عموما لست كائنا مجازفا، ولكن لن أتردد هنا بالمراهنة على صورة أستاذ أو أستاذة لم يكن يحظى/ تحظى بأي ود من طرفنا، طفت على سطح ذاكرة الكثيرين ونحن نتابع هذه الأيام ما تعرض له عدد من المدرسيين في بعض المؤسسات التعليمية. وأنا مستعد للمجازفة والقول إن كثيرين منا، كذلك، يهمسون لأنفسهم، يا ليت كانت لديهم الجرأة أو الوقاحة أو التهور أو قلة الأدب أو انعدام الأخلاق (سميها ما شئت وأكثر)، حتى يصفوا حساباتهم – وفي قاعة الدرس إن أمكن- مع ذلك الأستاذ أو تلك الأستاذة، كما فعل تلميذ ورزازات وتلميذ الرباط أو تلاميذ غيرهم في مدن أخرى لم تصل حكاياتهم إلى الشبكات الاجتماعية. ولكن لم نكن نفعل. وأقصى ما كنا نفعله (على الأقل هذا ما وقفت عليه في الأقسام التي درست فيها)، هو أن ننتظر حتى يدير الأستاذ ظهره فنرميه بكرة من ورق أو يطلق بعض الأقران عبارات ساخرة وسريعة، قبل أن يلتف إلينا بنظرات غاضبة تحاول عبثا أن تغطي خوفه (أو خوفها بالخصوص). في الحقيقة كان الخوف المتبادل بيننا وبين هذا الأستاذ المغضوب عليه ينزل ثقيلا على تلك اللحظات التي تلتقي فيها النظرة بالنظرة. لم أكن أفهم سر خوفه، ولكن كنت أحدس سبب خوفنا نحن التلاميذ. كنا نخاف، على الأرجح، لأننا كنا نحس لسبب غامض أن المدرِّسة أو المدرِّس هما اللذان يحتكران المعرفة.. تلك المعرفة التي كنا نتوهم – وتتوهم معنا أسرنا الصغيرة البسيطة – أنها ستنقلنا من مستوى إلى آخر أعلى.. أنها ستفتح أمامنا أبواب الحياة التي تدغدغ أحلامنا. لكن اليوم، انهار بشكل تام ذلك الاعتقاد بأن المدرسة (وأعني هنا العمومية)، هي معين المعرفة والقيم. ولم يعد الأستاذ/ الفقيه- بفعل كل التطورات المجتمعية والتقنية التي حدثت يمثل ذلك المصدر الوحيد والأوحد للمعرفة، والذي كان يمنحه حصانة كبيرة بالجماعة وسلطة شبه مطلقة على متلقي تلك المعرفة. والأكثر من هذا لم يعد يمثل مرجعا للقيم التي تنظم سلوك الجماعة والعلاقات بين الكائنات التي تعيش وتتفاعل فيها. الأمر الآخر الذي يمكن أن يفسر، في تقديري، تواتر حالات تجرؤ التلاميذ على الاعتداء على المدرسين وحتى المسؤولين التربويين، هو كون الكائن المغربي انتقل في سلوكه إلى مرحلة أعلى وأشد قسوة في العنف قبل أن يصبح فردا كاملا في فردانيته يعي بشكل جيد حجم مسؤولياته وعواقب تجاوز حدود المجتمع وقوانينه. وهذا "التقدم" على مدارج العنف دون الارتقاء إلى مرتبة الفرد ينذر بانفلات سيصعب احتواؤه في البدء قبل أن يصبح مستحيلا. ولعل هذا العنف الزائد مرتبط في جانب منه بالتمدن العشوائي الذي تعرفه البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة. إذا كان صحيحا أن النزوح إلى المدن مرتبط بارتفاع منسوب العنف حتى في الغرب، الذي تتوفر فيه الحواضر على المقومات الدنيا للعيش، فما بالك بمدن تظل مجرد تجمعات ريفية وإن شيدت فيها مباني زجاجية وما تيسر من أنفاق، وثبتت في نواصي ممراتها إشارات الضوء الأحمر. إن العنف الذي تفجر على أيدي هؤلاء التلاميذ ليس سوى إفراز لتشابك عنف سلوكي وعنف مجالي وعنف غياب الفرد.