دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ألمانيا: دوافع واقعة الدهس "ضبابية"        مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    رشاوى الكفاءة المهنية تدفع التنسيق النقابي الخماسي بجماعة الرباط إلى المطالبة بفتح تحقيق    بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الجيش الباكستاني يعلن مقتل 16 جنديا و8 مسلحين في اشتباكات شمال غرب البلاد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو نظام عربي جديد...
نشر في لكم يوم 05 - 09 - 2011

لقد سعينا، في مقالاتنا السابقة، إلى التأكيد على أن الانتقال من "من القابلية للاستعمار" (الداخلي) إلى "القابلية للثورة"، وفي العالم العربي طبعا، كان استجابة لشروط متداخلة هي علامة على مرحلة بأكملها أنهكها الاستبداد العفن والتسلط المقيت وإلى ذلك الحد الذي أفضى، ومنذ مختتم العام 2010، إلى "حريق الثورات" في العالم الأخير، وعلى نحو لم يسلم منه أي بلد عربي وسواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، مما أفضى، ومن جوانب عديدة، إلى "مرحلة جديدة"، هي التي أصبحنا عليها الآن، حيث "شعارات جديدة" تصِّر، ولأول مرَّة، وفي وضوح تام، وعبر "فعل الإرادة"، وفي أعلى سقف مطالبها، على التخلص من الأنظمة التسلطية... وتصِّر، وفي أدنى مطالبها، على "الإصلاح السياسي الشامل" الذي بموجبه يتمُّ رهن الدولة، وكما في أبسط تعريف لها، لخدمة الشعب لا غير، وكل ذلك في إطار من حق هذا الأخير في "حرية وكرامة وعدالة اجتماعية" تبعا للشعار، الجارف، الذي تكرَّر، وبتفاوت، في جميع البلدان العربية التي خرجت شعوبها، ودون أدنى خوف، للشارع من أجل التعبير عن مطالبها العادلة في عالم انتفى فيه العدل بل وحتى أبسط الشروط التي تؤسس ل"مفهوم الإنسان" و"الإنسانية".
وكان من "تحصيل الحاصل"، لكن "المفاجئ" هذه المرة، أن تخرج الشعوب العربية، وبهذا الحماس غير المسبوق، إلى الشارع طالما أنها فقدت ثقتها، وبالمطلق، في "معامل السياسة" التي تحوَّلت إلى معامل ل"الثراء الشخصي والعائلي" موازاة وهذا هو الأخطر مع "صناعة الإذعان" التي أدخلت إنسان العالم العربي، وعلى مدار يقرب من نصف قرن، في "غيبوبة سياسية" كادت أن تفقد هذا الأخير آخر خيط يربطه بالتاريخ في مصائره المختلفة التي من المفترض أن تنحو نحو "الأفضل" وليس نحو "الأسوأ" حيث تكريس الوضع ذاته الذي هو قرين تمكين الطاغية من مواصلة "النزيف السياسي" الذي هو، بدوره، قرين الحط من الإنسان والزج به، بالتالي، في ذلك النفق الذي لا يمكن أن يفك شفراته إلا "علم نفس المسحوقين" الذي نهجه أمثال المناضل والطبيب فرانز فانون، و"في ذل الاستعمار"، من أجل فهم (Les Troubles)، كما نعتها في كتابه "معذبو الأرض"، التي كانت تعتصر "الإنسان المستعمَر".
و"متتالية الاستعمار" هاته، وفي المدار ذاته الذي يستدعي "علم نفس المسحوقين"، ستكون قرينة "الترسيخ التسلطي" في العالم العربي؛ لكن هذه المرة ليس من قِبل "الكولون الأبيض"، كما حصل من قبل، وإنما من قبل "الحاكم العربي" الذي برهن، ومع أول اختبار (سياسي) له، ومن قبل شعبه، وبعد عقود بأكملها، ومن "الاستبداد السياسي"، على "فائض من الجنون"، أو "السُعار الصامت"، من أجل التشبث بالكرسي الذي وصله بدون انتخابات أو بانتخابات شكلية. وحصل كل ما سبق باسم "فهم رئاسي صنمي" ينعدم فيه حتى الحد الأدنى من "مفهوم الدولة" الذي لا نعتقد أنه يغيب، وفي مثل هذا المناخ العالمي المتغير، حتى على المواطن البسيط والعادي. وفي مثل هذا الوضع السياسي، وعلى ما ميَّزه من "فراغ سياسي"، كان من المفهوم، وفي سياق حلم الانعتاق من "البلوكاج" أو "الحصر الاجتماعي"، أن يرتمي الشباب في أحضان "التطرف الديني" ممثلا في بعض التيارات الإسلامية التي أصرَّت، وبلغتها، العارية والمباشرة، على التمييز ما بين "النبي وفرعون" إذا جاز أن نأخذ بعنوان أحد كتب جيل كيبيل (Gilles Kepel) أحد أبرز المتهمين، من الأجانب، ب"حريق الإسلام السياسي". هذا وإن كان هذا الأخير قد رأى، قبل انطلاق "الربيع العربي"، خفوتا في "حركات الإسلام السياسي".
و"ليس عبثاً أن يتحوّل عدد كبير من الناس إلى شكل متطرف من الدين، نتيجة اليأس وغياب الأمل، وبطش الدولة الأمنية" [أو "البولسية" التي تبدو، ومن ناحية الترجمة، المطابقة للسياق العربي] كما قال إدوارد سعيد في كتابه الأخير "خيانة المثقفين".
غير أن الحاكم لم يتمكن من أن يمارس حكمه التسلطي هذا، وعلى مدار نصف قرن من الزمن، إلا نتيجة "نظام" تمَّ، وبإتقان، تثبيت "أنيابه" داخل النسيج المجتمعي العربي. وحصل ذلك منذ السنوات الأولى من الاستعمار، وظل ذلك يحصل إلى أن أجَّج المواطن التونسي (محمد البوعزيزي) الوضع عندما أقدم على إضرام النار في جسده يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010، وعلى النحو الذي أفضى إلى ما أفضى إليه من ثورات راح العالم العربي يجني بعض نتائجها السياسية على الرغم من كل ما يحيط بها من تشكيك يبدأ من "التسمية" لكي لا ينتهي إلى "أهداف الثورة". هذا وإن كان، وكما قلنا، في مقالنا السابق "من الشيخ بن لادن إلى المواطن البوعزيزي"، يصعب أن نستقر على اختزال انطلاقة الثورة في البوعزيزي.
"ولكن الحقيقة أن أصل الداء يعود إلى السنوات الأولى لما بعد الاستقلال" كما قال، وعن حق، الكاتب والباحث بشير موسى نافع وفي سياق الحديث عن ثورات العالم العربي؛ وقد اتضح هذا في أكثر من بلد. ويهمنا أن نستدلَّ، هنا، ببلد مثل المغرب الذي سرعان ما سيتكشف فيه فشل مشروع الدولة الوطنية منذ السنوات الأولى من حصوله على "الاستقلال". تلك الدولة التي ناضل من أجلها كثيرون، بل ودخلوا سجون الاستعمار. غير أنه سيتضح لهم، وبعد فترة وجيزة (لا تتعدى عقدا من الزمن)، ومن خروج الاستعمار كما أسلفنا، تداخل هذه الدولة مع النظام أو تراجع هذه الأخيرة لفائدة النظام أو "المخزن" تبعا للمفهوم المتداول على نطاق واسع في التحليل السياسي والأنثروبولوجا السياسية... بالمغرب. المخزن الذي لا يفارق، وبمعنى من المعاني، "الاستبداد الشرقي".
غير أن ما حصل في بلدان عربية أخرى، ومن ناحية "شكل الدولة"، كان، وبجميع المقاييس، أفظع ومخجلا. ولأننا لا نرغب في الحديث عن القذافي الذي لم يكن أصلا يؤمن بالدولة، ولو في شكلها الظاهري الهزيل، أو حتى "المفترس" (Etat prédateur)، بل وأقدم على شطبها ب"الكتاب الأخضر"، ملخِّصا فيه "السياسة" بأكملها، فإن البلدان، التي شهدت الثورات الأخيرة، لم تكن تحافظ حتى على الحد الأدنى من مفهوم الدولة. وهذا مع أن مسوِّغ مفهوم الدولة كامن في خدمة الإنسان وضمان حقوقه، ولذلك فإنه بانتفاء هذا المسوغ ينتفي مفهومها ووجودها. وهذا لكي لا نطمع، وفي عالمنا العربي طبعا، في أن "تتحول الدولة إلى مشروع يوقظ "رغبة" الشعب في أن لا يقهر، وفي كبح جماح الرؤساء أو الكبراء" تبعا للعبارة التي كان يرددها ميكيافلي، والتي يذكِّرنا بها الكاتب اللبناني وضَّاَح شرارة في مقدمة كتابه "حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيين"، وإلاّ سنكون أبعد ما نكون عن "الواقع العربي المتهرئ" بمسافات فلكية.
لقد "علا" الحزب على الدولة ذاتها، بل وجعلها تابعة له وفي خدمته. ومن ثمَّ صارت الدولة لاحقة، لا سابقة، على نظام الحكم الذي ينبغي أن يكون محكوما بالقواعد القانونية الأساسية للدولة. ولم يكتف الحزب بالسيطرة على جهاز الدولة فقط وعلى آلته العسكرية، بل وقد سيطر على مؤسسات المجتمع المدني وجنَّدها لخدمة الحزب. وقد حصل ذلك باسم "الدسترة" أو بالأحرى نوع من "إكراه الدسترة". وهذا ما يعكسه، وفي جلاء تام، وعلى سبيل التمثيل، والناصع، الدستور السوري، وتحديدا، من خلال مادته الثامنة المتعلقة بسيطرة "حزب البعث الاشتراكي العربي" على النظام والدولة. ومن المفهوم، في ظل "تصور دستوري" من هذا النوع، ومن حيث هو تصور متصلِّب ومتشنّج، أن تنتفي "التعددية السياسية" (ولو المقيَّدة) والانتخابات التشريعية الحرة والانتخابات الرئاسية التي تقبل بالمراقبة الدولية. ومن المفهوم، كذلك، أن تتعمَّق "سمفونية الانتفاء"، أكثر، بالنظر إلى تخثير أدوار الأحزاب وتكميم أفواه المثقفين ورجال الإعلام... إلخ. والحصيلة: اجتثاث أبسط قواعد الحكم الديمقراطي موازاة مع التوليفة البديعة: "الكل في الواحد". إن نظاما من هذا النوع يتعذر فهمه، وسواء من قبل منظري "الأنظمة السياسية" وسواء من التقليديين أو المحدثين، لأننا، وفي وضوح، بإزاء "لا نظام" جعل من الدولة "مسخا" (تبعا لتوصيف الباحث المصري علي مبروك حول "الدولة المسخ" في العالم العربي). ذلك أنه، في مثل هذه الحال، لا مجال ل"مجموع التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم"، ولا مجال لآليات الفصل ما بين "القوة والسلطة والحكم"، ولا مجال لآليات "صنع القرار السياسي وتنفيذه".
وفي هكذا نظام، أو بالأحرى لا نظام، يسهل على الحاكم استدراج الجيش إلى اللعبة، بل وحصر وظيفة هذا الأخير في "الداخل" لا غير وعلى وجه التحديد في حماية الحكم وبطانته. وفي هذا السياق أمكننا فهم حجم جيش القذافي الذي بلغ ملوني موظف، وأمكننا فهم الميزانية التي كان يخصصها لهذا الجيش والتي كانت تبلغ 57 في المائة من ميزانية الدولة. وهذا لكي لا تفوت الإشارة إلى عدم جعل هذا الجيش بمنأى عن الحزبية والقبلية. وفي الحال السورية، وبعد أن تحولت قيادة الحزب للدولة والمجتمع إلى سيطرة سافرة للأجهزة الأمنية، فإن الدولة، وككل، لم تسلم من مشكلات القبلية والطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية. ولهذا أمكننا فهم لماذا أخذ الحاكم العربي، المستبد، يهدد، وبجدية، بحرب طائفية أو قبلية في حال إرغامه على التنحي عن الحكم، وبالتالي "تقسيم المقسم وتجزئ المجزأ" إذا جازت عبارة الكاتب والمحلل رضوان السيد. فإما حرب أو فتنة تنهك "الداخل"؛ وإما تقديم البلاد والعباد هدية للحركات الأصولية (وفي مقدمها "تنظيم القاعدة") التي تتربص ب"الحكم"، ومما لا ينهك في هذه الحال "الداخل" فقط وإنما يزعج "الخارج" أيضا. ومن ثمَّ جعل الكل ضد الكل، والغطس بالتالي في حرب شرسة لا يعرف فيها القاتل من القتيل.
ولذلك فإن جيشا من هذا النوع، وفي ظل هذه التوليفة أو التركيبة، لا يمكنه إلا أن يكون "أداة طيِّعة" لسفك دماء الشعب بلا عقاب، وللقتل العمد، وللاعتقال غير المسبوق، ولممارسات التعذيب الوحشي... إلخ. ويحصل ذلك، وفي أحيان وأحيان كثيرة، دون تمييز ما بين المحتجين وغير المحتجين وما بين الشبان والنساء والأطفال. وبدلا من أن يكون الجيش عامل تحصين البلاد من الخطر بشقيه (الداخلي والخارجي) فإنه يتحوَّل إلى خطر بعينه. وسيكون من الممِّل، ولا سيما في مثل سياق "الانفجار الإعلامي" الذي نعيش الكثير من "إيجابياته"، التذكير بسيناريو العبث بالإنسان الذي سجَّله الرأي العام العالمي حول ما حصل، ويحصل، في العالم العربي الذي لم يجد بدا من ولوج التاريخ إلا انطلاقا من "مدخل الثورات" وبما يرافقها من سوء تدبير أمني.
وفي الحال المصرية والتونسية، وعلى تفاوت المستوى المعيشي بينهما، فإن النظام بدوره انقلب على الدولة وجعل منها "دولة بوليسية" و"استخباراتية". وللتدليل على "الهاجس الاستخباراتي" فإنه يكفي التذكير بأن مصر، وعلى عهد حسني مبارك، كانت تتوفر على أكبر جهاز استخباراتي وأمني في العالم العربي والإسلامي، ويبلغ مليونا و450 ألف عضو. وفي هذا المنظور أمكننا فهم سيطرة العائلة الحاكمة، وسواء في مصر أو تونس، ومعها الطبقة الحاكمة، على آلة الدولة، بل وإخضاع هذه الآلة لأهدافها ومصالحها. وهي سيطرة ممنهجة ومطلقة، وعلى حساب حق الجماهير في العيش الكريم بثروات البلاد وخيراتها. وقد أفضى تحالف السلطة والثروة إلى فروق صارخة، أو "فلكية" كما نعتها البعض، في مستويات العيش... وأفضى، أيضا، إلى ارتهان، وبالكامل، للقوى الاقتصادية الخارجية في نطاق العولمة التي التهمت في حال الشعوب المغلوبة البقية الباقية.
والأفظع ما في الأمر ما كان يوازي هذا التسلط، على مستوى التسيير، من تبذير للمال العام. ومبالغ الترف، في صفوف العائلة الحاكمة، ليست باهظة فقط، وإنما هي مخيفة. وحتى إن كان لا يمكن تسطيرها الآن فإنه يمكن التذكير بآخر ما قرأناه من أن تصفيف شعر أحد أبناء القذافي، وفي فنادق عواصم الغرب الرأسمالية، والتي كان يحجزها بجميع طوابقها للمناسبة، كانت تساوي 4400 دولار. وهو رقم جدير بأن يجعل حتى من لا يفقهون في المال يقلبون شفاههم في الموضوع، ويتخيَّلون بالتالي الميزانية التي تستتبع تسعيرة تصفيفة الشعر الواحدة هاته.
وفي هذا الصدد أجمع محللون ومراقبون، ومؤسسات أبحاث ومراكز دراسات، وفي "المنظور القومي"، على ما أسموه "أزمنة المواطن العربي مع الدولة" أو "أزمة الدولة في الوطن العربي". وهي أزمة قابلة لأن تشخص من جميع وجوهها وأبعادها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإقليمية والدولية. ومن المفهوم أن يتم، هنا، التشديد، أكثر على الطابع السياسي الذي كان له التأثير الأبلغ في أزمة الدولة العربية حيث "تسلط الدولة واستبدادها" و"احتكار السلطة" و"استئثار قلَّة في الحكم"... ومع ما يترتب عن كل ذلك من "استنزاف ثروات الدولة" و"نهب مواردها" و"إشاعة الفساد في هياكلها".
وهذا في الوقت الذي ركَّز فيه البعض على ما يتجاوز الأزمة نحو غياب الدولة بالمطلق. وفي هذا الصدد لا يمكن الحديث عن بنية الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية، ولا عن بنيتها القضائية، ولا عن مؤسساتها التعليمية، ولا عن وكالاتها الإعلامية، ولا عن مراكزها الثقافية... بل ولا يمكن الحديث حتى عن وظيفة الدولة الأولية. ومن ثم لا مجال للقانون والأخلاق والفكر... وصولا إلى التنمية وتحصين الاستقلال. بكلام آخر: يغيب "فكر الدولة" و"منطق الدولة" و"ضمير الدولة". ويغيب مفهوم "الدولة التعاقدية الحديثة" التي تقبل بالإسهام في "بناء الفضاء العمومي" و"الانتقال من المجتمع إلى السياسة" و"التساؤل حول الانتقال الديمقراطي"... وعلى أساس من تلازم "العقلانية والحرية" كما يمكن أن يستخلص من "مفهوم الدولة" لدى العروي.
غير أن الظاهر أن ما انتهى إليه العالم العربي، ومن ناحية الدولة، تجاوَز الأزمة سالفة الذكر وتجاوز "ما قبل الدولة"، وتجاوز غياب الدولة ذاته. الأمر يعيد، في تصور البعض، بعث التاريخ "المملوكي العثماني" مغلفا بشعارات "اشتراكية" و"تقدمية" و"مدنية". وفي متن هذا التحول أعيد الاعتبار ل"الدولة السلطانية"، ف"دولة الحزب الواحد" و"دولة العشيرة" و"دولة الطغمة"... هي أشكال "محدثة" لتلك "الدولة السلطانية" كما كتب الكاتب السوري منير الخطيب في مقال "دول تمنع نشوء مقاومات ومقاومات تمنع نشوء دول" (جريدة" الحياة" (اللندنية): 22 مارس 2009). والسلطان لم يكتف، هنا، ب"ظل الله على الأرض" كما يقول عبد الله العروي وفي سياق الحديث عن "الدولة السلطانية" ذاتها في كتابه "مفهوم الدولة"، ولم يقنع حتى ب"ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وذلك حين حوَّل كل شيء إليه كما قال الكاتب الأردني خيري منصور. ولعل هذا ما "جعل النخب في مجتمعاتنا تهتم بصفات الدولة وليس بمفهوم الدولة ومسائله النظرية وتطبيقاته المعقدة والشائكة" كما يضيف منير الخطيب.
وهذا الوضع، في تصورنا، لم يجعل النظام في واد والشعب في واد فقط، وإنما جعل الشعوب تشعر وكأنها لا تزال في الاستعمار. وجعلها تشعر، وبمرارة، أن ما حصل، وعلى مدار عقود بأكملها، كان تغيُّرا في "العامل" وليس في "الأداء": حيث النهب والاستحواذ.. والاستبلاد . وكانت الحصيلة "قطيعة تامة"، أو "كاملة"، بين النظام والشعب. وهذه القطيعة كانت منذ عقود حاصلة، ومتتالية ومتدافعة، غير أنها كانت تنتظر اللحظة المواتية للإعلان عن "هويتها السياسية الكامنة". وهو ما تحقق مع "الربيع العربي" من خلال جملة من الثورات وأشكال من الحراك التي لم يشهد العالم العربي، وبالإجماع، مثيلا لها منذ بداية الاستقلال... وإلى ذلك الحد الذي كان قد جعل من الرؤساء ملوكا ومن الملوك خلفاء. ومن ثم كان، وفي المقام الأول، الطابع السياسي للثورة.
لأول مرة سيجد النظام ذاته في ضفة، فيما سيضع الشعب نفسه في ضفة مقابلة. ومن ثم سيكون النظام ب"أعوانه وبطانته" وب"بلطجيته وفداويته وشبيحته وشماكريته" (وهي كلها مفردات تصاعدت، وفي بلدان عربية شتى، مع انطلاق الثورات)... في مقابل الشعب بجميع "طبقاته وفئاته وطوائفه وأطيافه" وبدافع من "وحدة مطالبه المشروعة".
فجميع ثورات العالم العربي، ومن الناحية السوسيولوجية، ثورات جماهيرية شعبية. وأهم ما ميَّزها، سياسيا، أنها لم ترفع شعارات طبقية أو دينية أو إثنية أو جهوية. شعاراتها كانت "عامة جامعة" كما تمَّ توصيفها. وكما يشرح الكاتب السوري ماهر مسعود: "فأهم ما تنتجه الثورات العربية هو الثورة على مفهوم الثورة ذاته"، هذا بالإضافة إلى أن ما "يتضح في هذه الثورات أنها يوماً بعد يوم مدى ديمقراطيتها وسلميتها وانعدام الروح الإقصائية والانتقامية من خطاباتها ونشاطاتها على الأرض" ("الحياة": الخميس 25 أغسطس 2011). وقد كانت "المقاومة المدنية"، وفي الأغلب الأعم، "السلاح الأنسب" ل"الشعوب المغلوبة"، وكما كانت الوسيلة الأنسب لإرباك الحاكم وإضعاف خياره في عالمنا المتغيِّر. ثم إن الديكتاتور الذي لم يتعظ بعد، ومن خلال الاستعمال المفرط للقوة، يظهر أنه يتخبط في "هستيريا النهاية".
فالمشكل، وفي ضوء ما سلف، كامن في النظام ذاته نتيجة الطريقة التي كانت في تكوينه. ولذلك فإن الرسالة التي وجهَّتها الثورات، وفي وضوح تام، هي الارتقاء إلى "مرحلة انتقالية حقيقة" بموجبها يحدث تغيير في بنية الدولة. وهو ما لا يتحقق إلا من خلال العمل على "الفصل التام" ما بين نظام الحكم والدولة. وكل ذلك في الأفق الذي يضع نهاية ل"التماهي الشمولي" بين الحزب والدولة وبين الشخص والدولة، خصوصا وأنه "لم يعد لهذا التماهي القسري من مسوغ سياسي ولا شرعي ولا أخلاقي" كما قيل.
إن ما اتضح في الثورات العربية، ومنذ انطلاقتها، أنها لم تستهدف "بنية الدولة" ذاتها، لأن ذلك يفضي، وحتما، إلى "فتنة داخلية". ثم "إن نقيض نظرية الدولة هي الفوضوية" كما يقول دارسو "مفهوم الدولة" (عبد الله العروي،هنا، تعيينا) وعلى قلة هؤلاء في العالم العربي. فما أراده المصريون، والتونسيون، وهو ما يقوله الليبيون والسوريون واليمنيون، أو بالأحرى هو ما قالوه، أنهم مصرُّون على "تغيير النظام" نحو "نظام نقيض" يضمن "تحرير دولهم من الطبقة الحاكمة" التي لم تعصف بالإنتاج المادي والرمزي للبلاد فقط، وإنما عصفت بمفهوم الدولة ذاته: "مفهوم الدولة وتجلياته وتعبيراته".
و"الحكاية الإطار"، وكما يلخصها ماهر مسعود، في مقاله السابق، هي أنه "لم يرفع أحد مطلب بناء دولة العمال والفلاحين أو إقامة الخلافة، وإنما اتفقت كل الشعوب على الشعار الذي رُفع في تونس وصنعاء والمنامة والقاهرة وبنغازي "الشعب يريد إسقاط النظام"، وعلى مطلب مجلس تأسيسي ودستور يضمن بناء الدولة المدنية والمجتمع الحرّ ويقطع نهائيا مع الاستبداد". تلك هي "وحدة الهدف" التي لا تخلو، في نظرنا، من تنوع على مستوى الأداء تبعا لتنوع البلدان وطبيعة رد الأنظمة على الثورات.
وإسقاط النظام معناه إسقاط الاستبداد والطغيان من أجل استعادة الكرامة المهدورة. فالمشكل لا يكمن في "الخبز" بمفرده، أو في الفقر بمفرده الذي لا يصنع بمفرده الثورات، ولا يكمن في باقي "العوامل الكلاسيكية" من مثل غياب العدالة وعدم الشفافية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان... وإنما المشكل في الكرامة أيضا. وهذه الأخيرة، وعلاوة على "الزفت الاجتماعي"، هي التي دفعت المواطن التونسي (الأشهر، فيما بعد) محمد البوعزيزي إلى أن يحرق ذاته ويشيَّع بالتالي في "جنازة لم تنته بعد".
غير أن ما انطوى عليه "الشعار الفأس"، "الشعب يريد إسقاط النظام"، وفي بلدان تقبل بالشكل الظاهري لمفهوم الدولة، لا يتوقف في "ملعب الدولة" فقط، وإنما يمتد إلى "رقعة المجتمع المدني" الذي كان بدوره ضمن المعادلة التي ضمنت للحاكم، المستبد، توسيع رقعة "الاستعمار الداخلي". وهو ما انتبه إليه الباحث اللبناني فواز الطرابلسي، في مقال "الثورات تُسقِط أنظمة الأفكار أيضاً!" قائلا: "مثَّلت وتمثِّل مقولة "الشعب يريد إسقاط النظام" مراجعة جذرية لنظرية "الدولة/ المجتمع المدني" التي "تخلَّي أصحابها الغربيون عنها، فيما لا يزال يدمنها إدماناً قطاع واسع من المثقفين والمنظمات غير الحكومية، إضافة إلى عديد من الأحزاب والحركات القومية واليسارية وحتى الإسلامية التي رأت فيها دَرْجة (موضة) دولية جديدة لا بد من مجاراتها، فصارت حالتها مثل حالة الغراب الذي أراد أن يقلّد نقلة الحجل" (مجلة "الكلمة"، العدد 52، أغسطس 2011).
لقد أسهمت وصفة "المجتمع المدني"، ومن ناحية صلة هذا الأخير بالدولة، في ضمان استمرارية نظام الحكم المطلق. وذلك من خلال "التكامل الشكلي" بين الدولة وهذا المجتمع في أحيان، ومن خلال "التنابذ الشكلي" (أيضا) في أحيان أخرى ودونما تفريط في الوصل ما بين التكامل والتنابذ معا في سياق "مشهد الشكلية" ذاتها. وفي جميع الأحوال فقد ظل النظام يتأقلم مع جميع هذه "الوصفات الجاهزة"، بل إنه كان المستفيد الأكبر منها، ولذلك كان يستدعيها ويرعاها ويحافظ عليها. وما حفَّز الأنظمة على ذلك هو "تواطؤ الأحزاب" و"صمت المثقفين".
وفي ضوء ما سلف يبدو جليا حجم "القطيعة السياسية" التي ظلَّت قائمة ما بين الشعب والنظام. وقد ظلَّت القطيعة متتالية ومتدافعة... وتامَّة، تنتظر اللحظة المواتية للإعلان عن "هويتها السياسية" كما أسلفنا. ولا يمكن أن تتحدد الدلالة الكلية لهذه القطيعة إلا من خلال الانخراط، غير المسبوق، في صياغة مفهوم الدولة الحديثة الذي يضمن، وعلى نحو ما، استعادة انخراط الإنسان العربي في العصر ككل وليس فقط استعادة بلده الذي أنهكه ركام الاستبداد الأرعن. وحتى انبلاج فجر ذلك الغد فإن العالم العربي سيكون بمقدوره أن يشعر أنه ارتقى، فعلا، إلى "نظام عربي جديد".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.