك و تسلس القياد لأمر الله، وهي تجعل من الحرية التي لها تجاه المصير بحكم الأقدار والمآلات المصيرية التي تواجه الإنسان هي مع الله وبالله في مواجهة الأحوال وقبولها لرفعها. لأن القبول يعني الرضى، والرضى يعني زوال الإكراه، ومتى زال الإكراه كان ما يصادف الإنسان مهما كان جزء من اختيار هذا الإنسان لأنه رضي واطمأن، وهو في هذه الحال يعيش سلاما مع النفس، ويرى ما حدث ويحدث جزء من سياق مصير اختاره لنفس لأنه جزء من هذا الكون الواقع تحت القدرة وحرفي (كن) التي لا يتأخر بعدها الإيجاد والفعل مصداقا لقوله (فيكون): الحالة النموذج وهذه الحالة التي لدى هذا النموذج من الناس هي التي يحاول أبو حيان التوحيدي أن ينقلها إلى مخاطبه في هذه الإشارة التي نختارها اليوم من بين إشاراته التي أبى إلا أن يضيفها إلى الله سبحانه "الإشارات الإلاهية" وكأنه يقول لنا إنما هو معبر وما يصدر عنه ليس له فيه إلا الصياغة، ولكنها استيحاء مما هو مسطر ومكتوب بين دفني الكتاب والسنة المبينة للكتاب فأبو حيان قد تخلى عن مباحثه المنطقية والفلسفية واللغوية والأخلاقية التي عالجها في مختلف كتاباته، وتجاوز ما كان منه من المؤاخذة والنقد والتجرؤ على كثير من الأمور التي وردت في كتبه وبين ثنايا أسطورها. أنه هنا إنسان آخر، إنسان أعيته الحيلة، وأناخ راحلته بباب الرجاء والتلطف في الدعاء، والإنابة فيما كان وحصل، وسنصاحبه في هذه الإشارة التي تحمل رقم 35 من كتاب الإشارات حيث يقول: جمع الشمل وهي إشارة يفتتحها أبو حيان هذا الافتتاح الدال والمعبر عن الحالة النفسية التي حاولنا إلقاء نظرة عليها في السطور أعلاه. اللهم: إني أشكو إليك شاهدا خدوعا، وغائبا مقطوعا، وحالا بين هذين لسنا ننفك منها نزوعا، ولا نستسهل عنها رجوعا، ولا نجد لأنفسنا فيها خشوعا ولا خضوعا. اللهم: فاجمع هذا الشمل المبدد، واكفنا مؤونة هذا اللفظ المردد، بالمعنى المقوم المسدد، وإنما نعيد السؤال ونكرره لعلمنا بأنك القادر الممجد. الاستحياء من السؤال اللهم إنا كما نعجز عن وصفك بما أنت أهله، نستحيي أن نسألك ما نستحقه، ولولا أنك تحرك منا الساكنات عند التوجه إليك، وتسكن منا كل متحرك عند تعظيمك وإجلالك، لما كنا نتذبذب هذا التذبذب في هذه الأحوال المختلفة بالعيان، ولا كنا نتسبب هذا التسبب في هذه الأمور الملتبسة بالعي والبيان. ولكننا بك لأنا لك، ومعك لأنا منك. وعلى كل وجه فإليك المفزع، وإلى بابك المرجع. فانف عن رجائنا حوائم اليأس، واصرف عن حاضرنا وغائبنا خوالب الوسواس. رغبة في سعلة يا هذا: قد طال نثري عليك مطوي هذه القصة بصروف من العبارة، وصنوف من الإشارة، رغبة في شعلة تبدو منك، وطمعا في نجابة تنطق عنك، ونظرا إلى إثارة الحق في سر يطلع عليك، وأنت على طينتك جامد لا تذوب، وخامد لا تلتهب، وراكد لا تهب، وميت لا تتحرك، وباهت لا تبصر، ونشوان لا تفيق، وكثير لا تتوحد، وكدر لا تصفو ومنقبض لا تنبسط، ومدعو لا تحضر، ومسؤول لا تجيب، ومنصوح لا تقبل، وغاد لا تروح، وثاكل لا تنوح، وكاتم لا تبوح. ما أشبهني بك يا هذا: لا ترع، فما أقربني منك، وما أشبهني بك، وما اشد انخراطي في سلكك، وما أسفرني عن نقابك، وما اسكنني في كهفك، وما أطيرني بجناحك، وما أفوهني بلسانك، وما ارناني بطرفك، وما أحملني لثقل مثل ثقلك! لكني ممتحن من باب آخر قد كفيته وغنيت عنه، وهو أني مستنطق بما إن خالفت فيه كان دماري، وإن استحفرت به كان ولي منه. هذا بعض حديثي على تقطعه وانبتاره، وباب من شأني على تشبعه وانتثاره. فما بقي في ديوان قصتي إن قيل يا هذا تزحزح عن هذا المكان قليلا حتى نتناجى بلغة أخرى، ونتهادى النصح بها على طريقة هي أولى بنا وأحرى: هذه أنشودة ومناجاة رائعة من أبي حيان ما احرانا بتأملها من استأذن على الله أذن له، من قرع باب الله دخل. كيف تنتفع بالنصيحة، وأنت مقيم على الفضيحة؟ خوف الله جنة من كل كارث معرفة الله روضة من رياض العقل ما أنطق الليل والنهار لو استمع إليهما وفهم عنهما كم من عقل أسير عند هوي أمير الجدل في الدين مطردة لليقين. الإتباع خير من الابتداع، الابتداع أخطر من الإتباع النية عرق، والخير شجرة، والعمل به ثمرته. الشريعة مأدبة الله للعباد. السنة حلية الديانين التوحيد حياة النفس المعرفة الفوز بالقدس من تبع هواه فقد عبد غير الله. أكرم نفسك ما إعانتك على طاعة الله، أهن نفسك ما عاقتك عن خدمة لله. الويل لمن ضاقت رحمة الله مع سعتها عنه. النسب الأصح ويتحدث أبو حيان عن النسب الأصح قائلا: لك من الله نسب أصح من نسبتك إلى أبيك، فأحفظه فإنه ينفعك. إذا ضللت عن حكمة الله فقف عند قدرة الله، فإنه إن فاتك من حكمته ما يشفيك، فلن يفوتك من قدرته ما يكفيك. سق عقلك إلى ملكوت الله، ولا تقحمه في جبروت الله. إذا استأثر الله بشيء فاله عنه. إذا ما تلطخت بعار فارحضه عنك بالإنابة. أنت بين هاد يقودك وحاد يسوقك، ففيم تثبط وتبطؤك؟! ليس للغواية غاية تقف دونها جهدك. لا تحلم عن نفسك إذا أعتبتك، ولا تعصها إذا أرشدتك. اجعل الجد كله في إعداد الجواب يوم المسألة. عرضك لبقاء الأبد ربك بحسن اختياره لك، فلا تتعرض أنت لفناء لأبد بسوء اختيارك لنفسك. المعرفة مصباح القلب ويتحدث أبو حيان عن الانقطاع ولمن يكون، ولاشك وهو قد خبر الالتجاء للرؤساء والكبراء وما كان له من كل ذلك إلا ما قصه في غير كتاب ولذلك فهو ينصح بما يلي: من انقطع إلى غير الله وكله الله إليه. من صلح مع الله لم يفسد مع غيره. من حارب الله حرب، ومن سالم الله سلم. أصدق الكلام كلام الله. كيف ينجو من الله طالبه؟ كف يضيع من الله كافله؟ ما أقرب العبد من الله إن فطن لما فيه. لله عندك وديعة، فأحفظها وتوسل إليه بها. المعرفة مصباح القلب. التوحيد نور الله في قلب العبد. التوكل حصن المؤمن الوجد حقيقة الحال العقل رسول الحق وفي المقطع الموالي يتحدث أبو حيان عن العقل وغيره ليدل القارئ مرشدا فقال: العقل رسول الحق الظلف عزة النفس الظرف عنوان الطهارة الصمت روضة الفكر اللفظ ثمرة الإرادة الإرادة تصور القلب. الأريحة هبة الكرامة الكناية همس الفؤاد التصريح بروز المراد العمل شعار البدن العلم شعور الروح الوصف تبيان الموصوف الموصول غاية الواصف الحظر التنزيه عن الدنس الإباحة علم التصرف في الملك الطمع رق لكنه خداع، واليأس عتق لكنه قطاع العقل صعود ولكن إلى أعلى عليين، والهوى حدور، ولكن إلى أسفل السافلين. الصعود في سلاليم العالم أبو حيان لا ينسى أنه يخاطب المخاطبين وفي الوقت بخاطب نفسه يا هذا: مر أيضا هذا الفن فلا والله إن أدري كيف انتشاؤك به، وكيف ارتشافك له؟ وكيف انتعاشك عليه، وكيف انتفاشك منه؟ فإن كانت الغلبة لروحك اللطيف، فلاشك أن حظك من كل ما يمر هو الحظ الشريف، وإذا كان الحظ لبدنك الكثيف، فلاشك أن حظك –من جميع هذا- الحظ الطفيف، فاسترسل الآن في نفسك باحثا عن أمرك وخبرك، فعساك تظفر بمرادك ونظرك وعبرك، فإنك ملك في ملك، فانفض الملك ناشرا، وانشره نافظا، وقابله مدابرا، ودابره مقابلا، وياسره معاسرا، وعاسره مياسرا، وتقلب طالبا، وتطلب متقلبا. فإنك تصعد باختلاف هذه الحالات في سلاليم هذا العالم المنضود بالحكمة، المنظوم بالقدرة، المنقوش بالزينة، المزين بكل حلية مخزونة. يا هذا: مداراتي لك مدارة لنفسي، ودعائي لك استكانة مني، واستكانتي استجابة إلى حظي. فاستجابتي إلى حظي بلوغ إلى غايتي، وبلوغي إلى غايتي فوزي بمن أنا به وهو لي. المؤانسة بذكر الله إذا بلغ اللفظ هذا الحد، فالرأي البريء من العاهة، السليم من الآفة أن تداوي بالسكوت الذي هو أغطى للمكشوف، وأكنى عن المألوف وأعنى بالمعروف. تأمل مخزون قول بعض العارفين، فإنه قد هتف بشأن عظيم عن محل في أعلى عليين، قال: إذا رأيت الله عز وجل يؤنسك بذكره ويوحشك من خلقه، فقد أرادك. وإذا رأيته يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره، فقد طردك. وقال آخر: يا تجار الآخرة، أبشروا بالأرباح الفاخرة، لا تمهر الدنيا دينك فإن من مهر الدنيا دينه زفت إليه بالندم والقسم والألم. وقال آخر: حميته العارفين حمية المرضى، ونومهم نوم الغرقى، وندمهم ندم الهلكي. علامة المقت وقال آخر: من دواعي المقت ذم الدنيا في العلانية، واغتنامها في السر. يا هذا: انظر في كم مرقاة قد عليتك، وفي كم بساط قد خطيتك، وكم ثمرة عرشتها لك، وبكم جهد لاطفتك، وبكم عبارة شافهتك، وبكم ضرب عللتك، ومن كم وجه أردت الخير لك، وفي كم طريق سلكتك، وعلى كل ثنية أطلعتك، وفي كم بحر غمستك، وأي شمس أطلعت عليك، وأي كنز أحضرت بين يديك، فبادر إلى حظك ولا تلو على غيره، فإن النفس وإن كان ممتدا فإنه مرتد، والزمان وإن كان متصلا فإنه منفصل، والوقت وإن كان مساعدا فإنه خاذل، والكتوم وإن كان جلدا فإنه باذل. الإنسان بدل الحركة والكون يا هذا: الحركة في نوع السكون، والسكون في هيئة الحركة، وأنت بينهما مطحون على رفق ولين، وليس عنهما منفرج، ولا إلى غيرهما منعرج. فخذ بخطام نفسك إلى غايتك، فلا شفيق لك ولا رفيق، وكن كما قالت البدوية لما وضعت ذات بطنها، ولم يكن لها من يعنيها على شأنها: «تخرسي يا نفس لا مخرس لك» أي: اصنعي الخرسة بنفسك لنفسك، فليس لك من يتولى ذلك على العادة القديمة. اصدق نفسك يا هذا: ارفع طرفك، أجل فكرك، أطل اعتبارك، اصدق نفسك، اعبد ربك، اهجر غاشك، أطع نصيحك، طهر سرك، ارقب رسولك، أصلح فأسدك، المم شعثك، جدد خلقك، جرد نيتك، هاجر إلى مولاك، باين شهوتك، عاد شيطانك، أجب داعيك، ارع راعيك، قدم زادك، كثر عتادك، ثبت أياديك، وثر وطاءك، كثف غطاءك، افهم وتفهم، واعلم وتعلم، وبين وتبين. الساحل بعيد اللهم صل التوفيق بقولنا، والتصديق بعملنا، والتحقيق بقلوبنا، ولا تكلنا إلى حولنا وقوتنا، ولا تحل بيننا وبين ما يقربنا منك، ويدنينا من بابك، ويجبرنا من عذابك ويهدي إلينا رضوانك، ويفيض علينا غفرانك. يا هذا: أورد فالأمر غريب، وأرفق فالشأن عجيب، واتخذ الصبر جنة فالحطب عظيم، وقل الحق فالسر كليم، وأسبح في بحر الأحوال فالساحل بعيد، وتشبث بالهادي فإنك سعيد. الترنم بغيب التوحيد يا هذا: إذا ترنموا لك بغيب التوحيد على ألحان المعرفة فاشخص عن مكانك، واشتق إلى معانك، وانقطع عن أقرانك، وانسلخ عن شأنك في شأنك، وليس يكمل لك هذا الرأي، ولا ينصع في نفسك هذا النصح، حتى تقشر جملتك قشرا، وتنشر تفصيلك نشرا، ثم تطوي معناك طيا، وترتد عن غيك شيا فشيا. وما أهون هذا التدبير بالوصف، وما أسهل هذا الإرشاد باللسان، وما أغزر هذا العدد بالفرض، وما أعز هذا المراد بالعرض! هاجت الأسرار، وماجت الأحوال بين الإيراد والإصدار، ووزن كل شيء بالاختيار والاضطرار. سقى الله ليلا كان يلتقي طرفاه على زف بنات الصدور من معادن الغيب بوسائط العلم على بساط الحقيقة، بلا قذي من قاذ، ولا شوب من شائب، ولا هم من هام، ولا نبز من نابز، ولا هفوة من هاف، ولا ضجرة من جاف، ولا وهم من واهم، ولا طرفة من ساهم. ما كان أحلى تلك الشمائل عند اختلاف الحركات، وما كان أحلى تلك النوائل عند ائتلاف السكنات، وما كان أعلى تلك القلل عند تناول الثمرات، وما كان أشفى لتلك الغلل مع تواتر الوصبات، وما كان أضوأ تلك الوجوه عند المباسم المؤنسات، وما كان أسعد تلك القلوب عند اتصال المسرات! مناغاة العباد إلهنا: لولا أنا نجد من روح هذا الحديث ما يبعثنا على مناغاة عبادك ما ابتعتنا لذلك، ولولا أنا نرجو به وبأمثاله تقربا إليك، ومكانة لديك، ما نقرنا عن سرك المخزون، ولا نطقنا عن غيبك المكنون، وكان إعراض من اعرض عنك هينا علينا، وهلاك من هلك عن حظه سهلا عندنا، ولكنا نرى في ذلك ما ترينا، فيرى غيرنا منه ما يكون زيادتنا في مقامتنا، وسببا للرفق في سعادتنا، وبابا مفتوحا إلى الفوز الذي طال في طلبه سعينا، وأنفذ في تحصيله وسعنا، يا ذا الجلال والإكرام».