حتى الأصم يسمع طبول الحرب التي تقرع في الخليج العربي، الذي لا تنتهي فيه حرب حتى تشتعل أخرى، لأن المنطقة تسودها الفوضى، ودولها ضعيفة، وثرواتها كبيرة، والقوى الكبرى تتحرك فيها بكل حرية، فهذه هي الوصفة النموذجية للحروب والقلاقل والمؤامرات. بعد تدمير العراقوسوريا واليمن وليبيا، وإضعاف مصر، جاء الدور على السعودية التي يوهمها دونالد ترامب بأنه حليف موثوق، وأنه يدعم كل مخططاتها للوقوف في وجه إيران، وتدمير حزب الله في لبنان، وقطع يد الحوثي في اليمن، وحصار قطر، وإعادة رسم ملامح الخريطة الجديدة للسلطة والثروة في الرياض، وفي بيت الحكم تحديدا. السعودية، التي منعت أي دولة عربية من التدخل في حرب محمد بن سلمان على أعمامه وفروع عائلة آل سعود، ابتهجت بتغريدة لترامب يؤيد فيها حملة التطهير ضد الأمراء وكبار الأغنياء، بدعوى الفساد، في دولة تعتبر فيها الرشوة واستغلال النفوذ ونهب المال العام عملة رائجة لم يسبق لأحد من الحكام أن انزعج منها أو طالب بمصادرتها. هذا معناه أن الشاب محمد بن سلمان يتوفر على ضوء أخضر من تاجر العقارات في البيت الأبيض، الذي قبض مقدما ثمن مباركته لكل قرارات الرياض التي صدرت خلال عام كامل (حصار قطر، مواصلة الحرب على اليمن، والآن تصفية مراكز القوى في الداخل، والتحضير لإعلان الحرب على إيران بدعوى مسؤوليتها عن الصاروخ البالستي الذي سقط في مطار الملك خالد بالرياض). السعودية لم تدفع فقط 460 مليار دولار لدونالد ترامب من أجل مباركة السياسات الجديدة للشاب محمد بن سلمان، بل تخلت كذلك عن أحد ثوابت دبلوماسيتها التقليدية، وهو عدم التطبيع مع إسرائيل، حيث يجري التنسيق معها في أكثر من ملف، وربما التحالف معها مستقبلا لنزع أظافر حسن نصر الله في لبنان الذي خرج منتصرا من الحرب السورية، وأكثر خبرة في خوض الحروب غير التقليدية، وأكثر تسليحا بعد ست سنوات من القتال إلى جانب الروس والإيرانيين والأسد في سوريا وفي العراق. أعصاب البيت الأبيض لم تعد قادرة على احتمال تمدد الروس وإيران في منطقة الخليج، خاصة بعد الانتصار على داعش في العراق، وعلى المعارضة المسلحة في سوريا، وأمريكا لا تريد أن تخوض حروبا بجنودها بعد تجربة العراق المريرة التي خسرت فيها أكثر من 5000 جندي، خاصة إذا كانت هناك قوى إقليمية ستقاتل بدلا عنها وتخدم أجندتها البعيدة. الملك محمد السادس لن يسمع في أبوظبي فقط شروحات حول فرع متحف اللوفر الذي افتتح يوم أمس بكلفة 600 مليون دولار، دفعتها الإمارات إلى باريس مقابل اسم اللوفر وإعارة 300 قطعة أثرية للعرض. سيستمع الملك أيضا إلى خطط محمد بن زايد، الرجل القوي في البلاد، بشأن شكل السيناريوهات التي تطبخ على نار متقدة في الخليج، الذي تملك دوله المال والسلاح والتأثير في الولاياتالمتحدةالأمريكية، لكنها لا تملك ما يكفي من الجيوش، وتعول على دول، مثل مصر والسودان والمغرب وباكستان، لإعارتها الجيوش اللازمة لخوض حروب طويلة ومدمرة ضد إيران وأذرعها في المنطقة، بعدما تلاشى خطر داعش والقاعدة مؤقتا. في الجهة المقابلة، تحاول روسيا أن تنسج تحالفا مضادا مكونا من العراقوسورياوإيران، وحتى تركيا التي ستدخل من الباب القطري، والغرض هو التصدي لمخططات البيت الأبيض الذي يريد أن يهيمن على ما تبقى من نفط في الخليج (لم يتردد ترامب في الإعلان صراحة عن طلب تقدم به إلى السعودية يقضي بخوصصة شركة أرامكو في بورصة نيويورك العام المقبل، حتى يستفيد الاقتصاد الأمريكي من أكبر عملية خوصصة ستجرى في هذا القرن، وتتمثل في بيع جزء من النفط النائم تحت الصحراء السعودية، ومعه بيع حصة الأجيال السعودية المقبلة من الذهب الأسود). في ست سنوات خاضت السعودية والإمارات ثلاث حروب، بعضها علني وبعضها بالوكالة، الأولى هي الحرب ضد الربيع العربي الذي هب على المنطقة، وكان يحمل بوادر تحول ديمقراطي هادئ نسبيا، قبل إجهاضه وعسكرته وتطييفه، والحرب الثانية كانت في سوريا بمشاركة قطروتركيا ضد جيش الأسد، في محاولة لمعاقبته على ارتمائه في الحضن الإيراني، وقيادته محور ما كان يسمى بالممانعة، أما الحرب الثالثة فكانت ضد اليمن الذي دخلت الحرب فيه السنة الثالثة، والآن يجري التهييء لحرب رابعة ضد إيران وحزب الله في لبنان برعاية أمريكية وتخطيط إسرائيلي، فهل تحتمل هذه المنطقة كل هذه الحروب؟ وحتى وإن انتصرت فيها، فالذي سيربح من كل هذا الدمار هما أمريكا وإسرائيل ولا أحد غيرهما، مهما كانت الشعارات والدعايات وحملات غسل الأدمغة… لقد جربت دول أوروبا العجوز كل أنواع الحروب، الدينية والمذهبية والاقتصادية والقومية والإيديولوجية… ثم انتهت إلى خلاصة واحدة: الحرب لا رابح فيها.. الكل خاسر، المنتصر والمهزوم معا، لذلك، ومنذ الحرب العالمية الثانية، جرى الاشتغال على تثبيت أسس سلام ورخاء وتعاون لا تتزعزع تحت خيمة الاتحاد الأوروبي الذي تقوده اليوم ألمانيا التي لا تتوفر على جيش ولا على عقيدة قتالية.