عندما ثار الريف حرقة وغضبا مطالبا بأبسط حقوقه في العيش الكريم, تفرّقت الرؤوس بين مؤيدين و متعاطفين ومكفّرين، ومرّت الأحداث سريعا وحملت ما نعرفه وما لا نعرفه عن مسلسل الاعتقالات. مخطئون من ظنّوا أن الحراك كان جهويّا وانفصاليّا. يكفي التمعن في فاجعة الصويرة لندرك أن جوهر التنمية يضع في اعتباره جهات دون أخرى، وأن الجهات الأفقر طواها النسيان وغدت مهمّشة حدّ الإملاق والذل. إذا عجّلت عجلة الزمن بطيّ ملف حراك الكرامة، فتدهور مؤشرات التنمية البشرية ضارب في جذور المجتمع, كما أنها أعمق وأشد رداءةً من أن يتم تغطيتها بمواكبة خط الحداثة والعولمة. بعد فاجعة يوم الأحد, ندرك أن التهميش بعيد كل البعد أن يكون مقتصرا على الريف فحسب، بل يشمل هذا التهميش بنية تنموية مهمة, كما يكشف عن قصور في عملية التنمية ذاتها. بعد حراك الكرامة..فاجعة الذل في الوقت الذي تعاني فيه عائلات مناضلي الحراك فقدان فلذات أكبادها في صمت العزاء، ويخضع فيه المعتقلون إلى خلوات ذواتهم المحصورة في فراغ الريب والانتظار، يهتز البلد بفاجعة جديدة في مدينة الصويرة أودت بحياة 15 امرأة إثر حادث تدافع خلال عملية توزيع مساعدات غذائية بجماعة سيدي بولعلام بإقليم الصويرة. لا شيء أكثر قهرا من موت الأم، إذ ليس هناك مقابل يملأ مكانتها. في جميع الأحوال، يظهر أن الرجال يتحاشون التدافع, للرجال كرامة لا تقاس. لا شك في أن فاجعة الصويرة هي قضية تنموية, لكنها أيضا قضية تذكرنا بالتحدّيات التي تواجهها قضية المرأة في مجتمعنا. في الوقت الذي تكشف فيه نساء العالم عن قصص أخفينها طويلا وتجهر بالاعتداءات التي تعرضن لها بعد صمت طويل, يبدو أن النساء في المغرب جد منشغلات عن ذلك, إذ يفكرن في قوت أبناءهن أكثر من مراجعة شريط حياتهن. نساء الصويرة هن ضحايا انتماءهن الاجتماعي, انتماء يقصي الأنثى جسدا وروحا وعقلا, وحدها الغريزة تحرّكها وتدفع بها إلى الركض والتدافع من أجل كسرة خبز. يستبد بالفاجعة العبث يستبدّ العبث بفاجعة الصويرة من جميع النواحي، هو عبث حين يعمي الجهل والجوع أعين سيدات قادمات من أماكن مختلفة، وعبث لأننا نعيد النظر في مفهوم الخير في علاقته بالمنّ وبالآخر، وذلك ليصبح صناعة يستفيد منها المانحون بالتشهير بأعمالهم وبخدمة صورتهم وقضاياهم، منذ متى كان الخير من شأنه تطويع الفقراء؟ إنه العبث حين تدفع أمهات ثمن أرواحهن مقابل كسرة خبز، وعبث لأن الأمهات اللاتي استيقظن في الصباح الباكر سعيا إلى الخبز، لم يعدن بالخبز، ولم يعدن بأرواحهن. من العبث أيضا أن تتحول أجسادهن إلى صور جثث في زي جلباب يتم مشاركتها والتعليق عليها على مواقع التواصل الاجتماعي. أكثر عبثا من ذلك أننا نلعن الفقر الذي دفع بهن إلى صفوف الموت وفي نفس الوقت نلعن الذل وانعدام الكرامة. عبثية وموجعة كمذبحة تطرح الفاجعة مسألة الفوضى التي نصادفها أينما خطونا، في الإدارات، والجامعات والمدارس والشوارع ووسائل النقل، أينما حللنا حلّت الفوضى. في مجتمع مثل المجتمع الذي نعيش فيه, النظام هو مرادف لعدم الأمان ولصبر يضاهي صبر أيوب، النظام يخلق فينا شعور الريبة والغضب ويدعونا للتشكيك في إمكانية بلوغ مرادنا، لأننا نعتقد جميعا أن قضاء حوائجنا رهين بالوقوف عليها بتوخي الحذر وبالتدافع والازدحام. بين لامبالاة المؤسسة وتهافت المواطن، تولد وتعمّ الفوضى. هذه الفاجعة التي فاجأتنا مما لا ينبغي أن تفاجئ، تكشف عن هذه المفارقة بين المؤسسة والمواطن. إن السمة الجوهرية في مختلف مجتمعاتنا هي الشعور بفقدان الأمان، كيف لا وقد بتنا نعيش في عالم يتغير من ليلة لأخرى وتتراكم فيه المعرفة بتجلياتها المختلفة دون أن تكون عادلة و شاملة. السبب مختلف والمآل موحد، إنها المفارقة التي تجمع بين تجربتي الريف والصويرة. للكرامة والذل مصير واحد في بلادنا هو العدم. العدم نفسه الذي خطف أرواح أمهات إلى الجنة.