"يقع حي "باربيس BARBES " بالمقاطعة 18 الباريسية، وارتبط هذا الاسم بجزء كبير من ذاكرة تاريخ الشعوب المطلة على البحر الابيض المتوسط وخاصة المغرب والجزائر وتونس، ويضم أكبر تجمع للمهاجرين السريين أو ما يسمى ب"الحراكة "، الذين فضلوا السفر بطري سرية إلى مدينة الأنوار، باريس ورسموا في مخيلتهم أحلاما وردية، ليواجهوا بعدها الواقع المظلم بعد وصولهم الى فرنسا، وذلك في ظل غياب العمل القار وانتشار الجريمة وتجارة المخدرات. وبين هذا وذاك، لمسة تاريخية لابد من البحث عن مكنوناتها وعلاقتها بهذا المد والاستقطاب الذي وحد عرب اوربا، وهو ما حاول "اليوم 24″، الوصول الى بعض من خيوطه في هذا الروبورطاج بلاد ..بلاد" .. الرمز السري" "بلاد.. بلاد …"، هو الرمز السري الذي يستقبل به مجموعة من الشباب كل زائر لشوارع "باربيس"، فبمجرد نزولك من محطة "باربيس روشيليو "، على متن ميترو 2 أو 4 . و إذا كنت قادما على متن الحافلات القادمة من شارع "ماجونطا"، فسماعك لهذا القن السري يجعلك لامحالة تعرف بأنك في أكبر تجمع للعرب بفرنسا، وهو حي باريسي شهد تلاقح الثقافات والحضارات، فكان لليهوديين والمسلمين السبق في خلق منطقة تجارية مند نهاية الحرب العالمية الثانية. "باربيس "؟ هو بكل بساطة "أرماند باربيس ((1809-1870 ، ولد في "بوانت إبيتر" بالمستعمرات الفرنسية الواقعة "ما وراء البحار"، من أب عسكري طبيب من قدماء المحاربين الذين ساهموا في الحملة المصرية. و انتقل آرموند باربيس إلى باريس سنة 1831 لمواصلة دراسته في الطب،وعاصر عددا من الكتاب والشعراء والمفكرين. وبعد مدة ارتبط اسمه بالفكر الثوري الجمهوري، فاصبح من كبار المعارضين الشرسين لنظام الملك لويس فيليب. مع أوغست بلانكي،و قاد التمرد في 12 مايو 1839. و اعتقل وحكم عليه بالإعدام ، وخفف الحكم إلى السجن مدى الحياة. صدر في عام 1848، و تم انتخابه في الجمعية التأسيسية 23 أبريل 1848 حيث كان يجلس في أقصى اليسار. وفي 15 مايو، وأُدين في عام 1849، و عفا عنه نابليون الثالث في عام 1854. ذهب إلى المنفى في هولندا ولم يعد إلى فرنسا بعدها ". سوق شعبي : يخترق حي" باربيس " شارع رئيسي يحمل نفس الاسم وبجنباته مجموعة من المحلات التجارية اغلبها مخصص لبيع المنتوجات القادمة من الشرق الادنى وبلدان البحر الابيض المتوسط ، فهنا في "بربيس" يقف التاريخ ويسجل بأن جزءا من فرنسا منح شهادة الملكية لهؤلاء المهاجرين ، ويبقى الرابط الاساسي بينهم سوق أسبوعي يعرف حركة تجارية كبيرة يومي الاربعاء والسبت، سوق ينعقد على شاكلة الاسواق الأسبوعية المغربية التي تقام تحت خيام مؤقتة على طول شارع " لاشابيل" وبالضبط تحت قنطرة RER ،الذي الف التجار صوته وهو يزمجر بعجلاته الحديدية فوق رؤوسهم. هذا السوق في بربيس، يعرف توافد الباحثين عن أثمنة مناسبة تسمح لهو باقتناء الحاجيات بأثمنة جد مشجعة، وخاصة الخضر والفواكه والاسماك التي لاتقارن اثمنتها هنا مع باقي المناطق الباريسية، فهنا يمكنك اقتناء الطماطم والبصل والتفاح و المندرين بأقل من يورو بشرط أن شراء اكثر من كيلوغرام ،كما تنتشر على طول الرواق سلع مغربية وخاصة الملابس النسائية . شهادات مقيمين كان أول لقاء لليوم 24 مع "حسن " مغربي جاوز الستين سنة ينحذر من اقليم فكيك كلامه جد مختصر بحيث أجاب عن السبب الذي جعله يختار" باربيس "عن غيرها من الأسواق، فأكد لنا انه يرتاد السوق مند أواخر سبعينيات القرن الماضي حين كان في ريعان شبابه، حينها كان السوق يقام ليوم واحد ويقصده فقط المتواجدون بضواحي "باريس"، يأتي إليه من منطقة "سان دوني" حيث يقيم مند 1974 . واضاف حسن، أن الاثمنة المنخفضة ووفرة المنتوجات، وطراوتها هي التي تجعله يحضر كل اسبوع الى السوق، خاصة وأن الاثمنة في بعض الاحيان تعرف خصومنات مهمة، بحيث يمكن اقتناء ثلاث كيلوغرامات من السلع بثمن كيلوغرمين. ودعنا "حسن" الذي كان في عجلة من أمره، لنلتقي ب"محمد "، القادم الى هنا من الجنوب المغربي وبالضبط من منطقة سوس ، قصته تختلف لكونه مازال يعيش هنا بدون أوراق إقامة، التحق بأحد أبناء عمومته ليشتغل في إحدى الضيعات الفلاحية جنوبفرنسا في جني العنب، وانتقل بعدها إلى باريس وصنع لنفسه مكانة لدى فرقة موسيقية حيث ساعده كثيرا اتقانه لآلة "الكيتار "ليظفر بعمل ويصنع لنفسه معجبين، أخد بيده شاب كون فرقة موسيقية امازيغية بضواحي باريس ، واليوم استعان هدا الأخير بمحام للترافع من اجل للحصول على أوراق الإقامة ، والأمر حسب قوله فقط يتطلب بعض الوقت. يلج محمد في تصريحه لليوم 24 "باربيس "مرة في الأسبوع وخاصة الأربعاء ، ليقتني حاجياته من الخضر والفواكه والالتقاء بالأصدقاء والإطلاع على جديدهم ويبقى تركيزه منصبا على الحفلات العائلية حيث يقدم هنا خدمات فرقته الموسيقية، علاقة محمد بباربيس اكثر من ان تكون بيعا وشراء ،فهي لحظة ينتظرها بفارغ الصبر على حد قوله ليزور هدا التجمع المغاربي وربما يظفر بعرس او حفل عائلي فيعقد الصفقة ويحصل على "العربون " ليعود بتاريخ يضعه في أجندة فرقته الموسيقية . تجارة الثوب و الدعارة التقى اليوم 24 وسط هذا الزحام ب"ابراهيم "، وهو شيخ قارب السبعين وينحدر من اقليم تنغير سافر الى فرنسا بداية السبعينيات، اشتغل في توزيع البضائع بعدد من الاحياء الباريسية على اصحاب المحلات التجارية، لذلك كانت صلته وثيقة بأماكن تواجد العرب والمغاربة. و حدث "اليوم24″ قائلا " باربيس كان معروفا بسوق لبيع الاثواب، وارتبطت هذه التجارة باليهود خصوصا فهم من اشتغلوا فيها ". و سرد ابراهيم مجموعة من أسماء الاثواب، التي كانت حينها منتشرة ومعروفة : "دالاس " وثوب "العروسة" و "المليفة ". و من باربيس كان المهاجرون يقتنون ما يحتاجونه من أثواب لإرسالها او حملها معهم الى اوطانهم ، ولم يخف الشيخ الجانب الاخر لباربيس فقد وصفه باكبر حي يضم " العاهرات " على حد قوله في باريس بعد " بيكال " ووصف الامر بقوله " كنت اتذكر جيدا ان فنادق غير مصنفة تنتشر بالحي تضم بائعات الهوى ومن جنسيات تونسية وجزائية ومغربيات وافريقيات ، كانت الطوابير تمتد لعشرات الامتار امام هذه الفنادق التي تتخذها هؤلاء" العاهرات" كما يشاء تسميتهن مكانا لممارسة الجنس بما يعادل حينها مابين " 100 فرنك الى 200 فرنك فرنسي " أي ما يعادل 150 إلى 300 درهم مغربية قبل ان توحد اوربا العملة ، ويضيف ابراهيم " باربيس معروف بالاجرام والاعتداءات ، و كانت فيه منازل لاتتعدى طابقين واغلبها مبني بطريقة تقليدية وقد قامت البلدية بعدها باقتناء اغلب هذه المنازل التي كان يملكها اليهود الذين باعوا الاملاك بعد انتشار معامل الثوب بفرنسا وغيروا وجهة تجارتهم . بيع المساعدات نوع آخر من التجارة يجلب الاف الزبائن للحي، ويتمثل في المساعدات الانسانية التي يتالقاها المشردون والاجئون في المدينة، فتجدهم يضعون على طول ازقة الحي وخاصة بمقربة من محطة الميترو سراويل الجينز و احذية رياضية، وبعض الاجهزة المنزلية البسيطة اغلبها خارج نطاق الخدمة، ومنهم من يضع امامه مواد غذائية مختلفة تضم معجون الاسنان والفرشاة ومواد التنظيف، وبعض الاغذية كالياغورت والجبن، بحيث يعمد اغلب هؤلاء لبيع المساعدات التي يتلقونها من جمعيات المجتمع المدني والمنظمات، في هذا السوق ويحولونها إلى اليورو، الذي بواسطته يحصلون على زجاجات الخمر التي يحتسونها في ميترو الانفاق. تعايش الاديان في باربيس، تعايشت الديانات السماوية فتجد أتباع محمد يصلون بجانب اتباع موسى في هياكلهم، والنصارى غير بعيد عنهم يؤدون صلواتهم في كنيستهم المشهورة كنيسة القلب المقدس sacre cœur Montmartre". هذه الاخيرة التي اصبحت معلمة لابد للقادم الى باريس من زيارتها، بحيث يمنحك الصعود اليها القاء نظرة على جزء كبير من باريس فعلى يمينك يظهر جزء كبير من " برج ايفيل " وعلى يمينك المدينة مترامية الاطراف بأحيائها التي تفاجئك بهندستها الثلاثية. وبحلول اولى خيوط الليل يتأكد للجالس امام هذه الكنيسة أن باريس تسحق فعلا لقب " مدينة الانوار ". شهر رمضان في حديث جانبي لتاجر مغربي ينحذر من فكيك مقيم في باربيس منذ 1987 ، اكد هذا الاخير لليوم 24 أن لشهر رمضان ميزة خاصة في هذا الحي، إذ تتحول جنبات الحي الى متاجر تقدم اطعمة تسل لعاب الصائمين، حيث تقوم النساء بعرض ما لذ وطاب من المأكولات المنزلية ك "الحرشة المسمن، الشباكية ، الملوي ". هذا، إضافة الى مايعرضه التجار أمام محلاتهم من التمر والفواكه الجافة والبخور، التي يعلوا اريجها المكان ، ويتحول الحي إلى مكان لتجمع المسلمين الذين يقصدون باربيس. و يبلغ عدد زواره في الشهر الفضيل حوالي مليون زائر، منهم طلبة وعمال وعائلات تأتي لتذوق الاطباق الشهية و"الحريرة " التي تقدمها المطاعم الشعبية المنتشرة هنا بأثمنة جد مشجعة . الاوركسترا الوطنية الاوركسترا الوطنية لباربيس تأسست سنة 1996 وهي فرقة فرنسية مثلت المزيج الثقافي والعرقي لفرنسا الحديثة، حيث تداخلت الأصول والأعراق وتداخلت معها الموسيقى والاغنيات وتضم الفرقة في عضويتا الموسيقي عزيز السحماوي، ابن دوار العسكر في مراكش، وقد خرجت هذه المجموعة عن النمط المرتبط بسهرات "الاوركسترات " وكسرت حاجز " البريستيج" المرتبط بها ، فكان جلها يأخد الجماهير نحو عوالم الرقص والتمايل، وقد وصفها احد الكتاب الصحفيين، بقوله "أمسية الفرقة تجردك تماما من رداء الوقار ، فيتحول المسرح الى ما يشبه قاعة للرقص والتمايل الجماهيري تفاعلاً مع الموسيقى الخاصة والفريدة .. فلم تكن هذه الفرقة الفريدة بوقار الفرق الأوركسترالية التقليدية, بل كانت أشبه بفرق موسيقى الشارع التي تنتشر ويذيع صيتها في أميركا وبعض بلدان أوروبا، حيث تتحرر الموسيقى من كل القيود، وتنطلق من موقع لآخر ومن قارة لأخرى، لدرجة ان المستمع للفرقة وهي تغني لابد أن يتفاعل مع ما تقدمه من مقطوعات، غنائية مزجت فيها بإبداع بين ألوان من شرق وغرب، حيث حضرت موسيقى "الراي" الجزائرية الشهيرة الى جانب موسيقى "الروك" الغربية والموسيقى السواحلية الأفريقية, وموسيقى »الكاريبي« والقدود الحلبية, والنغم الصوفي. احصائيات حسب احصاء للحكومة الفرنسية سنة 2008 فإن 64% من الساكنة النشيطة بباربيس تشتغل في مجالات التجارة والنقل والاشغال المختلفة الحرة ، في حين أن نسبة 23 % تشتغل في الادرارت العمومية الصخة والتعليم والمجال الاجتماعي وفي هذه المقاطعة حصل عولاند على نسبة مهمة من الاصوات في الانتخابات الرئاسية السابقة لسنة 2012. احصائيات الساكنة التي تتراوح اعنمارها مابين 15 الى 44 سنة بلغت 49 من % من مجموع الساكنة النشيطة بالحي وتبلغ ساكنة باربيس حوالي 196 الف نسمة حسب احصاء سنة 2008 ، أي بمعدل 32612 في كلم2 وهو رقم عرف تراجعا في هذه السنوات.