قال أحد الأصدقاء مرة، وهو يطالع في إحدى الجرائد أسماء مجموعة من «الفنانين» الذين يتقاضون أجورهم من وزارة الثقافة، «كون غير كنت موظف شبح». قالها مازحا، ولكن في العمق من منا من لم يستسلم ولو مرة لدغدغة تلك الرغبة في أن يكون له مورد مالي مضمون ومنتظم دون أن يبذل أي مجهود، ولكن القواعد الأخلاقية والمجتمعية التي يحتكم إليها الإنسان حاليا جعلت من هذه «النعمة المشتهاة» نقمة على الفرد والمجتمع معا، لأنها تحول الأول إلى كائن عاجز ومتواكل، والثاني إلى تجمع فقير ومتآكل. على أي، لو كنت أعرف من نحت هذا المفهوم لطلبت منه أن يدلني على «إلهة الإلهام» التي أوحت إليه به، لأن «الموظف الشبح» من المفاهيم القليلة التي لا تكشف سحر اللغة ومكرها فقط، بل ترسم بدقة كبيرة مشهدا سرياليا لكنه واقعي.. لا يستطيع التقاطه سوى عبقري مثل سلفادور دالي. ف«الموظفون الأشباح»، الذين أعلنت الحكومة هذا الأسبوع ضبط وطرد 757 شبحا منهم، مثل مفهوم «الأثر» عند دريدا، الذي يعكس الحضور والغياب في الآن ذاته. فهم موظفون حاضرون في السجلات، ولهم أرقام تأجير، وأرقام هواتف، وحسابات بنكية تحول إليها أجورهم كل نهاية شهر؛ ولكن، في الوقت نفسه، هم أشباح لا ترى لهم العين أثرا في الأماكن التي يجب عليهم أن يكونوا فيها في أوقات العمل. وهم كذلك حاضرون يعيشون بيننا ويتناسلون ويتجاذبون معنا أطراف الحديث في المقاهي والبارات، ولكن، في الوقت ذاته، لا وجود عيني لهم في مكاتبهم. وفي تقديري، فإن الطبيعة الشبحية لهؤلاء، الذين يقدر عددهم بما بين 70 ألفا و90 ألف شبح ويكلفون جيوب المغاربة الضيقة ما بين 500 مليار سنتيم و1000 مليار سنتيم سنويا حسب التقديرات، تطرح على هذه البلاد تحديا فكريا ومعرفيا يتعين على علماء النفس والاجتماع والأنتروبولوجيا رفعه من خلال البحث في الأسباب العميقة التي تجعل هؤلاء المغاربة يقبلون على أنفسهم أن يكونوا نباتات طفيلية تتغذى على مجهود الآخرين. فبينما ينتحر آخرون في فرنسا وغيرها بسبب الإفراط في العمل سعيا وراء مزيد من الإنتاج، وما يسببه من عزلة لا يتحملها الفرد في بعض الأحيان، نجد أن عددا من موظفينا يختارون عزلة مضادة تؤدي إلى انتحار من نوع آخر يتمثل في القبول بالتحول إلى كائن شبحي. فهل يعتبر هؤلاء الموظفون الأشباح، في لاوعيهم، أن الأجور التي تحول إلى حساباتهم هي نصيبهم من ذلك الريع الذي يستفيد منه آخرون بطرق أخرى متنوعة؟ هل ينظرون إلى تلك الأجور على أنها رزق من الله يصلهم عبر دواليب السلطان؟ هل يتعلق الأمر عندهم بمردود استثمار قاموا به قبل وضع أسمائهم على لوائح الموظفين؟ فلا يخفى أن العديد من الموظفين قدموا، طوعا أو كرها، رشاوى للحصول على وظائفهم. هل يتعلق الأمر، في آخر المطاف، بتصور معين لمفهوم جديد للعمل لا يعترف بتلك القاعدة الذهبية التي تضع صرف الراتب في مقابل «صرف» قوة العمل؟ حقيقة.. لا أملك جوابا. فليس في قفة زادي سوى السؤال أرهق به نفسي وأرهق به صديقي المازح.