حملت مارين لوبين، مرشحة الجبهة الوطنية بفرنسا، التي انهزمت في الانتخابات الرئاسية أمام إيمانويل ماكرون، خطابا قريبا جدا من ذلك الذي حمله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إبان حملته الانتخابية. واعتمد الإعلام الفرنسي بدوره أسلوبا مشابها لوسائل إعلام واشنطن إن لم يكن أكثر شراسة في حربه على مارين لوبين. هذه الأخيرة قدمت نفسها على أنها حاملة مشعل البؤساء والمهمشين في وجه نخب الإليزيه المتعفنة وإعلامها المضلل. والإعلام الفرنسي قدمها على أنها أكبر تهديد لقيم وتاريخ ومستقبل فرنسا. ودارت الحرب بين الجانبين، تماما كما دارت بين ترامب و"إعلام المركز" بأمريكا. ونجح ترامب وخسرت لوبين. واضح أن السبب المباشر لهزيمة لوبين هو اختيارات الناخبين الفرنسيين، الذين منحوا ماكرون فوزا مريحا في الدور الثاني، بعدما كانت أصواتهم مشتتة على وجوه وبدائل عديدة في الدور الأول. وأود هنا التركيز على واحد من الأسباب القوية التي تؤثر في نفسية الجماهير خلال الانتخابات وهو الإعلام. هذا الإعلام الذي أخفق في ثني الأمريكيين على منح ترامب رئاسة أمريكا، ويظهر أنه نجح في فرنسا في إمالة كفة ماكرون، أو أقلها في أن يتحسّس اتجاه العواطف والرياح… فمنذ أن تحوّل مرشح حركة "إلى الأمام" إلى أخف الضررين (le vote utile)، شحذت وسائل الإعلام الفرنسية، في حركة شبه منسقة، أسلحتها الثقيلة ونقلت المعركة ضد مشروع مارين لوبين إلى معركة حياة أو موت. هكذا نكّل الإعلام الفرنسي بمشروع مارين لوبين السياسي، وحوّل سيرتها السياسية وتحركاتها وخطاباتها إلى فيلم رعب، وأجهض مساعيها لنزع يافطة التطرف عن حزبها في بعض القضايا، وتفنّن في عرض ثغراتها في شكل رسومات بيانية تفاعلية مفصلة، وجداول رقمية، ومنحنيات، وريبورتاجات، وفقرات إخبارية وبرامج خاصة كلها تقول، بكل مهنية، إن فرنسا قد تعود لعصور الظلام على يد لوبين. كان التخوف أو التخويف من نيل مارين لوبين رئاسة البلاد واضحا في زاوية المعالجة والاختيارات التقنية-المضمونية في إعداد المواد الإعلامية. خلفيات صوتية درامية تثير مشاعر الارتياب تصاحب تقارير عن حملات لوبين. مقارنة دائمة بين فرنسا "الانفتاح"، وفرنسا "الانغلاق". والانغلاق مصطلح إعلامي – تحليلي صرف لم توظفه لوبين أبدا. لا أقول إن أفكار لوبين كما ترد في برنامجها الانتخابي جميلة أو متقدمة، أشير فقط، إلى الطريقة التي استطاع بها الإعلام أن يرسم إطارا عاما للتنافس الانتخابي، تكون فيه لوبين، سواء شاءت أم أبت، من تمثل الانغلاق وانعدام الكفاءة والعنصرية أي مصدر التهديد، وإيمانويل ماكرون الانفتاح والكفاءة والتعايش ومصدر الاستقرار. بكلمات أخرى، مرّرت وسائل الإعلام انحيازها لإيمانويل ماكرون وأفكاره بأكبر قدر من الموضوعية! كانت هذه الموضوعية المنحازة، والمهنيّة الموجهة، تنطوي على مجازفة. ماذا لو اختار الشعب لوبين؟ هل ستتحوّل نخب الإعلام الفرنسي من إدانة الجبهة الوطنية إلى إدانة الشعب الذي صوّت عليها؟ ألن يكون العكس هو الأصح؟ أي إن اختيار لوبين سيعني أن الإعلام مفلس ومنفصل عن واقع الناس وعديم الأثر ولا يمثل إلا نفسه ومخاوف النخب التي يدين لها بالولاء؟ ستكون ضربة موجعة للإعلام تُمدّد الشرخ بين الإعلام والواقع الذي ظهر في واشنطن ولندن إلى باريس.. غير أن نتائج الاقتراع بيّنت أن الإعلام الفرنسي لم يكن يمثل نفسه، ولا كان منفصلا عن واقع الجمهورية، كان يعي أن في البلاد مسلمين متوجسين، ومهاجرين مترقبين، ومواطنين لا يريدون خروجا من الاتحاد الأوروبي، وقيما لم تندثر وإن ترهلت، ورِقّة لازالت تسري في القلوب، تميل بها إلى رئيس عاشق..