عندما يقول لي أبو الحسن الشاذلي: "عليك بكتاب الله الهادي، وبسنة رسوله الشافي، فلم تزل بخير ما آثرتهما. وقد أصاب الشر من عدل عنهما". فإن الرجل نصحني بما علي التمسك به وأجره على الله. وما نصحني به، هو عين ما نصح به الرسول كافة المؤمنين قبل التحاقه بالرفيق الأعلى حيث قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي. فمن رغب عن سنتي فليس مني". والله تعالى لم يكلف نبيه بمسؤولية تبليغ خطابه إلى البشرية جمعاء فحسب. وإنما كلفه كذلك إلى جانبها بمسؤولية التوضيح والبيان فقال يخاطبه: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون". فيكون على الرسول بيان ما في كتاب ربه من أحكام الوعد والوعيد وغير ذلك مما لم يرد فيه على وجه التفصيل. وحتى تترسخ في الأذهان فكرة كون الرسول مسؤولا عن التبليغ والبيان، أكد الله في غير ما آية وجوب طاعته ووجوب الاقتداء به، أي وجوب العمل بسنته، دون الاقتداء بغيره، مهما يكن هذا الغير إلا بشروط في مقدمتها كونه تقيا عالما ورعا مطيعا لله ولرسوله، كحال الأئمة الأربعة وكحال كبار المحدثين كالبخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود الخ. تكفي الإشارة هنا إلى قول عمر بن الخطاب: "السنة ما سنه الله ورسوله، لا تجلعوا حد الرأي سنة للأمة". فسبيل الله الذي عليه الرسول، نهج وحيد مقبول دينا لمن يبتغي مرضاته عز وجل، فجاء حرص صحبه الكرام على انتهاج نفس نهجه في التعبد، احتراما منهم لأمر الله بوجوب اتباعه. فكان حرصهم عبارة عن خوفهم من الوقوع في مهواة الضلال الذي تجسده مختلف المبتدعات مهما تكن موضوعاتها. فيكون مقياسنا لتحديد هوية متبوعنا أيا كان هذا المتبوع المتوفر على الشروط المذكورة قبله، هو مدى ارتباطه بمدلول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم". لأن من لم يطعهما بطلت مباشرة أعماله فأصبح من العصاة أو من الفسقة بعبارة أخرى! فإن كانت الطاعة خضوعا للأوامر وللنواهي، فإن أوامر الله ونواهيه لا بد أن تطاع. ويقال نفس الشيء بالنسبة لأوامر مجتباه ولنواهيه. وأمر الله بطاعة نبيه معناه: الاقتداء به. ومجتباه نبه في غير ما حديث من أحاديثه إلى خطورة الخروج عن سنته. إذ العمل بكيفيات أخرى في التعبد، رفض صريح لها بكل وضوح! مع التأكيد على أن الطاعة يقابلها العصيان! والعصيان من فعل العصاة! أو من فعل الفساق والمارقين. هؤلاء هم الذين يصرون على مخالفة الرسول في الأقوال وفي الأفعال وفي التقريرات. فكان أن تم وصفهم بضلاليين مبتدعين. يكفي قوله ص: "من رغب عن سنتي فليس مني". أي لا علاقة تشدني إليه، ولا وشيجة تربطني به. فما بيننا من علاقة وهو مقتد بي ، طائع لي، سوف ينتفي أو ينعدم إن هو اختار طرقا محدثة لأداء الواجبات الدينية التي عليه أداؤها كمؤمن بما جئت به! إن الأمر إذن لا يتعلق ببغض مفتعل للطرقيين لا خلفية إصلاحية من ورائه! كما أنه لا يتعلق بإمعان مقصود في التفريق بين المؤمنين من خلال استعداء جماعة منهم على أخرى! وإنما ديدننا هو تطهير ديننا مما علق به من شوائب، أصحابها المروجون لها معروفون. ونشعر بالراحة كلما قرأنا لهم كلاما من باب الرد علينا حتى يعم النفع وتعم الاستفادة. لكن كلامهم للأسف الشديد، كلام إنشائي يخبر عن افتقار من يصدر عنهم إلى براهين نقلية وإلى أخرى عقلية لغاية تعزيز ما يرون أنه حق. فإن قدمنا لهم أدلة ساطعة على أن الطرقيين بدعيون ضلاليون كذابون، بحسن النية أو بسوئها! واجهونا بما تعلموه من مشايخ الطرق الذين يتضايقون من الحوار البناء! بحيث إنهم يلجأون إلى الزعم بأننا لا نعرف مقاصدهم الصوفية من وراء عباراتهم التي هي رموز، غيرهم لا يستطيع فهمها! وكأن الدلائل التي سقناها لم تكتب باللغة العربية الفصيحة! أو هي داخلة في إطار مسمى الحقيقة المقابلة عندهم للشريعة! في حين أننا نحيلهم باستمرار على مصادرنا وعلى مراجعنا. والتحدي الذي نرفعه، هو وضوح تساؤلاتنا لتفنيد زعمهم القاضي بأنهم يتعلقون – لتبرير قناعاتهم النظرية وممارساتهم التطبيقية بالكتاب والسنة - فإن كان معارضونا على حق فيما يدعون، فليجيبوا على نفس الأسئلة التي طرحناها عليهم قبل الآن، والتي نمهد لها دوما بسؤالين وضعناهما منذ عام 2008م على ظهر كتابنا "عرقلة الفكر الظلامي الديني للنهضة المغربية". ونعيدهما هنا لتعميق دلالة التحدي الذي نرفعه في وجوه المفسدين للإسلام الحق فنقول: ما الأفضل في الدين، قول الرسول وفعله وتقريره؟ أم قول وفعل وتقرير غيره فيه؟ هذان السؤالان وجهناهما إلى علماء ومثقفين وأدباء وصحفيين وأطباء وصيادلة وأميين وأشباه الأميين في الحواضر وفي البوادي. ولم يجرؤ أي كان منهم على الادعاء بأن في الدين أقوالا وأفعالا وتقريرات، أفضل من أقوال الرسول ومن أفعاله ومن تقريراته فيه. لكننا سجلنا كيف أن بعض المعدودين من الطرقيين، يشعرون بضيق شديد، لكونهم يدركون ما نرمي إلى إظهاره من وراء طرحهما. وأذكر للتاريخ، حتى يفهم القراء بأن الأمنيين في بلدنا يراقبون كل من يعمل مثلي على مواجهة الفكر الظلامي الديني الذي تواصل الدولة ذاتها مده بالأوكسيجين اللازم حتى لا يختنق! دون أن تعدم مساعدين مخدوعين نظير من يقفزون إلى الواجهة كلما ذكرنا بسوء من يقدسونهم ويرفعونهم إلى علياء الصلاح السامق وإن لم يكونوا صلحاء! فبعد ظهور كتابي المذكور قبله بما يقرب من شهرين، هاتفني أمني طالبا مني إمكان أو عدم إمكان حضوره إلى بيتي لأمر يهمه، ويهم الجهة التي أرسلته لمقابلتي. فاخترت حضوره بدل توصلي بالاستدعاء للحضور إلى أقرب مكتب يجري فيه تحقيق محتمل معي. فكان أن قدم إلى منزلي ومعه رفيقان له. فطلب مني الثلاثة تقديم خلاصة مركزة عن الكتاب. وكان أن وجهت لهم السؤالين اللذين وجهتهما حتى لكبار المسؤولين في بلدنا. ولم يجدوا بدا من الرد بالإيجاب، حيث قال أحدهم بالحرف: من البديهي أنه لا يوجد قول ولا فعل ولا تقرير في الدين، أفضل من قول الرسول ومن فعله ومن تقريره. عندها لخصت لهم مضمون الكتاب في هذه العبارات: لم يأمرنا الله ورسوله بإحداث فرق في الدين، يجري التنافس فيما بينها على قناعات نظرية وعلى ممارسات تعبدية بكيفيات ماعرفها الرسول ولا أمر بها! كما أن الرسول لم يأمرنا ببناء أضرحة من اعتبرناهم صالحين! ولا أمرنا برفع القباب عليها وزيارة المدفونين بها، والاحتفاء بهم في مسمى "الموالد" لدى المصريين، وفي مسمى "المواسم" لدى المغاربة. فضلا عن مطالبتهم بقضاء حوائج بعينها، مقابل القربان الذي نتقرب إليهم به، وكأنهم آلهة معبودون، بمقدورهم دفع الأضرار عنا، وجلب المنافع إلينا. إن السؤالين المطروحين إذن لا زالا ينتظران من الطرقيين وغير الطرقيين الإجابة عنهما إما بالنفي وإما بالإثبات. خاصة وأن الطرقيين بالذات يدعون بأنهم على نهج الرسول في التعبد سائرون. فإن هم أكدوا وجوب التعلق بسنته ص، فهل لدى مشايخهم الذين يقيمون "الحضرة" أو "العمارة" دليل واحد على أنه ص كان يقيمها؟ وإن كان يقيمها فهل كان يرقص هو وأصحابه وهم يرددون كلمات قصد استدعاءهم للحال أو للأحوال؟ وإن لم يكن يقيمها. فمن أحدثها كبدعة ولأية أهداف؟ إنه الرهان الذي نطرحه في انتظار إجابة خصومنا الذين خاطبني بعضهم بقوله: اترك الناس يعبدون ربهم بالكيفية التي يريدون؟ بينما قال بعضهم الآخر: ما يصدر عن السادة الصوفية صعب عليك فهمه! لكننا كمسلمين نريد الإفادة والاستفادة. ولا يعاب علينا إن نحن طلبنا ممن يعرفون ما انتهينا إليه بخصوصه، مدنا بنصيب منه! والحال أن التساؤل عما إذا كان نبينا يتعبد بالاسم المفرد "الله الله" تساؤل مثل التساؤل عن الحضرة مشروع؟ ولا ينفع التملص منه بالمراوغات المشينة المقيتة. فالعدد أربعة، إما هو نتيجة لواحد زائد ثلاثة. أو هو نتيجة لاثنين زائد اثنين. فلماذا إذن يتهرب الطرقيون ومن يواليهم من الإجابة على أسئلتنا الواضحة كل الوضوح وهي هنا تحديدا محور موضوعنا؟ وأي مشارك في مناقشته مهما تكن هويته الثقافية، وانتماؤه الديني والسياسي ملزم بالإجابة عنها حتى لا تصبح الردود مجرد عبث؟ فإما لا، والدليل مطلوب! وإما نعم والبرهان مرغوب فيه! وبما أن الطرقيين يشطحون ويذكرون الله قياما على تلك الحالة التي تشاهدهم عليها الأمة، فليخبرونا عن المشروعية الدينية لما يفعلون. إن لفظ الجلالة "الله" كلمة لا كلام! وأطفالنا في مدارسنا سوف ينكرون أن تكون كلمة سعيد، أو كلمة لقمان، كلاما أو جملة مفيدة. فالكلام عندهم "هو اللفظ المركب المفيد بالوضع". أما تكرار لفظ الجلالة "الله الله" لآلاف المرات، فعمل عقلا غير مفيد! وعمل نقلا غير وارد فعله عمن يدعي الصوفية التزامهم بسنته! والانتصار عندي للجمع بين الفرقاء المتنافرين هو هدفي من دون غيره، وهدفي هذا مصدره القرآن الكريم. أو لم يقل الله عز وجل: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب. أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون"؟ أو لم يقل - وهو يخاطب نبيه -: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء"؟ أو لم يقل في نفس سورة "الأنعام": "ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا"؟ وتقديس المقبورين والادعاء بأنهم يداوون العاهات الجسدية والأمراض العقلية، انزلاق فظيع إلى ظلام دامس مكثف حالك؟ وإلا فما الأسباب التي أدت بجهة حقوقية مغربية في الأيام الأخيرة إلى رفع دعوى قضائية لتحرير مواطنين تم ربطهم بالسلاسل داخل باحة المقدس المزعوم "بويا عمر"؟ وأي داع جعل حكوماتنا تغض البصرعن مناكر القبورية والطرقية في آن واحد؟ وقد كان بالإمكان أن لا تنتهي أحوالنا كمغاربة مسلمين إلى همجية لم يعد العمل جار بها إلا لدى الشعوب البدائية في أدغال إفريقية؟ فلو نحن وقفنا عند وصايا نبي الهدى لما غرقنا في الضلال المبين حتى الأعماق! فيكون على المنتقدين حمل أسئلتنا إلى شيوخ يعتقدون أنهم أعلم منهم بما نقول. إنما دون أن ينسوا وهم يقصدونهم في زواياهم أن يصحبوا معهم قول الرسول: "من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". ودون أن ينسوا بأن الرسول عليه السلام اعتمد وسائل الإيضاح حتى يقدم لأصحابه صورة مجسمة واقعية لسنته التي يجب أن تتبع. فعن عبد الله بن مسعود قوله: "خط لنا رسول الله ص يوما خطا ثم قال: "هذا سبيل الله". ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثم قرأ هذه الآية: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله". وقد ورد في "الجامع لأحكام القرآن" شرح ابن عطية للآية هكذا: "وهذه السبل (المحروسة من الشياطين) تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد". أما الجادون في حوارهم كملتزمين أو كمتعاطفين صوفيا، فلهم منا تقدير مؤكد – وإن نحن اعتبرناهم على خطأ – دون أن نحرمهم من حكاية بطلها عبد الله بن مسعود، عندما كان واليا على الكوفة. فقد قال له أبو موسى الأشعري: "رأيت في المسجد قوما حلقا حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى (الحصى تحول إلى سبحة) فيقول لهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة. ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمان، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شيء! ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم. أو مفتتحي باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمان، ما أردنا إلا الخير. فقال: وكم مريد للخير لن يصيبه"؟؟؟ ولا ننسى التأكيد هنا على أننا مقتنعون كغيرنا من المثقفين الواعين بالحق الطبيعي في الاختلاف والائتلاف. إنما على أساس أن تقدم كل الأطراف براهينها على ما تدعيه وتدافع عنه، لأن الكتابة مسؤولية. ولأن المسؤولية تقتضي تجنب التضليل، وفي الوقت ذاته تستدعي - عند من يشعرون بثقلها – تبرير كل انتماء وكل ميل وكل تبعية، وكل قبول بآراء أو أفكار محددة! أما المتفكهون الذين لم يتعودوا على تحمل المسؤولية الثقيلة الواعية للتعبير عن آراء تصب في خانة استفادة أكبر قدر من القراء والمتتبعين، فلا حديث لنا معهم ولا تواصل! فلهم خياراتهم ولنا خياراتنا! دون أن نتطلع إلى حرمانهم مما يختارون! مع أنه كانت عليهم مراعاة أدب الحوار الذي يؤدي غيابه إلى جعل بعض المتدخلين كأطراف فيه مجرد مسخرة، أو مجرد أضحوكة! إذ لا مجال لقول احد المتفرنسين: "ديما ديما الرجاء"! في تناول موضاعات جادة تهم الأمة المغربية بكاملها. ولله الأمر من قبل ومن بعد!