يدفع مجتمعنا اليوم ثمن الاستقطاب السياسي الذي أفرزته النخب الفكرية والسياسية من المتصدرين لتدبير الشأن العام، ومما يثير الدهشة والأسف معا اننا انقسمنا إلى كيانات غير معلنة وتحيزنا إلى خنادق متقابلة كامنة، ولم ننجح في ايجاد منطقة وفاق ولقاء تشكل أرضية لمشتركاتنا الوطنية ولتأمين عيشنا الجماعي الحاضن لاختلافاتنا، وتساعدنا في فتح ابواب الحوار والتفاهم او الوصول الى حالة من الاستعداد النفسي والسياسي، للخروج من حالة الاشتباك والمواجهة الى مستوى المصالحة والتعايش والمناقشة، ومن الاستعصاء والاستبعاد الى الحلول والمعالجات التوافقية. فالاغلبية الصامتة في مجتمعنا تصير ضحية لهذا الخصام و الاستقطاب الذي ولّدته مناخات قلقة في محيطنا العربي وتحكم عقليات اقصائية وفشو ظروف صعبة ومعقدة، وفيما كان من الممكن ان ندفع باتجاه انتاج تيار يؤسس للوفاق الوطني يتجاوز بنا مرحلة الاستقواء والاستقطاب المتبادل، ويرشدنا الى طريق الصواب الجامع، وجدنا انفسنا امام خيارين: أحدهما اخذنا الى الاستغراق في الماضي و أوهمنا بابتداع أدوات جديدة لترميمه وتزيينه، والآخر اخذنا الى نمط حداثوي أحادي مستلهما نماذج اخرى قد لا تناسبنا، وبالتالي أصبحنا شاردين لا نكاد نعثر على ردود لكثير من الاسئلة الحائرة، او لا حلولا واقعية لازمات اجتمعت علينا مرة واحدة، وحان وقت استحقاقاتها، سواء بالحسابات الداخلية او بحكم الحسابات الاقليمية وحتى الدولية. وراء حالة الانقسام الفكري والسياسي والمجتمعي كان ثمة صناعة لثنائيات قاتلة، جرى استخدامها وتوظيفها لاغراق المجتمع في جدل لا ينتهي، واشغاله في تفاصيل لا جدوى منها، وبدل ان يتوجه النقاش العام الى الناس وقضاياهم والى البلد والاخطار التي تحدق به، وان يتاح للفرقاء السياسيين ان يجتمعوا على طاولة الحوار، انتهى المشهد الى صراع بين اجندات غير مفهومة، وانكشف ميدان العمل العام على فاعلين سياسيين واجتماعيين استمرأوا الشد المتبادل، وكأن ما يهمهم من المباراة هو تسجيل الأهداف في مرمى الخصم دون اعتبار لأصول اللعبة وللروح الباعثة عليها ولا استحضارلحماس الجالسين على المدرجات وآمالهم وهواجسهم ايضا. هذه هي القضية، الاستقطاب الثنائي الحاد بين الاسلاميين والعلمانيين وتأجيج الصراع بينهم، وتلك صناعة بات الاستبداد وتحالفه يتقنها ببراعة فائقة ويحسن تشغيلها بغاية توظيفها في حربه على المجتمع وتجريف مؤسساته وانهاك قواه المدنية والسياسية وضرب مناعته ومقاومته، لكي تخلوا الساحة لتشكيلات المفسدين والمستبدين مستغلين بذلك حالة الصراع تلك ووضع الاستقطاب من أجل تأبيد وضع السيطرة والابقاء على الجمود السياسي والاجتماعي للاوضاع، احتكارا للثروة واستفرادا بالسلطة. أما المناسبة فهي اثارة الحديث حول الخبرة التونسية والاستفادة من مقدراتها وعبرتها في تدبير ذلك الصراع وتجاوزه لصالح قضية الوفاق الوطني والبناء على المشترك الديمقراطي ، وهو ما سنتطرق اليه تباعا. تونس ما بعد الثورة تبث الوعي المستنير والحس المتيقظ لأبنائها بحجم المسؤولية الملقاة على عاتق أبنائها وعمق هذا التحدي الذي يجابه نخبها وقادتها، وهي تناضل من أجل منع السبل وقطع الطرق على أي إمكانية لعودة منظومة الاستبداد من جديد بالرغم من أنها تطل برأسها بين الفينة والاخرى ، ويتأكد لنا هذا الوعي يوما عن يوم من خلال اكتشافنا حقيقة تزداد رسوخا وتجسيدا مع مرور الزمن في تجربة ما بعد الثورة، وهي أن النخبة التونسية في تيارها الاساسي المعتبر، ديمقراطية التوجه، تنويرية الثقافة، يتأكد أنها هضمت بشكل مثير رهانات بلدها في التنمية والعدالة والنهوض، وانتصرت لأفقه الموحد المتعالي على النمزوات والنزعات الحزبية الضيقة، وتبدى جليا وبالملموس أنها استوعبت جيدا أفكار عصرها وقضاياه ومطالبه مجسدة في المواطنة والديمقراطية والحوار والاصالة والانفتاح، وأدركت أن أقوم الطرق وايسر المسالك لتحقيق النهضة الشاملة للامة يتأتى من انتمائها إلى زمنها وسلوكها سبيل الرشد الفكري والاعتدال السياسي والوفاق الوطني العريض المؤسس على الشراكة في المصير الوطني، واستيعابها لما انتجته مجمل الشعوب والتجارب والتيارات الفكرية والسياسية والخبرات الاجتماعية. وترجمة ذلك كله على صعيد جماعي عريض لا يتم إلا من خلال تطوير التعليم، وقد كانت تلك النخبة صاحبة قناعة راسخة بأولوية تنوير الأجيال وتعليمهم . انه لا ينبني الاقتصاد المتين، ولا الجيش القوي إلا على التعليم، هذا ما كان مترسخاً في الوعي الجماعي للنخبة القائدة ووجدان للناس ذاتهم. بيد أن الاقتصاد والجيش القويين ليسا سوى مناخ الحماية لما هو أهم: العدل، والمساواة، والحرية، وهي ما يلهج به السياسي الناشط ، وما تتفجر به الروح الثورية التي كان يبثها المصلحون في ماضي تونس وينيرون بها مستقبلها. دستور تونس ما بعد الثورة الذي صاغه المجلس التأسيسي "فصلا فصلا" وتابعنا ذلك وتفاعلنا معه بشوق وشغف كبيرين، هو أرقى وثيقة دستورية مدنية تضبط الاجتماع السياسي في فضاء عربي، أنتجته نخبة فكرية وسياسية. جوانب أهميته عديدة، بعضها وربما أهمها يتعلق بالتمرين والممارسة السياسية والديمقراطية الطويلة، التي خاضها الأطراف والخصوم في هدف الوصول إليه، والجوانب الأخرى تكمن في النص المُنتج ذاته وسماته القانونية والمدنية المتفوقة. هذا الدستور إنتاج توافقي يمثل خلاصة جدل وسجال وخلاف ووفاق وتنازلات مُتبادلة من قبل الشرائح الأوسع تمثيلاً للتونسيين، وليس وثيقة فوقية صاغها شخص أو سلطة دكتاتورية وفرضها على الجميع. يمكن بكل ثقة القول إن الدستور هو وثيقة الشعب التونسي ورمز ثورته المظفرة . بالتأكيد هناك ما يمكن استدراكه على صيغة الدستور الجديد واقتراح صياغات بديلة لمواد أفضل مما دبجت فيه، لكن الأفضل الخلافي لا معنى له أو فائدة منه، وأعلى منه الأقل فضلا لكن المتوافق حوله. هنا بالضبط تكمن إحدى فضائل الديمقراطية وهي التمرين الصعب والمرير والمديد على الحوار والتنازل للأطراف الوطنية الأخرى، للوصول إلى المساحات المشتركة الوسطى، حيث يلتقي الجميع أو معظمهم على قاعدة المشاركة بالحكم وليس الاستئثار به. وهذه الممارسة الديمقراطية التي شهدناها في تونس، على اختلالتها وبطئها وما بثته من احتجاج بل وحتى حنين للعهد البائد بسبب غموض مساراتها وتعثر إنجازاتها الآنية هي الجوهر المهم في عملية إنتاج الدستور والتوافق عليه. في هذه العملية الطويلة صارت الغالبية السياسية تدرك بالممارسة والمعايشة، وليس بالتنظير الترفي، معنى السياسة الديمقراطية، حيث تتكبل أيادي كل طرف عن البطش بالأطراف الأخرى، وعدم إمكانية فرض ما يريد عليهم. تتحرك الكتلة السياسية الأهم مجسدة في حركة النهضة والنخب في قلبها إلى الأمام، ببطء ممل، لكنه مترسخ على مبدأ جوهري هو يتأسس على قيمة جوهرية تتأكد وهي حتمية التعايش مع الخصوم السياسيين والفرقاء الايديلوجيين، وهو الأمر المرير ربما لكن الذي لا مناص عنه، لتكريس الانتقال الديمقراطي . التجربة التونسية تنتزع الإعجاب في وسط عواصف الفشل والإقصاء والتشنج والاستقطاب والمناورة على الإصلاح والدم المُراق المتفجر في التجارب المشرقية المجهضة . الفرادة الكبيرة والمُلهمة في التجربة التونسية تكمن في عبقرية التوافق وكبح جماح شبق الكرسي والاعتصام بالحزب والذات التنظيمية وشهوة الاستئثار بالسلطة أو القرار. لم يتم ذلك من خلال مسيرة هادئة ووئيدة، بل على العكس كانت صاخبة، ومتوترة، وشهدت فصولا صعبة، جرتها إلى حافة وحوافر الهاوية في اكثر من مفصل زمني. لكن عقلانية ووسطية التوانسة بمجمل قياداتهم ونخبهم وتياراتهم الأساسية-وفي القلب منها حركة النهضة- ظلت هي الخاصية الظافرة والسمة المميزة لهم، وتعمل على سحب جميع المكونات الفكرية والسياسية والحساسيات الإديلوجية من تلك الحوافر والضفاف من ناحية الاستقطاب الحاد وتعيدهم إلى حكمة الوسطية الجامعة . وهنا لا بد من الوقوف على بعض من تجليات الافكار السياسية لرمز من رموز المرحلة والذي بصم التجربة بخصوبة عطاءاته الفكرية والسياسية، بغرض أن يراجع بعض المروجين للاستقطاب الايديلوجي أنفسهم عندنا، وقد آثرت أن أخصص جزءا من المساحة المتاحة لعرض بعض ما قاله زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي وهو يتحدث عن اشكالية الانتقال الديمقراطي والتحديات التي تواجهه. ولربما كان من أهم ما جاء في إحدى ما كتب حديثا هو تأكيده على أن: قناعتنا ان الأغلبية البسيطة لا تكفي في مراحل الانتقال، وأننا نحتاج ائتلافا واسعا لنوجه رسالة مفادها ان البلد للجميع. ويضيف الغنوشي: لقد حاولنا كل ما في وسعنا لتجنب الاستقطاب الايديولوجي، لانه وصفة للفوضى والفشل. ولهذا السبب قدمنا جملة من التنازلات سواء في ادارة شؤون الحكومة او صياغة الدستور، لتجنب هذا الخطر. ونحن نعتقد اننا في حاجة الى التعايش بين العلمانيين والاسلاميين على قاعدة مجموعة من القناعات منها: لا يوجد تناقض بين الاسلام والديمقراطية. وإذا كانت الديمقراطية لا تعني ان الحكم يجب ان يكون فقط للعلمانيين فحسب واعتبار الاسلاميين عدوا للدولة التي عليها ان تسجنهم او ترسلهم الى المنافي. فهي لا تعني ايضا استبعاد العلمانيين من السلطة وتهميش دورهم في السلطة او في صياغة الدستور لانهم لم يحصلوا على الاغلبية في الانتخابات. ان صعود الاسلاميين للحكم لا يعني انهم سيستحوذون على الدولة والمجتمع لمجرد كونهم حزب الاغلبية على النحو الذي كان يمارس في المنظومة السلطوية. ليس من دور الدولة ان تفرض نمطا معينا للحياة، بل دورها توفير الامن والخدمات لمواطنيها وان تتيح لهم حرية اختيار نمط حياتهم. ان الصراع بين العلمانيين والاسلاميبن والذي استمر لعقود من الزمن هدر طاقات كثيرة وساعد الدكتاتوريات على التحكم في مصير الناس و واستعمال بعضهم ضد بعض في الصراع مع العمل على ابعاد الجمهور من دوائر المشاركة السياسية في الحياة العامة. وعلى هذا الاساس فان التحالف بين العلمانيين والاسلاميين امر حيوي لمجتمع حر قادر على ادارة اختلافاته على اساس الحوار. ويلخص ما ذهب اليه في عبارة واحدة: نحن نعتقد ان المعتدلين من الإسلاميين والعلمانيين بمقدورهم بل عليهم ان يعملوا مع بعضهم وعليهم ان يجدوا توافقا لبناء وفاق واسع. وعن الدستور يقول الغنوشي : المبدأ الأساسي الذي نتبناه في صياغة دستورنا هو ان لا يكون هذا الدستور فقط دستور الاغلبية بل يجب ان يكون دستور كلّ التونسيين دون استثناء، وأن يتسنى لجميع التونسيون ان يروا انفسهم فيه، و ان يشعروا بانّه يمثّلهم سواء ان كانوا اغلبية او اقلّية. ويضيف: من أجل تحقيق هذا قمنا بتنظيم مشاورات واسعة مع مختلف الأطراف السياسية ومع منظمات المجتمع المدني و من خلال هذه العملية حاولنا بلوغ اكبر قدر من التوافق حول الدستور. ولكن عندما واجهنا خلافات جدّية حول قضايا حسّاسة مثل الشريعة، نظام الحكم رئاسي أم برلماني، وحول حرية الضمير، وكونية حقوق الإنسان، قمنا بتنظيم حوار وطني للوصول إلى التّوافق ، وانتهى بنا المطاف الى التوصل إلى حلول توافقية حول هذه القضايا الشّائكة وبالتالي قبل حزب حركة النهضة التّخلّي عن مسألة اقحام أحكام الشريعة الإسلامية في الدستور لأن هذه الفكرة لم تكن واضحة للشعب التونسي. ولا ينفي المفكر التونسي أن هناك متاعب داخلية صاحبت ما جرى فيطلعنا على أن: بعض الناس ضمن حزبنا ينعتوننا بانّنا تحولنا من حزب القيادة الى حزب التنازلات، لكننا نقول لهم بما أننا الحزب الاكبر في البلاد فانه لدينا مسؤوليات اكبر تحتّم علينا تقديم التّنازلات الضّرورية لمساعدة البلاد على المضي قدما. هذا بعضٌ من نص ما قاله الرجل، وبعضٌ من حديث لم يجد حرجا في أن ينطق بتواضع في حواره مع العلمانيين، ولا في أن يعتبرهم شركاء في الوطن، ومن ثم فهم شركاء في التخطيط لمستقبله. كل ما سبق يؤكد لنا أن الفكر السياسي الذي تصدر عنه النخبة النهضوية في تونس يؤسس للوفاق واللقاء والحوار والتعاون بدلا عن الصدام والصراع والاستقطاب والتنافي، ففي قلب هذا الوسط الفكري والسياسي كان حجر الزاوية متمثلا ببراعة في فكرة ضرورة اللقاء بين الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين وتكوينهم كتلة مستقرة تقوم عليها المسيرة السياسية، وتتمثل حزبيا ومؤسساتيا بترويكا مشكلة من حزب حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي، وشكل ذلك اطارا فريدا للحوار واللقاء بل للحكم والتدبير الذكي للمرحلة الانتقالية . مثل هذا الوسط السياسي الجامع لمكونات التيار الاساسي الإطار العريض للتوافق والاعتدال التونسي والسد المنيع الذي وقف في وجه التطرف الديني من جهة والتطرف الحداثوي العلماني من جهة أخرى. في التمسك بهذا الوسط كان على الرموز السياسية والقيادية أن تقدم تنازلات كبيرة وأحيانا مضنية ومكلفة. كان على الشيخ راشد الغنوشي أن يدين إرهاب تيار السلفية الجهادية واجرام المجموعات المستأجرة المتدثرة بالدين والمنخرطة في حرب بالوكالة ضد المجتمع والتي انتقلت من التكفير إلى مباشرة التقتيل في تونس على اساس تحريف للصراع بناءا على تصور ضيق للهوية. وكان على السيد المنصف المرزوقي والسيد مصطفى بن جعفر أن يدينا الخطاب والممارسة المتطرفين لأصوليي الحداثة والعلمنة في تونس، وهي مواقف لم يكن بالسهولة تبنيها واجتراحها في محيط يغذي التطرف السياسي والكراهية الايديلوجية . فضلا عن الآلية والتجربة والسياسة التي عكست نضجا متطورا باضطراد، هناك النص الدستوري نفسه وروحه المدنية الوفاقية المتميزة. الدستور التونسي الجديد يتشرب معاني المواطنة والمساواة والمدنية والحرية الفردية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية. يعكس انهماكاً بحرية الأفراد وكرامتهم والمساواة بينهم، ولا يعكس خوفا وتوترا لا حاجة لهما حول منظور خاص لمقاربة سؤال الهوية وتعريف الذات في الحاضر والتاريخ والجغرافيا. منذ منتصف القرن التاسع عشر وسؤال الهوية ومن نحن يطرق رؤوس المفكرين والمنظرين والأحزاب الأيديولوجية وصاغة الدساتير ، وينهكهم ويضيع جهودهم. ثم أصبح هذا السؤال المفتعل وغير العملي، من نحن، الهاجس الأكبر لجزء كبير من التيارات السياسية والحركات الإسلامية التي طغت على الساحة منذ نصف قرن تقريبا. وإحدى المشكلات الكبرى في هذا السؤال المفتوح والذي لا يمكن غلقه لأنه متعلق بالهويات المتغيرة فرديا وجماعيا، إن تناوله دستوريا وقانونيا لا بد وأن يقود إلى دسترة العنصريات الطائفية. الإجابة الوحيدة الفعَالة عليه هي المواطنة الدستورية الكاملة والديمقراطية: كل فرد في الدولة المعنية هويته تتمثل في مواطنته وانتمائه للدولة وفق تعريف دستوري يحدد الحقوق والواجبات ، ويصون الكرامة بعيدا عن الهوى الأيديولوجي. في المرحلة الانتقالية التي تمر منها أمتنا نجد أن كثيرا من النخب والدساتير تورطت في بسط سؤال من نحن وبدأت به أولا، ثم ارتبكت تاليا، وأدى ارتباكها إلى تقسيم مواطنيها والانخراط في ثنائيات استقطابية حادة ومفارقة وعنيدة. في الوضع السياسي التونسي الوليد وفي القلب منه الدستور الجديد ليس هناك غرق في تلابيب هذا السؤال، بل تأكيد على مدنية الدولة وديمقراطيتها ومأسسة السلطة وبشريتها وضمان كرامة الأفراد ومواطنتهم وصون حرياتهم الاساسية وغير ذلك مما صار عقدا اجتماعيا حصن التوافق الوطني وأمن تجربة الانتقال الديمقراطي الجاري في تونس الان. وفيه تحييد للدين بطريقة إيجابية وإناطة مسؤولية حماية الاعتقادات والحريات إلى الدولة، بما في ذلك حرية الضمير أي الاعتقاد. ينص الدستور التونسي أيضا، بحسبانه الوثيقة التي تشكل عنوان التوافق وخلاصته ورمزه الأبرز في المرحلة، في واحد من أهم أوجه الفرادة فيه داخل السياق العربي والإسلامي، على حظر استخدام المساجد للأغراض السياسية والدعاية الحزبية . ومناط الفرادة هنا يتمثل في قناعة حزب النهضة الإسلامي بهذا النص وإقراره له بل واقتراحه له بدءا، وهو ما يُسجل لإسلاميي تونس، وهو للإنصاف ليس موقفا انتهازيا بل هو قناعة لديهم تمثلت في عدم توريطهم للمساجد في الدعاية الحزبية، لأنهم لم يسمحوا له بالجمع بين الموقعين التمثيل النيابي، وهي السياسة، وإمامة المسجد والتوجيه العام للناس وارشادهم . لعلنا سنرى على أرض تونس ما كان قد حلم به رواد النهضة الأولى فيها، من قادة الحركة الإصلاحية في عالمنا الناهض، إن الذين حلموا بأن يمارسوا حياة سياسية عصرية قائمة على الانتخاب الحر والدستور والمواطنة، وبما يقرر ويرسخ مبادئ العدل، والمساواة، والحرية، يقرون اليوم دستورا عصريا ومدنيا بروح توافقية حرة. إن الأحرار وحدهم، هم من يبنون مجتمعات قوية ودولاً راسخة وعادلة .