العصمة ووجه الاقتداء بالأنبياء جاء في بعض تعليقات القراء سؤال عن معنى العصمة، فهي كما عرفها العلماء ملكة قوية تمنع صاحبها من اقتراف المعاصي، وفي حق الأنبياء بالإضافة إلى ما سبق حفظ الله لهم من الخطا في تبليغ الرسالة، وتلك الملكة تحصل من الوعي التام بقبح المعصية وآثارها الوخيمة في الدنيا والآخرة، وهي في ازدياد بقدر ازدياد المعرفة بصفات الله وأسمائه وأفعاله وما يستحقه سبحانه من التوقير والتعظيم، وخوف العبد الصالح من سقوطه من عين الله عز وجل لحظة تلبسه بالمعصية، وكذا الخوف من سوء الخاتمة، فهي درجة عالية من التقوى تمنع من ارتكاب الآثام؛ لكن ما يميّز الأنبياء عمّن دونهم من الصالحين كونهم معصومون من الخطأ في تبليغ رسالات ربهم، كما قال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في مطلع سورة النجم: (والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)، كما أن الأنبياء رأوا من آيات ربهم الكبرى ما يجعل تلك الملكة عندهم تامّة، وعند غيرهم ناقصة، وحسبك أن ملك الوحي ينزل عليهم بكلام ربهم ويدارسهم إياه، ما يجعل حقّ اليقين عندنا هو عين اليقين عندهم (لقد رآى من آيات ربه الكبرى). والعصمة لا تنافي منزلة المجاهدة، لذا كان الأنبياء أشد الناس بلاء كما في الحديث الصحيح، وسادات الأنبياء ابتلاهم الله عز وجل واختبرهم، وكان امتحانهم الأشد في سجل الصالحين، فهذا إبراهيم عليه السلام لم يصل مرتبة الخلة حتى اختبره الباري سبحانه تلك الاختبارات الشديدة التي يعجز عنها البشر العادي، فقد ألقاه قومه في النار لأنه سفه آلهتهم ودعاهم لتجريد التوحيد، وأمره ربه بذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه السلام بعد أن بلغ معه السعي، فلما نجح في تلك الامتحانات وأدى الذي عليه كما في قوله تعالى (وإبراهيم الذي وفى) استحق وسام القرب فأصبح خليل الرحمن، ووصفه ربه بأنه أمة وحده (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا). وسائر الأنبياء امتحنوا وصنعوا على عين الله، وأعدوا لحمل الرسالة إعدادا؛ قال تعالى مخاطبا نبيه في بداية التكليف: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، وقال في حق موسى عليه السلام:(وفتنّاك فتونا) أي اختبرناك بألوان من الاختبار، وأيوب عليه السلام عاش في المرض والابتلاء سنين عددا، فقال الله في حقه:(إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أوّاب)؛ ووصف يحيى عليه السلام بقوله:(وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين)، والحصور الذي له غريزة جنسية قوية لكنه يمتنع عن النساء تقديرا لجناب الله وتعظيما لأمره. وهذا حال سيدنا يوسف عليه السلام، فقد كان شابا قويا أوتي شطر الجمال يأكل من طعام الملوك، وكانت سيدته ذات منصب ومال وجمال، لها عليه سلطة السيد على غلامه، قد شغفها حبا، فتحرشت به وأبدت له من التغنّج والدلال بعد أن خلت به ما يحمله على مواقعتها لولا أن رآى برهان ربه، فلما استعصم وامتنع وقال لها: (معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي)، اتهمته في عرضه وهددته بالسجن والّبت عليه صويحباتها (فلمّا رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا، إن هذا إلا ملك كريم)، فاختار عليه السلام السجن بعد أن أصبح التحرش به جماعيا، وقال مناجيا ربه:(وإلا تصرف عني كيدهنّ أصب إليهن وأكن من الجاهلين)، أي إن ترفع عني عصمتك وتكلني إلى نفسي أقع في المحظور، فلا حول لي ولا قوة في دفع مكرهن وكيدهن إلا بك. وهذا من تكميل الله لأنبيائه وحفظ جنابهم الشريف، وإلا فالمكره على المعصية لا إثم عليه، ووجه الاقتداء بيوسف عليه السلام ظاهر، وهو الاستعصام والامتناع عن مقارفة المعصية ثم الدعاء والالتجاء إلى الله ذي الحول والقوة، ومن استعصم عصمه الله، وفي الحديث: "مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعْفِّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ تَصَبَّرَ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ"، فهي أسباب ومسببات، تماما كمن يطلب الرزق يرزقه الله، ومن جلس في بيته لا ينزل عليه من السماء رزق، بل لابد من مباشرة الأسباب. والعصمة شق منها مكتسب وهو موضع الاقتداء بالأنبياء، وشق منها هبة من الله كما فصلنا في مطلع المقال، فلا يقال إن العصمة تنفي الاقتداء، لأن المعصوم لا يبدل جهدا في تركه للمعصية، تماما كما هو حال الملائكة الذين جبلوا على الطاعة (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون)، بل الصواب أن نقول: إن الأنبياء كسائر البشر مبتلون بالغريزة التي ركبت على مقتضى الحكمة، لكنهم يضعونها حيث أمروا طلبا للمعالي بعد أن تجاوزوا منزلة المجاهدة واطمأنت نفوسهم لذكر الله وما نزل من الحق، فلا تنازعهم الشهوات ولا تعتريهم الشبهات، والناس يقتدون بصبرهم وحكمتهم وشكرهم ورضاهم وخوفهم ورجائهم وعظيم توكلهم، ويهتدون بهديهم طلبا للكمال البشري الذين هم مثله الأعلى. فليست للأنبياء جوانب سلبية في حياتهم أو نقص في منهجهم البتة، وهذا كلام من يجهل قدر الأنبياء ولا يعرف حقوقهم، أو من لم يفرّق بين الذنوب كبيرها وصغيرها، قال تعالى:(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)، فقد تقع من الأنبياء والمقربين بعض صغائر الذنوب فيؤاخذون عليها ويعاتبون، وقد يخطئون في بعض الاجتهادات فينبههم الوحي ويصوّبهم، وهذا منهم على وجه الندور. بوهندي ينكر السنة: يقول الدكتور بوهندي إن القرآن محفوظ بحفظ الله، ويستدل بالآية الكريمة (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وهو دليل لا يقبله منه من يزعم أن التحريف طال القرآن كما طال الكتب قبله، فالمخالف لا يقبل بأن تأتي بدليل من داخل القرآن على سلامة الكتاب من التحريف والتبديل، لأنه سيسقط دليلك بأن الآية المستدل بها أيضا مدسوسة، لكن الاستدلال الصحيح بالآية يأتي بعد إثبات أسباب حفظ القرآن، ومنها نقله بالتواتر وإعجازه، وبوهندي لا يسلم بإعجاز القرآن، كما لا يسلم بقواعد النقل التي حررها علماء مصطلح الحديث، لأن ذلك يتناقض مع أصل من أصوله الفاسدة، وهو إنكاره للسنة النبوية التي هي منهج النبي، والمشار إليها في أحاديث عدة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم للنفر الثلاثة الذين تفاخروا بأن أحدهم يقوم الليل ولا ينام، والآخر يصوم الدهر ولا يفطر، والثالث يعتزل النساء قلا يتزوج، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منّي"؛ وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"، وقوله: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس"، وسنته هي المشار إليها في القرآن ب"الحكمة"؛ قال تعالى:(كما أرسلنا فيكم رسولا يتلو عليكم ءاياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)، وقال سبحانه:(هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) وأمر أزواج النبي بقوله:(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من الآيات والحكمة)، فإذا كان الكتاب هو القرآن، فما هي الحكمة يا ترى؟ لكن بوهندي له ٍرأي آخر خالف فيه قواعد العلم، إذ جعل هذه المرويات المسمّاة عندنا السنة مادة صالحة فقط لفحص الثقافة السائدة في المجتمعات التي اختلقتها كذبا على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الانتصار لمقولاتها ومذاهبها وسياساتها، ويضرب عرض الحائط القواعد العلمية التي وضعها علماء نقد الحديث سندا ومتنا، وهو العلم الذي لا وجود له عند أمة أخرى؛ يقول بهذا الصدد:" أنا دائما أقول إن علم الحديث وروايات الحديث هي مادة مهمة جدا للمعرفة السوسيولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، لأن هذه الروايات هي وثائق على الأقل تحدثنا عن تاريخها وعن كيف كان يفكر الناس في الدين في تلك العصور، وتبين لنا جوانب كثيرة لم تسجلها وثائق كثيرة أخرى، ومن ثمة هذا مجال للبحث مهم وكبير جدا، يحكي لنا عن المجتمع والتاريخ والسياسة واللغة والفن والعلاقة بالدين، ولكن مع إزالة القداسة عنها، لكن إذا أخذناها بشكل مقدس ونحن نريد أن نتعبد بها، هنا يصبح من الصعب أن نتعامل بها". إلى أن قال : "هل نعتمد منهج حدثنا أو منهج أخبرنا أو الكثير من المناهج التي نعمل بها الآن؟" ونحن طرحنا عليه أسئلة لا يستطيع الإجابة عنها إلا بإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ف"القرآنيون" يسهل محاصرتهم بأسئلة بسيطة من قبيل: كيف نصلي؟ ما هي نواقض الوضوء؟ هل منها الفساء (يعني خروج الريح)؟ وما الدليل على ذلك؟ كيف نصلي؟ عدد الركعات في كل صلاة...إلخ ما هي مقادير الزكاة؟ وما هي نواقض الصيام؟ وكيف نحج ؟ فهذه أركان هذا الدين التي يقوم عليها، لا وجود لتفاصيلها في القرآن الكريم، وأعظمها الصلاة، وكل الأمم كانت لها صلاة تتقرب بها إلى الله عز وجل، لكن الله خص الرسالة الخاتمة بأفضل صلاة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء ورأى الملائكة ما بين قائم يسبح الله وراكع يقدس وساجد لا يرفع، سأل ربه أن يجمع له ذلك كله في صلاة واحدة يتقرب بها وأمّته إليه، فاستجاب له ربه وفرض هذه الصلاة العظيمة التي من ضيّعها كان لما سواها أضيع، والله تبارك وتعالى خلق هذا الإنسان لأجل هذه العبادة (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون)، فهذه أصول الدين الكبرى بعد توحيد الله عز وجل. أما القراءات المتعددة للنص الديني فقد كانت وستبقى، ولو كان العلماء يقدسون مناهج التفسير أو مناهج النقد أو قواعد الأصول فضلا عن الفروع، لتوقفت منذ القرن الأول الذي ظهرت فيه، ولما حررت مئات التفاسير ولما نشأت مدارس مختلفة كمدرسة الأثر ومدرسة الرأي، ولما اختلف العلماء في التصحيح والتضعيف، ولما جاء الإمام الشاطبي بعد قرون ليضع كتابه الموافقات في الأصول ومقاصد الشريعة، جاء فيه بما لم يأت به الأولون، وتلقته الأمة في القرنين الماضيين بحفاوة عظيمة. القراءة الجديدة للقرآن أما ما يزعم الدكتور بوهندي أنه منهج جديد في قراءة القرآن، فهو مأخوذ بحذافيره عن المدرسة التجديدية المعاصرة التي بناها المعهد العالمي للفكر الإسلامي منذ مطلع الثمانينات (1). يقول الدكتور طه جابر العلواني (2) :"منهجية الجمع بين القراءتين تعني: قراءة الوحي وقراءة الوجود معا، وفهم الإنسان القارئ كلا منهما بالآخر، باعتبار القرآن العظيم معادلا موضوعيا للوجود الكوني، يحمل ضمن وحدته الكليّة منهجية متكاملة يمكن فهمها واكتشافها في إطار التنظير لتلك الوحدة الكلية؛ كما أن الكون يحمل ضمن وحدته الكلية قوانينه وسننه؛ والإنسان وإن كان جزءا من الكون لكنه عند النظر يعد أنموذجا مصغراً للوجود الكوني ومستخلفا فيه.." ثم ذكر منهجية الجمع بين القراءتين.ص.60 من نفس المؤلف، وفي مؤلفات أخرى عدة، لكن هذه المدرسة التجديدية لا تنكر السنة، بل تعظمها باعتبار منزلتها شارحة للقرآن، تفصل مجمله وتقيد مطلقه وترد متشابهه إلى محكمه. *عضو مركز المقاصد للدراسات والبحوث (1) أنظر: "إسلامية المعرفة : المبادئ العامة خطة العمل الإنجازات؛ سلسلة إسلامية المعرفة (1). (2) ابن تيمية وإسلامية المعرفة: ص.22