عجبت من حاكم عربي يشد على كرسي السلطة بالمخالب والأنياب، و يواجه الشعب بالقنابل والمدافع، ولا يتزعزع قيد أنملة حتى ولو لفظه الجميع، بل يصيح ملء شدقيه بالديمقراطية والعدالة والحرية، ويحل لنفسه المال والعباد بلا حساب، وينظم انتخابات صورية يتقدم فيها الرئيس ضد الرئيس، لا تنافسه غير ذاته فتنتصر عليه، ثم يجعل الناس ينتخبونه مدى الحياة ويتوعد خدامه في الداخل والخارج بقتل الشعب من أجل بقائه، ورغم ما حدث في تونس ومصر وليبيا ، ورغم الميتة التي لحقت بالقذافي، مازال الحاكم العربي لم يتعظ ولا يصغي للضمير الإنساني والوطني ولا للحكمة والعقل لينجو بنفسه وينأى بحزبه أو جماعته عن الشطط والحساب العسير، ويحمي وطنه من الدمار والتدخل الأجنبي، فلماذا يا ترى لم نأخذ من الغرب جده وحرصه على المصلحة العامة، ولم نأخذ عن ساستهم كيف ينصتون، ويعملون؟، ولماذا لم نتأثر بمناهجه، وطرق حكمه؟، لماذا لم تؤثر فينا غير طبائع الاستهلاك التكنولوجي و الملابس والعادات؟هل جيناتنا لا تقبل الديمقراطية؟ أم أن ديمقراطيتنا تختلف عن ديمقراطية الغرب كما كان يردده الكثيرون في سوريا و مصر وتونسوالجزائر والمغرب ...؟ الحكام العرب والتشبث بالحكم: إن مجموع السنوات التي حكمها الرؤساء الأمريكيون منذ جورج واشنطن1789 إلى الآن هي مائتان واثنتان وعشرين سنة(222)، وتناوب عنها بشكل ديمقراطي أربعة وأربعون (44) رئيسا، أي بمعدل خمس سنوات وخمسة عشر يوما لكل رئيس، وإن مجموع السنوات التي حكمها الرؤساء الفرنسيون منذ ثورة 1848 هي مائة وثلاثة وستون(163) سنة، تناوب عنها بشكل ديمقراطي ثمانية وعشرون(28) رئيسا أي بمعدل خمس سنوات و تسعة أشهر لكل رئيس. لكن مجموع السنوات التي حكمها العرب بدءا من سنوات الاستقلال ستمائة وست وعشرون (626)سنة موزعة على تسعة وأربعين (49) حاكما عربيا ،أي بمعدل اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر، وهم مرتبون في الجدول أسفله حسب عدد السنوات التي قضوها في الحكم و تم فيه الاكتفاء بالذين تجاوزوا عشرين سنة في الحكم: الملوك والرؤساء سنوات الحكم الملك حسين 47 معمر القذافي 42 الحسن الثاني 38 عبد الله صالح 33 الحبيب بورقيبة 31 حسني مبارك 30 جابر الثالث الأحمد 29 حافظ الأسد 29 سلمان بن حمد آل خليفة 28 زين الدين بن علي 24 صدام حسين 24 فهد بن ع العزيز 23 خليفة بن حمد آل ثني 23 ع العزيز بن ع الرحمن 21 من الملاحظ أن الرؤساء حكموا أكثر مما حكم الملوك، فسبعة ملوك حكموا مائتين وتسع سنوات(209)، بينما حكم سبعة رؤساء مائتين وثلاثة عشر ة (213) سنة. والملوك الذين تجاوزوا ثلاثين سنة من الحكم اثنان،هما الملك حسين والملك الحسن الثاني أما الرؤساء فأربعة، معمر القذافي عبد الله صالح و الحبيب بورقيبة وحسني مبارك ، وقد يضاف إليهم حافظ الأسد باعتباره أول رئيس يورث ابنه الرئاسة ، واعتبر حكم ابنه استمرارا لحكمه. وتقل النسبة في الجزائر عن ذلك ولكن ليس بسبب التناوب الديمقراطي وإنما بسبب الانقلابات الصامتة وحكم العسكر، ففي تسع وأربعين سنة حكم الجزائر ثمانية رؤساء بمعدل ست سنوات وشهرين و15 يوما ، مع العلم أن منهم من لم يتجاوز السنة، فرابح بطاط مثلا دام حكمه شهرا ونصف الشهر ، و محمد بوضياف خمسة أشهر ، ونجد ما يشبه هذه الحالة في موريتانيا نتيجة الانقلابات المتكررة. فعلى العموم إن الملوك و الرؤساء العرب حكموا ما يقرب ثلاثة أضعاف الفترة التي حكمها رؤساء أمريكا، وفرنسا، وحكموا أكثر من أي من ملوك و رؤساء الغرب. ومن هنا يبدو أن الحكام العرب أكثر تشبثا بالحكم من غيرهم ، والواقع أثبت أنه كلما ارتبط الحاكم بمرجعية أيديولوجية تشبث بالسلطة أكثر وتعصب لها، واعتبر البلد ملكا له ولأسرته، وورث الحكم لابنه ، كما فعل حافظ الأسد وخطط كل من القذافي وحسني مبارك، وعبد الله صالح.. ولا نجد أشباههم إلا في الديكتاتوريات العالمية، كديكتاتورية فيديل كاستروا في كوبا الذي حكم تسعة وأربعين سنة وورث أخاه الحكم، وكيم سونغ إيل في كوريا الشمالية الذي حكم ستة وأربعين عاما وورث ابنه الذي سماه باسمه حبا في الاستمرارية، وفرانسيسكو فرانكو الذي حكم تسعة وثلاثين عاما، وجوزيف بروز تيتو بخمسة وثلاثين عاما، وقد نظيف إليه عمر بانغوا الديكتاتوري المحترم بثلاث وأربعين سنة. لذا يحق أن نتساءل على مضض، لماذا سلك الحكام العرب مسلك الدكتاتوريات ولم يسلكوا مسلك الديمقراطيات العالمية؟، لماذا لم يتبنوا الملكيات الدستورية أو الرئاسيات البرلمانية؟ رغم احتكاكهم المبكر بالدساتير . العرب والديمقراطية: عرف العرب الدستور منذ الاستقلال، أو قبله بسنوات ، في ظل الاستعمار الفرنسي أو البريطاني، فمصر عرفت الدستور في بداية الاستقلال 1923، ولبنان في 1926 أي قبل الاستقلال بما يقرب من عشرين سنة، وآخرها البحرين سنة 1973، و رغم أن البداية كانت تبشر بالملامح الحقيقية للديمقراطية في كثير من الدول العربية، فإن الفضاء السياسي كان في الغالب يصاب بنكسات، نتيجة الانقلابات العسكرية والحالات الاستثنائية، ورغم ذلك فإن الحكام العرب ما فتئوا يتبجحون بالديمقراطية والحرية والمساواة، وإذا ما قارنا بين هذه الديمقراطية وديمقراطية الغرب قالوا: لدينا خصوصيات، فيبرر الحاكم أو العسكر التراجع عن المكتسبات أو مقاومتهم للتحولات الديمقراطية، كما حدث في مصر بالدستور الملكي المبكر والذي كان يتضمن بنودا متقدمة نسبيا ، لقد اعتبر أن مصدر السلطات هي الأمة، والملك يملك ولا يحكم، أعطى السلطة التنفيذية للملك لكن يباشرها بواسطة الوزراء ، واعتبر أن البرلمان هو السلطة التشريعية ،ينتخب جل أعضائه وهو القائم بمراقبة أعمال الوزراء. وما يقال عن مصر يمكن أن يقال عن ليبيا ، فالسنوسي عرف الدستور والبرلمان في بداية الاستقلال و لكن القذافي ألغى كل شيء ووضع لنفسه نظاما خاصا . وفي المغرب كان محمد الخامس عازما على استكمال الدستور والتأسيس للحياة البرلمانية ولكن توفي قبل أن يحقق آماله،ولم ينجز الحسن الثاني ما كان يتطلع إليه محمد الخامس بالشجاعة نفسها، وبقي كل من الدستور والبرلمان شكليين في عهده إلى آخر سنوات حكمه حين ظهرت بوادر الإصلاح السياسي والانفتاح في حكومة اليوسفي اليسارية. فرغم مرور أكثر من ستة عقود أو عشرة على الاستقلال والاحتكاك الأول بالدستور والانتخابات والاستفتاءات ، فإن الحكام العرب ظلوا بعيدين عن الديمقراطية، فلا الدول الرئاسية فتجت المجال للانتخابات والتناوب على السلطة، ولا البرلمانية فتحت المجال للتعددية، ولا الملكيات قلصت من صلاحيات الملك لصالح رئيس الوزراء المنتخب، بل ظلت كل الأنظمة مغلقة متحجرة، فحتى الدول التي كانت تعتبر الاتحاد السوفيتي مرجعا لها، لم تقم بما قامت به روسيا في ممارسة نوع من الديمقراطية في إطار ديكتاتورية الحزب البلشفي، فرئيس الحزب كان يتغير، فمنذ 1917 إلى 1991 أ ي خلال أربعة وسبعين عاما تناوب عن السلطة أحد عشر رئيسا،وبولندا الشيوعية منذ 1944 إلى 1990 حكمها خمسة عشر رئيسا ، والنمسا في خمس وأربعين سنة حكمها ثمانية رؤساء ، وهذا ما لم تأخذ منه الدول التي كانت تدعي الاشتراكية كسوريا والجزائر والعراق.... ويبدو أن حكامها تأثروا بالشعارات الاشتراكية وبالطبائع الديكتاتورية. و مما يحز في النفس أن تلحق الدول الحديثة العهد بالاستقلال الإيديولوجي بالدول الديمقراطية، ويزيد العرب بعدا عنها، ولم يتململون إلا للبحث عن مخرج لتصريف الاحتجاجات الشعبية في المجال الديمقراطي بأقل التضحيات، فكل من رومانيا، بولندا، وليتوانيا ، وبلغاريا، وكرواتيا، استطاعت رغم حداثتها أن تتأقلم مع الديمقراطية، وأن تمارسها بدون عقدة أو زيف، وخطت خطوات مهمة في هذا المجال ، ووجدت لنفسها مكانة في أوروبا بل وحتى في الاتحاد الأوروبي، وقد حققت دول المعسكر الشرقي إجمالا في عقدين من الزمن ما لم يحققه العرب في أكثر من ستين سنة. فهل حكامنا أكثر حبا لأوطانهم وحرصا على مصالحها وأمنها ؟ أم أنهم أكثر إعجابا بأنفسهم وبقدرتهم الفريدة على حماية مصالحها؟ أم أنهم أكثر الحكام تضخما للانا، وأكثرهم حبا للسلطة والجاه؟ وأكثر حبا للتملك والثروة؟ يسيرون مسار الديكتاتوريات العالمية ويجدفون ضد التيار وضد إرادة وآمال شعوبهم. فإذا كانت الأنظمة الديمقراطية رئاسية كفرنسا وأمريكا، ورئاسية برلمانية كإسرائيل التي ينتخب رئيسها الكنيست ولا يتمتع إلا بصلاحيات محدودة،أو حزبية مطلقة مع نوع من الديمقراطية الحزبية كإيران وروسيا قديما والصين وملكية برلمانية كانجلترا وبلجيكا هولندا ، فالأنظمة العربية إما رئاسية مطلقة يتخذ فيها الحزب شكلا صوريا، أو ملكية مطلقة، و لاسيما إذا استثنينا الإصلاحات التي قام بها محمد السادس والتي تتضمن توسيع اختصاصات الوزير الأول وتقليص بعض اختصاصات الملك، إلا أن هذا سيكون مسقبلا غير كاف إلا بالاقتراب أكثر من نمط الملكيات الغربية، وستتمكن تونس مثلا أو ليبيا إن هما سارا على الدرب الصحيح أن تقطعا أشواطا أكبر في الديمقراطية . إن الديمقراطية في جوهرها واحدة، والمنطق يقتضي اتفاق الجميع على مفهومها وآلياتها ولا يجوز للعرب ولا للديكتاتوريين أ ن يأخذوها بغير ذلك لتبرير الاستبداد والقمع، فهي لا تستقيم بغير التعددية والتناوب الديمقراطي على السلطة، وبغير التناوب على المسؤوليات داخل الحزب الواحد، وإذا كان الله يمهل ولا يهمل فإن دوام الحل من المحال، فالشعوب العربية وأحزابها صارت تتقبل الآخر، وتناضل من أجل التعددية والديمقراطية والتناوب ، وقريبا يرضخ الحاكم العربي للصراع الديمقراطي، ويتشبع بالروح الرياضية، و بالثقة في آليات الديمقراطية، ويعترف لمنافسيه ومعارضيه بوطنيتهم ، و بقدرة غيره على تسيير أمور البلاد، ولا سيما و إن الجينات العربية بريئة مما نحن فيه من عداء للديمقراطية، وأن وعيد البعض بقطع يد الشعب من أجل هذا الرئيس أو ذاك زوبعة شاذة من مزبلة التاريخ لا تثير غير الغبار.