«لماذا حققت كتب بعينها أرقام مبيعات «خيالية»؟ هل للأمر علاقة بالموضوعات التي تتم معالجتها؟ أم بطريقة الكتابة والصياغة؟ أم بوجود اهتمام واسع من قبل القراء؟ مهما يكن، اليوم نطل على كتاب «محمد الرايس» أحد الناجين من جحيم تزمامارت على نهج باقي الكتب التي تناولت تجربة الاعتقال في تازمامارت، يسير كتاب محمد الرايس «من الصخيرات إلى تزمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم»، الذي نقله إلى العربية الكاتب والإعلامي عبد الحميد جماهري. إذ شكل الكتاب إبان صدور ترجمته العربية، سواء عبر صفحات جريدة «الاتحاد الاشتراكي» أو عبر دور النشر المغربية، حدثا ثقافيا استنثائيا، على اعتبار أنه حقق مقروئية أكبر عبر الجريدة أولا، وانتشارا واسعا بعد صدوره في كتاب أنيق ثانيا. صدر هذا الكتاب عبر حلقات في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث يتذكر عبد الحميد جماهري، مترجم الكتاب، أن المؤلَّف أثار ضجة كبرى وخلق جوا مشحونا لما بدأت الجريدة في نشر حلقاته الأولى. إذ يشير إلى أنه فرض على عبد الرحمان اليوسفي، الذي كان حينها وزيرا أول ومدير الجريدة، إيقاف الحلقات، أو تلخيصها بغية الإسراع بنشر ما تبقى من حلقاته. كما يتذكر أنه تلقى ردودا وتعليقات من المشرق العربي إبان نشرها، وحتى بعد ذلك، مشيرا إلى أنه كان الكتاب الأكثر مبيعا في ذلك الوقت. كما صدر الكتاب، بعد ذلك، في طبعة أولى عن دار النشر المغربية، تتكون من أربعة آلاف نسخة، نفذت كلها ما أن نزل الكتاب إلى الأكشاك والمكتبات، مما دفع بريان حب الله، صاحب دار أفريقيا الشرق، إلى الحصول على حقوق نشر الكتاب من الكاتب محمد الرايس. إذ نشر الكتاب في طبعة أخرى، بالفرنسية أولا، ثم بالعربية ثانيا. ورغم أن «أفريقيا الشرق» لم تعمل على إصدار طبعات أخرى، إلا أن استمرار حضور الكتاب في السوق يكشف أن الدار سحبت منه آلاف النسخ، كما يقول مصدر مطلع. من جهة أخرى، يعتبر عبد الحميد جماهري أن موضوع الكتاب وأسلوبه الشيق ساهما في ارتفاع مبيعات الكتاب. إذ يرى أنه أول كتاب يجعل المغاربة يقفون على حقيقة تاريخية لم يكن الناس على علم بها، حيث تتجلى هذه الحقيقة، على حد تعبيره، في الفظاعة والقساوة، التي كان يعيشها لفيف من المعتقلين في سجن تازمامارت خلال السبعينيات والثمانينيات. في هذا السياق، يقول جماهري إنه «لم نكن نتصور أن الذات المغربية قادرة على اقتراف الشر وإلحاق الأذى بالآخر، وقدرتها على التحمل في الآن ذاته»، ذلك أن الكتاب يسلط الضوء على حالة إنسانية أكثر إيلاما، حسب تعبير مترجم الكتاب، جعلت القراء يكتشفون، ولأول مرة، مدى قسوة الدولة على مواطنيها. فضلا عن هذا، كان لأسلوبه الشيق أثر واضح في انتشار الكتاب ورواجه، حيث يقول جماهري إن الكاتب محمد الرايس «سارد جيد»، تمكن من إيصال الوقائع، التي يتحدث عنها الكتاب، بوضوح نادر. إذ تنساب الحقائق التاريخية في هذا الكتاب، انطلاقا من المدرسة العسكرية في أهرموم، مرورا بأحداث الانقلاب في الصخيرات، وانتهاء بفظاعة التعذيب والاعتقال داخل معتقل تازمامارت، الواحدة تلو الأخرى دون ركاكة أو ارتباك في التعبير. يروي الكتاب تفاصيل تجربة الاعتقال في تازمامارت على امتداد أزيد من عشرين سنة. إذ يسعى الكاتب إلى عرض المحنة، التي عاشها إلى جانب آخرين، دون تصفية حسابات، أو مزايدات سياسية، حيث الغرض من هذا العرض الكشف عن مرارة تجربة إنسانية تناساها النظام قرابة ربع قرن. «قررتُ اليوم، بعد تفكير طويل أن أكتب هذه الشهادات الحقيقية»، بهذه العبارة يبدأ محمد الرايس الذي كان ضمن الحركة الانقلابية، التي قادها الكولونيل محمد اعبابو ضد الملك الراحل الحسن الثاني، قبل أن يصبح من الأشباح الحية لمعتقل تازمامارت. إذ يروي هذا الواقع باعتباره أحد الشهود الأحياء على ما فعله طلبة مدرسة أهرمومو (رباط الخير حاليا)، ذات يوم من يوليوز 1971 الساخن، حيث يريد محمد الرايس، حسب ما كتب في مقدمة مذكراته، أن يروي الوقائع كما حدثت وكما توالت حوله وأمام عينيه، ولا يريد أن يفتح السجال حول ما قيل وكتب عن هذه الوقائع، وأن يسلط الضوء على كل النقط التي ظلت تلفها العتمة إلى يومنا هذا. يتساءل الرايس: «هل علي أن أحكي فعلا كل شيء؟» ويجيب: «إن عدم فعل ذلك يعني عدم الوفاء بالوعد الذي قطعته على نفسي قبل خروجي، وخيانة ضميري ولا سيما خيانة رفاقي في المعتقل- السجن الذين ماتوا فيه في ظروف وحشية بعد أن عانوا بشكل فظيع ومضى على انقضاء عقوبتهم زمن طويل..» ويضيف محمد الرايس: «إنني أريد أن أتخلص من هذا الكابوس الذي يسكنني والصراخات الحادة لرفاقي الذين جُنّوا بفعل العزلة والظلمة..» هكذا، كان وفاء الرايس لمن عاشوا معه !