الريادة لن تتحقق بتغير الربيع العربي المأمول، لأن الاجتهاد في تعديل الدساتير يقتضي الاجتهاد في تعديل قيم وعقليات وسلوك من سيحتكم لهذه الدساتير. يشمل الوعي بالمستقبل توظيف كل الامكانيات والخبرات والمهارات المعرفية والنفسية التي يستخدمها الانسان في فهم المستقبل ثم البدء بوضع بصيرة ورؤية واضحة الأهداف للتخطيط وصنع القرار وحل المشكلات. بمعنى ان الدراسات المستقبلية تحتاج الى تفكير في ربط تجارب الماضي بالحاضر، وفهم عمق مقتضيات هذا الحاضر، سياقاته المعرفية الفكرية، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، وتوازناته الدولية، لإتخاذ القرار والبدء في التنفيذ. والتنفيذ يحتاج الى تطور الانسان الداخلي وتطور المجتمع الذاتي لأن لكل منهما متضمنات تنعكس على الدراسات المستقبلية ومفهوم الاستبصار التقليدي. لم يبقَ التنبؤ بالمستقبل اليوم رهنا بدراسة الباحثين والمفكرين، بل تحولت مجالات البحث فيه إلى طرق حديثة في جمع المعلومات واستخدام أساليب حساب رياضية وإحصائية لاستقراء التطورات المحتملة والممكنة في ضوء المعطيات السائدة. وبالتالي فإن البحث في مستقبل الواقع الصناعي والزراعي والبيئي قد يخضع ببساطة لأجهزة مركبة تقحم فيها مجموعة من الاحصائيات لتتنبأ لك بمستقبل التطور في غضون 20 او 30 سنة المقبلة. لكن يبقى استشراف مستقبل ما سيؤول اليه الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والمالي أصعب بكثير. الدليل على ذلك، هو عدم تمكن الكثير من مراكز التفكير المستقبلي ومقاولات الذكاء الهندسي من التنبؤ بالأزمة المالية الخانقة التي تسربت كغاز مسيل للموارد المالية الدولية. في المغرب اليوم، كما في غيره من البلدان، نحن بصدد البحث عن مصادر للموارد البشرية المستدامة، والتي يعتبر التعليم والبحث العلمي الدينامو المحرك لإستدامتها، فكيف نستشرف مستقبل الواقع الثقافي لولوج مجتمع المعرفة، في ظل أزمة فكرية ترتبط في مجتمعاتنا بواقع تكلس جيولوجي للعقل الجمعي الثقافي. هناك فرضيتان تحاولان تفسير ظاهرة الأزمة الثقافية وهشاشة النظام الثقافي لمجتمعاتنا تنطلق الفرضية الأولى "من أن ثقافتنا العربية تعاني معاناة شديدة وأزمة شاملة مركبة وعميقة وعجزها عن التكيف والتأقلم الايجابي والفعال مع المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية، وهذه الأزمة تحتوي أزمة شرعية وأزمة هوية وأزمة عقلانية وأزمة رفض وقبول". وأما الفرضية الثانية فتنطلق من "أن ثقافتنا العربية كمنظومة ونظام، وما نتج عنه من نهوض فكري ومنتوج ثقافي وسياسي قد اصابه الانهيار بعد هزائم تاريخية متتالية، ومن ثم يتوجب البحث عن نظام ثقافي ببنية معاصرة ورؤية ورواد جدد مؤهلون لولوج مجتمع المعرفة السريع الخطى والتطور." هذه الريادة لن تتحقق بتغير الربيع العربي المأمول، لأن الاجتهاد في تعديل الدساتير يقتضي الاجتهاد في تعديل قيم وعقليات وسلوك من سيحتكم لهذه الدساتير، ومادامت الثورة الحقيقية لم تحدث في عقولنا، وعلى ذواتنا، فلن نأمل تحقيق المعجزات من الربيع العربي في بناء الإنسان الوطني المسخر لطاقاته وكفاءته في بناء الوطن والدفع بتنميته بعيدا عن مصالح الانتماء الضيق للحزبية أو المصالح الشخصية، أو العشيرة، أو الانتماء المذهبي والفكري والايديولوجي، إن مستقبل جيل مجتمع المعرفة رهين بإعادة صياغة العقل الحاضر بما يتماشى وتحديات المرحلة استشرافا لمستقبل مشرف لمجتمعاتنا. هذا المستقبل لن تتحدد معالمه إلا إذا استثمرنا حق الاستثمار، حكومات، شركات، مقاولات، رجال اعمال، مجتمع مدني، ومفكرون في شتى التخصصات... 1- في حسن صياغة مشاريع التخطيط العلمي الدقيق. 2- العناية بالأخلاق والقيم. فانهيار الصدق في القول والعمل، يحول الثقافة الى حرفة والسياسات الحزبية والانتمائية الى حرفة، والإعلام إلى حرفة، والاستثمار الاقتصادي الى حرفة، والعمل الجمعوي في غياب حب الوطن الى حرفة. 3- تعزيز قيم التعددية الثقافية ضمن الهوية الوطنية وحسن توظيف إمكاناتها لإشعاعها في المنافسات الحضارية العالمية. 4- أولوية تطوير استراتيجية برامج التعليم بشكل وتفعيل دور مؤسساته في مشاريع تحقيق التنمية المستدامة. 5- دعم مراكز التفكير وهندسة الأفكار في إقتصاديات المعرفة والذكاء الاقتصادي والذكاء المعرفي الذي سيؤهل الجيل المقبل للدخول لمجتمع المعرفة. 6- تفعيل الخطط التي تجعل من الجامعة الوطنية ومراكز البحث في كل بلد المحضن الرئيسي لانتاج اقتصاديات المعرفة. فالدول التي تسعى الى بناء اقتصاد معرفي يجني ثماره مواطنوه ويفعلوه، هي دول استوعبت معاني الاستفادة من خبرات وكفاءات الوطن ووظفتها رغم قلة الموارد المالية، والاقتصاد الذي لا يستفيد من مراكز البحث والتطوير وكفاءات الرأسمال البشري الذي تزخر به بلداننا سيبقى في معاناته. ولنا مثل واضح على شركة آرم القابضة البريطانية التي تتخذ من مدينة كمبريدج العلمية مقرا لها. 7 - دعم مراكز ودور النشر والإعلام وخاصة في نشر الوعي الثقافي الجماعي لمجتمعنا. 8 – تقوية إرادة الوعي الفردي والمجتمعي وتحفيز الدافعية إلى الانجاز، الذي يحفظ لنا كفاءاتنا الوطنية داخل بلداننا. وبناء على ما سبق نحن في أمس الحاجة اليوم لدعم مشاريع مراكز الدراسات والأبحاث وتحفيز طاقاتنا لاستشراف مستقبل بلداننا وإيجاد حلول لها من جوانب معرفية واقتصادية واجتماعية.