هناك ثلاثة أمور لم أفلح قط، في التخلص من الارتباك الشديد الذي سببته لي، ومازالت تسببه: ركوب الدراجة والشيخات وإسرائيل. فلم أتعلم قط، ركوب الدراجة، وأغبط، بل أحسد، أي طفل صغير يقود دراجته بلا مبالاة ورشاقة. وكم حاولت وأحاول التظاهر بعدم الاهتمام بأغاني الشيخات وما تحمله من كلمات تخرج لسانها في وجه «اللائق»، وإن كانت «عيطاتهن» تخترق كل مقاوماتي لتنفذ إلى أعماقي، أنا الأمازيغي الأصل. أما إسرائيل، فلم أعرف أبدا، كيف أحدد موقفي منها. فلم أستسغ قط، مثل كثيرين، تنكيلها بالفلسطينيين العُزّل، ولكن في الوقت ذاته أعترف وأقر بأنني معجب بها. فهي بلد نبت مثل نبات وحشي من حبة رمت بها يد غامضة في أرض تغذت دوما على الالتباسات منذ عصور سحيقة. واستطاعت أن تلعب على هذه الالتباسات مثل بهلوان ماهر، وتتغذى عليها مثل أي نبات وحشي يعرف كيف يضمن لنفسه البقاء. ليست لي عداوة شخصية مع إسرائيل، ولكن لا أستطيع الفكاك لحد الآن من الإحساس بألم الفلسطينيين- وإن كان ذلك من باب أضعف الإيمان- وهذا ربما بسبب ذلك الشريان الديني أو الوريد العِرقي الذي يربطني بهم. بيد أن هذا الألم الصارخ لا يسعفني أبدا في كبت إعجابي وغيرتي من هذه الدولة الصغيرة، مثلما لا تستطيع فتاة ما أن تتحكم في إعجابها وغيرتها وغيظها من بنت الجيران التي تحصل على كل ما تريد، وتعرف كيف تستعرض مفاتنها وتجلب إليها كل الأنظار. إن إسرائيل بالنسبة إليّ، أنا الذي أرادت له ديكتاتورية الجغرافيا ومكر التاريخ والثقافة أن أكون منتميا إلى هذه المنطقة، تمثل ذلك الآخر الذي يتمتع بصفات أحلم – ولعلي لست الوحيد- أن تكون جزء من كيان هذا الوطن الممتد، أي: ديمقراطية حقيقية.. تقدم اقتصادي وعلمي.. قوة عسكرية رادعة.. وحتى تلك القدرة الهائلة على ترويج رواية معينة للتاريخ بدهاء كبير، والقدرة الكبيرة على تحويل الأسطورة إلى حقيقة ثابتة، وإن لم تكن كذلك تماما، بدل الصراخ المتواصل واللغة الخشبية المهترئة التي أدمنَ عليها قادة البلاد العربية وعدد كبير من مثقفيها. أغار من إسرائيل لأنني أرى فيها ذلك الآخر الذي يعوزنا حسه الاستراتيجي والتكتيكي الكبير، ونفتقد نجاحه المدهش في الوصول إلى المعلومة الصحيحة واستثمارها الجيد، وتنقصنا قدرته الكبيرة على دراسة الخصم والوقوف على حدود خياله. وتحضرني هنا حكاية وزير الدفاع الإسرائيلي الشهير موشي ديان إبان حرب أيام ليونيو 1967، التي لم أعشها سوى من خلال الكتب والأشرطة الوثائقية. فقد سُئل مرة عن سر ذلك الانتصار في تلك الحرب، فرد بأنه وضع خطة تتجاوز حدود الخيال العربي الذي كان يؤمن إيمانا مقدسا بأنه يجب تقسيم سلاح الطيران إلى قسمين متساويين: قسم يهاجم خارج المجال الجوي والنصف الآخر داخله. لذلك، لم يكن العرب يتوقعون أن تهاجمهم إسرائيل بغتة وبكل طائراتها دفعة واحدة، فراحوا يتحدثون عن مساعدات أمريكية للقوات الإسرائيلية، ولو كانت لهم القدرة على تجاوز حدود خيالهم، لانتبهوا إلى أن المجال الجوي الداخلي الإسرائيلي كان دون دفاع ! وتمثل إسرائيل بالنسبة إلي، تلك المرآة التي لا تكتفي بإظهار ضعفنا وقلة حيلتنا وحتى خبث وأنانية الكثير منا، بل تضخمها بشكل يعمق فينا إحساسا طافحا بالخزي لعله السبب في الميل اللاإرادي للكثير منا إلى إدارة الظهر لها وعدم الرغبة، أو بالأحرى عدم القدرة على مواجهتها والنظر في عينيها. ولعل ذلك الإحساس المزعج هو الذي يدفع البعض إلى مواصلة الهروب، ولكن رمزيا هذه المرة، من خلال السعي إلى فرض قانون يُجرِّم التعامل مع إسرائيل. وبما أنهم سجيني منطق الهرب والخوف فهم لا يعلمون ربما أن المتضرر الوحيد من هذا القانون، إن تمت المصادقة عليه، هم المغاربة وليس تل أبيب التي نسجت، بفضل حسها الاستراتيجي الكبير، حبال ودٍّ متينة مع دول عظمى توفر لها مظلة اقتصادية وعسكرية أقوى بكثير. يا ليت بلادنا لديها القدرة على نسج مثلها، فربما ساعدني ذلك على التخفيف من الارتباك الذي تسببه لي هذه الدولة الملتبسة.