هنالك قوى سلطوية معلومة مقاصدها، انتعشت في المرحلة تريد أن تنسف قواعد اللعبة الديمقراطية في البلد وتأتي على البيت السياسي المغربي من ركائزه الجامعة، وهي لا تكل أو تمل من العمل على الاستثمار في قتل السياسة باعتبارها نشاطا نبيلا وخدمة عمومية، ارتبطت بسمو القيم وتدبير المصالح بشرف ونيل المنافع بمشروعية قانونية واخلاقية، هي تقفز من هدف الى هدف ، ومن مناورة الى اخرى، بالامس كانت تريد فرملة منطق الاصلاح من داخل التجربة الوليدة ومن خارجها، والتحكم في موارد العملية السياسية برمتها، وانتهاز شروط الردة الديمقراطية التي بسطت بظلالها على بلدنا بغاية الاجهاز على المولود الديمقراطي الجديد، وحالما فشلت مساعيها وكيدها انتقلت الى محاولة التحكم في المؤسسات الدستورية وشن مناورة اختطاف مجلس يتفرع ضرورة –في المنطق الديمقراطي –عن الاغلبية القائدة لمسلسل الاصلاحات العامة في البلد. ان الطبيعة الهيمنية والتحكمية لتلك القوى غدت بينة جلية، وباتت مكشوفة سافرة في اساليبها واهدافها، تلك القوى –اذن-التي أدمنت الفساد وتمعشت من أرصدته وتحالفت مع شبكات الاستبداد والاستفراد والاستبلاد، لكي تديم لنفسها تلك المصالح المتراكمة باساليب غير مشروعة، هي الان تعمل بتأجيج الخصومة بخطاب فاجر متفجر بالكراهية والحقد والتيه والاتهام والسفالة والركاكة والسقوط، تعمل على قتل السياسة وابعاد الشعب عنها بعدما أبرم صلحا مع نموذج لها يتصدره العدالة والتنمية والقوى الوطنية والديمقراطية الحقة من غير ادعاء أو تزيد، قتل السياسة في منطق هؤلاء يعني ادامة اوضاع التحكم والفساد واعادة اسطوانة التحكم والسلطوية للاشتغال من جديد، لنرى فصلا من المناورات الخائبة لأولائك ، والمتجسدة في مستوى الخطاب الذي ران على الممارسة السياسية في المرحلة الاخيرة في بلدنا، أريد أن أذكّر – مرّة اخرى – بضرورة الانتصار لأخلاقيات العمل السياسي النظيف والراقي والمناضل بجانب شعبنا دفاعا عن الامه واماله في التغيير، مع الوفاء بالالتزام بآداب الخصومة السياسية، وبقيم الصدق والمصداقية والنزاهة والشرف التي يجب أن يتحلى بها الفاعل السياسي، مهما كان موقعه في التراتب الاداري أو اتجاهه الفكري او انحداره الاجتماعي، ولا أخفي أنني أشعر بالصدمة والفزع حين أتابع بعض السجالات التي تشهدها بلادنا، وأقول خلسة مع نفسي في حديث باطن : لماذا انحدرت لغة خطابنا العام والسياسي منه بخاصة الى هذا المستوى من الانحطاط والرداءة والسقوط، ولماذا تحولت لغتنا السياسية الى مفردات موحشة خالية من الترميز و اللطافة في القول واللباقة في الحوار والأدب لحظة الوصال؟ استطيع أن اقدِّر بالطبع ما تستدعيه الخصومة السياسية من استثمار لأخطاء هذا الطرف أو ذاك، وانتهاز فرص الضعف والارتباك لبعض القوى والاطراف الفاعلة في المجال العام لتسجيل المواقف للتاريخ وبذل العناية باستثمار لحظات الانتكاس حتى والسقوط، واستطيع أن افهم ما تستلزمه الصراعات السياسية بين عديد النخب من توظيف لبعض المواقف والعثرات والاعطاب والاخفاقات، لكن ما الذي يدفع هؤلاء الى الابتذال في الخطاب، والى الضرب تحت الحزام، والى الامعان في تشويه الخصوم واغتيالهم معنويا وسياسياً؟ المشكلة ليست فقط في الانحدار الذي أصاب نقاشاتنا العامة ولقاءاتنا وحواراتنا، وانما المشكلة ايضاً في تراجع قيمنا وأخلاقياتنا العامة أساسا في التداول العام وتسويق المواقف وترصيف لغة وشحذها للوقيعة والحرب لا للحوار العقلاني واجتراح البدائل، لا يتعلق هذا بالنخب التي اختطفت قضايا الناس واستهبلتهم وتعاملت معهم بمنطق الاستعلاء، وانما بآخرين من طبقات المجتمع المختلفة انتقلت اليهم هذه العدوى لدرجة ان بعضهم أصبح مؤمناً بفكرة النزقية والتسامي الارعن بكل ما تحمله من انتهازية ونفعية وانفصام في الشخصية. اذن هي اولا جناية النخب التي استقالت تماما من في انتاج وبث القيم داخل العمل السياسي و تخليق الشأن العام والارتقاء بالممارسة الاصلاحية والالتزام بمقتضيات المصداقية السياسية اولا، وتحول بعض المحسوبين عليها من مواقع التوجيه الفكري والارشاد السياسي الى دائرة الترهيب والولوج الى شبكات المصالح والنفوذ و احتراف صنعة قطاع الطرق الذين تحركهم الغرائز الانتهازية وتلهمهم المقاصد السلطوية الرديئة المهزومة والمهزوزة، صحيح أن ثمة من أدمن التبشير والترويج العلني الكثيف للفصل بين السياسة والأخلاق، وبين الدين والأخلاق ايضاً، لكن لم يخطر في بال – حتى هؤلاء – أن المشكلة ستتحول من مجرد طلاق بالمعروف الى زواج مغشوش، ذلك انه إذا قدِّر لنا أن نفهم مبررات هذا الطلاق في سياقات اجتماعية وسياسية ونختلف على مشروعيته ، فإنه من غير الممكن أن نفهم مسوغات ذلك الزواج الذي يبدو ظاهرياً فيما تنحدر ممارسات طرفية الى اسوأ ما يمكن من مشاجرات ومناكفات. وبصراحة اكبر، فانني اتحدث هنا عن فاعلين سياسيين صدّعوا رؤوسنا بدعواتهم الاخلاقية ومواقفهم المحسوبة على منطق الالتزام السياسي والاتزان النضالي، وبعضهم يتحرك بل يتصدر في اطار العمل السياسي والاسلامي او الوطني فكم من الخطايا ترتكب تحت هذه العناوين، لكنهم للاسف في غفلة منا كشفوا عن وجوههم فاذا بخطابهم اسوأ مما توقعنا ، لا اتحدث هنا عن مواجهاتهم مع خصومهم التقليديين السياسيين والاديلوجيين، وانما عن مواجهاتهم مع اخوانهم الذي تشاركوا معهم في بناء مشروع الاصلاح الوطني، وعاشروهم على مدى سنوات طويلة ظنا منهم ان دائرة الاخوة الوطنية والاصلاحية التي تجمعهم اقوى واوسع من اي اختلاف ، وان الجهر بالسوء -من اي طرف صدر- يتعارض مع الاخلاقيات ورصيد القيم الذي تراكم من سابق خبرة في العلاقة، تلك القيم التي التزموها فيما بينهم وامام الناس ايضا تعاقدا ووفاءا لروحها ومنطقها. لا يمكن فهم هذه الاشتباكات التي تحتدم داخل الشخصية الاجتماعية التي تطفو على سطح النخب وتتغلغل بالتالي من خلالهم داخل المجتمع على شكل عدوى من دون الالتفات الى مسألتين: احداهما انماط التدين المغشوش والوعي الزائف الذي يبثه بين الناس، سواء أكان تدينا سياسيا او اجتماعيا، تلك الانماط التي يستخدمها البعض لاصطياد ضحاياهم والتغرير بجمهورهم ، حيث لم يعد مدهشا ان يتستر البعض بأشكال وانواع ومظاهر دينية للتغطية على سلوكيات مرفوضة يمارسها ، واحسب ان زواج السياسة مع التدين المغشوش مع منطق التربح من الموقع العام، كل ذلك يمكن ان يقدم لنا نماذج عديدة من هذا القبيل. والمسألة الثانية تتعلق بما نطالعه من مشاهد الوطنية المشوهة وادعاء النضالية والالتزام السياسي المتلبس ببى والكائنات التي تحولت مقاصدها واهدافها في العمل العام المشارك، والتي تختفي وراءها سلوكيات سياسية لا تتناقض مع المبادئ والمصالح الوطنية فقط ، وانما تحاول - جادة - ان تهدمها تحت ذرائع مختلفة وربما متناقضة احيانا. ان كلا المسألتين في الحقيقة تعبر عن عُقد من النقص ، او من الرغبة في الانتقام، لكن ما يجمع المشهدين هو غياب الاخلاق عن العمل وانفصال القيم عن الحركة الاصلاحية، سواء كانت دينية او وطنية او سياسية ، وهيمنة عقلية التحايل والتنابز والتنازع والصراع على المواقع واحتلال المناصب وتصيد الغنائم على السلوكيات التي يفترض ان تحكمها منهجية المسؤولية الاخلاقية.. قبل ان تخضع لمسطرة القوانين والانظمة الرادعة ؟ المشكلة هنا ليست في عدم وجود تشريعات او انظمة رادعة ، تضبط الاخلاقيات العامة وتمنع الفجور في الخصومة ، وانما المشكلة الحقيقية تكمن في غياب قواعد واعراف سلوكية واخلاقية تحكم العاملين في مجال العمل العام وتؤهل الفاعلين في السياسة من كل المواقع والمراتب، والاهم من ذلك عدم كفاية مناخات من الحرية المسؤولة المنضبطة والخصاص المسجل في منسوب الشفافية الواقية والكاشفة التي يفترض ان تشكل بؤر مراقبة شعبية على مدار الساعة لتتبع نشاط محتلي المواقع والمرافق العامة ، ومتابعة من يتبوأون مقاعدها ، باعتبار ذلك حقا للناس.. لا تدخلا في الشأن الخاص ، ولا اختراقا للخصوصيات والامور الشخصية. ولو حضرت هذه المسؤوليات في الرقابة والتتبع والرصد، لكان بوسعنا ان نرى صورة الجميع من المصدر بوضوح ناصع، ونعرف ما يلزم من معلومات عنهم دون الحاجة الى الدخول في سجالات التجريح المسف والفجور في القول، ودون الاعتماد على العمل اللاخلاقي في انتزاع الانتصار من اي طرف كان . بصراحة، منذ شهور ، تابعت فصولا صادمة من الاشتباكات والصراعات بين اشخاص اعرفهم واقدر بعضهم ، انتصرت فيها للاسف نوازع الكيد والمكر على قيم النظافة والصدقية واخلاقيات العمل العام ، لم اتصور يوما، ان الاختلاف يمكن ان يتحول الى حرب تستخدم فيها كل الاسلحة بخفة وقذارة وترنح وعنجهية وصلف، ويا ليت كانت حربا نظيفة تراعى فيها اخلاقيات الحروب التي ضمنتها الاديان و المواثيق الدولية، وانما للاسف حرب اخرى قذرة لا يتردد اطرافها عن تجريح الخصم وانتهاك كرامته وربما ذبحه اذا لزم الامر رمزيا ومعنويا.. وتلك بالطبع صورة من صور الفجور في الخصومة التي تثير الاسف والاشمئزاز والغضب ايضا – مع كل الاسى والاسف .