حراك الريف يتمدد إلى مدن أخرى، وحرارة الاحتجاج انتقلت من الحسيمة إلى تارجيست وفاس والدشيرة الجهادية والناظور وتوجطات ونواحي مكناس… فيديوهات ناصر الزفزافي على اليوتيوب أصبحت «سيتكوم» شعبيا يتابعه الرأي العام الوطني كل مساء. يوم أمس انتقل قائد الحراك في الريف من الخطابة في الشارع وأمام حشود الجماهير، إلى الخطابة في المسجد أمام المؤمنين، بعدما نزع الكلمة من خطيب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الذي حذر المصلين من مخاطر السقوط في الفتنة والخروج عن طاعة ولي الأمر. انتفض الزفزافي ورفاقه في وجه الأمام المسكين، واعتبروه واحدا من علماء السلاطين الذين حذر النبي (ص) من خطورتهم على الأمة، حين قال: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين». لم يعد الزفزافي يواجه فقط خطاب الحكومة والإعلام الرسمي والأحزاب السياسية والصحف الموالية، بل صار يناهض الخطاب الديني للدولة في مساجدها الرسمية، محاولا انتزاع هذا السلاح من يدها، سلاح الدين، وتسخيره لخدمة توجه السلطة السياسي وخطتها لإطفاء الحرائق في الريف. عندما يصل الاحتجاج إلى المساجد، بكل حمولتها الرمزية والقدسية، فهذا معناه أننا دخلنا إلى حقل خطير، وعندما تنتقل الاحتجاجات بالعدوى من مدينة إلى أخرى، ومن الأقاليم إلى البوادي، التي كانت على الدوام خارج حركية الاحتجاج، فهذا معناه أن النار قريبة من الحطب في بلاد لن يجد فيها أحد صعوبة في كتابة دفتر مطالبه الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، وإشهاره في وجه الدولة. الغريب أن ملف إدارة هذا «الجيل الجديد من الاحتجاجات» أعطي، منذ اليوم الأول، للتقنوقراط، ولوزارة الداخلية، وتم استبعاد الحكومة، سواء حكومة بنكيران أو حكومة العثماني. وعندما أرادت السلطة استعمال غطاء سياسي لخطاب تخوين حراك الريف، استدعت زعماء الأحزاب السياسية، الذين لم يتأخروا في ترويج حكاية الانفصال والعمالة للخارج. ثم لما أعطت هذه المقاربة نتائج عكسية تماما، رجعت الأحزاب ذاتها لتتحدث عن مشروعية الاحتجاجات، وعن الاستعداد للاستجابة لمطالب السكان، دون أن يبالي أحد بقيمة مهمة في هذه الحكاية، ألا وهي المصداقية. كون الاحتجاجات التي انطلقت في الريف ذات طابع اجتماعي، هذا لا يعني أن حلها الحصري عند وزراء الفلاحة أو التجهيز أو الداخلية أو الثقافة أو الصحة أو السكن أو الماء… الاحتجاجات لها طابع سياسي أيضا، وهو أهم محرك لوجدان المتظاهرين، وسيكولوجياتهم، ونظرتهم إلى الدولة والسلطة والحكم والحكومة، ومسار الإصلاح المتعثر الذي تلقى ضربة مؤلمة طيلة أشهر البلوكاج الستة، التي انتهت بانقلاب ناعم على نتائج اقتراع السابع من أكتوبر، حتى وإن قبل به حزب العدالة والتنمية وفريق سعد الدين العثماني، فهذا القبول لم يضف على هذا الانقلاب السياسي شرعية، ولم يخف إرادة إغلاق القوس الذي فتح قبل خمس سنوات، وها نحن أمام «ربيع مغربي» جديد يطلق عليه الزفزافي «حراك الريف»، الفرق بينه وبين حركة 20 فبراير، التي نزلت إلى الشارع سنة 2011، أن الحراك الأول كان سياسيا أولا واجتماعيا ثانيا، وهذا الحراك الجديد اجتماعي أولا ثم سياسي ثانيا، أما الفرق الثاني فهو أن حركة 20 فبراير كانت بلا رأس ولا قيادة، فيما حراك الريف له رمز وله قائد، مهما اختلفنا معه ومع أسلوبه الاحتجاجي، أما الفرق الثالث فهو أن حركة 20 فبراير انطلقت من المركز ووصلت إلى الأطراف، أما حراك الريف فقد انطلق من الهامش ويحاول التمدد إلى المركز… بغطاء ديني واجتماعي وسياسي وعرقي، ليؤسس حركة المحرومين من ثمار النمو والمهمشين من سياسة الدولة. ما العمل؟ إننا أمام لحظة فارقة ودقيقة وخطيرة من حياة البلد ومستقبل استقراره. عندما يبعث الملك وفدا وزاريا باسمه إلى الحسيمة، ويجلس مع الناس هناك، ويلتزم بتحقيق عدد من المطالب التي أخرجت المواطنين إلى الشارع، ومع ذلك تزداد حرارة الحراك وسخونة الاحتجاج، وتكبر كرة الثلج المتدحرجة من شمال المغرب إلى جنوبه، هنا لا بد من وقفة تأمل ومراجعة. لا يمكن للدولة أن تتصرف مثل ذلك الرجل الذي يمتنع عن حفر بئر في الصحراء إلى أن يشعر بالعطش. المغاربة تغيروا، وإيقاع الحياة في بلادهم تغير، والوسائل التي بين أيديهم للتعبير عن مطالبهم تغيرت، والخوف في نفوسهم تغير، وهيبة الدولة في عقولهم تزحزحت، لكن السلطة مازالت تنظر إليهم بنظارات الماضي، ومازالت تعتمد على التقنوقراط الذين قال عنهم حسن نراغي، وهو ينصح الشاه: «التقنوقراط آلات تجيب عن الأسئلة التي تطرح عليها، ولا تطرح هي الأسئلة، وأصحابها يتبعون صاحب القرار من الخلف، ولا يشيرون عليه سوى بما يريده لا بما يجب.. بما يحبه لا بما يكرهه». عندما كان بنكيران يحذر من خطورة عودة الربيع العربي إلى المملكة، ويقول: «الربيع مازال كيدور ويمكن يرشق ليه ويرجع»، كان خصومه يتهمونه بابتزاز الدولة، وبث الخوف فيها لتنقاد إليه وإلى مشروع «الأخونة» الذي كان يخفيه. الآن نحن أمام ساعة حقيقة، حيث تجرب الدولة كل المقاربات لحل الأزمة، إلا المقاربة السياسية. الأزمة التي كشفها حراك الريف، الذي يتمدد مثل بقعة زيت، تحتاج إلى إدارة سياسية، وإلى قرار شجاع، وإلى سرعة قياسية، مثل تلك التي تصرف بها الجالس على العرش يوم التاسع من مارس سنة 2011، عندما خرج إلى شعبه معلنا حزمة من الإصلاحات الدستورية والسياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، ووعد بإصلاح حقيقي لأحوال بلاد داء العطب فيها قديم، على وزن عنوان كتاب للسلطان مولاي حفيظ.