جل اهتمام الرأي العام منصب هذه الأيام حول تظاهرات الكرامة التي انفجرت عقب «طحن بائع السمك» في شاحنة أزبال بطريقة درامية في الحسيمة قبل أسبوع، لكن هذا لا يمنع من الانتباه إلى محاولة «طحن إرادة الناخبين» الجارية في الرباط هذه الأيام، حيث تواطأت ثلاثة أحزاب على إحداث «بلوكاج» لمنع الولادة الطبيعية للحكومة الجديدة، رغم أن هذه الأحزاب لا ترى نفسها أبدا خارج خيمة الوزارة، وهذه الأحزاب هي: الحركة الشعبية، والتجمع الوطني للأحرار وحزب الاتحاد الاشتراكي. الأحرار يعرف ماذا يفعل لأن زعيمه الجديد كأن حاضرا في المطبخ، أما العنصر، فإنه من قبيلة «بني وي وي»، فيما لشكر مصاب بداء «الإشارات». يوم أمس اتصلت «أخبار اليوم» برئيس الحكومة لأخذ رأيه في هذا البلوكاج، فرد كعادته بالمثل المغربي الدارج وقال: «إذا أدخلك مول العرس كل بدون أن تغسل يديك». عبارة قابلة لكل أنواع التفسيرات… وأضاف رئيس الحكومة المعين قائلا: «أنا سأظل أتعامل مع كل الأطراف بالجدية والمعقول، وإذا عجزت عن تشكيل الحكومة فلن أدخل إلى أي متاهات. سأرجع إلى صاحب الجلالة، وأخبره بأني فشلت في تشكيل الحكومة وأرجع إلى بيتي. الناس قالوا كلمتهم، وجلالة الملك اتخذ قراره، والباقي لا يهمني. لن أخضع لابتزاز أحد. انتهى الكلام». يبدو أن المغربي لم ينضج بعد ليكون مثل الفرنسي أو الإنجليزي أو السويسري أو الجنوب إفريقي، الذي يذهب إلى صندوق الاقتراع فينهي عمر حكومة وينصب حكومة أخرى بناء على برنامجها وسمعتها. مازال هناك من يؤمن بأن للدولة المغربية خصوصية لا تنتهي، وأن جهات في السلطة يجب أن تبقى مهيمنة على الحياة السياسية ووصية على الأحزاب، حتى وإن كان للجالس على العرش رأي آخر مختلف تماما. دعاة السلطوية يَرَوْن أن دستور 2011 كان فلتة يجب ألا تتكرر، وأن المطلوب الآن، وقد صار الدستور واقعا، أن يؤول رئاسيا لا برلمانيا، أما نتائج صندوق الاقتراع فإنها، في عرفهم، مجرد عجين يمكن أن يصنعوا بها ما يشاؤون من الأشكال والمجسمات بدون مراعاة لمنطق وروح الاستشارة الشعبية، لهذا يحاول أخنوش الآن، وقد تراجع حزبه من 52 مقعدا سنة 2011 إلى 37 مقعدا في 2016، أن يفرض «شروط الخوزيرات» على رئيس الحكومة المكلف (رفض دخول الاستقلال إلى الحكومة المقبلة وكأنه حاصل على 100 مقعد في مجلس النواب، واشترط عدم صرف دعم مالي مباشر للفقراء، وهذا شرط يحمل فائدتين للسيد أخنوش؛ الأولى مادية، وهي استمرار استفادة شركة «أفريقيا» من أموال صندوق المقاصة الذي مازال يصرف 17 مليار درهم للغاز سنويا، والفائدة الثانية سياسية، وتعني حرمان حكومة بنكيران من عائدات سياسة واجتماعية تجاه الفقراء. أخنوش لا يغضب اليوم رئيس الحكومة فقط، بل هو يثير أعصاب إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، لأن «مول الغاز» يقدم نفسه كرأس حربة للخطة باء التي وضعت في حال عدم فوز البام بالمرتبة الأولى للحكومة، ويتقدم للعب دور الطبيب الذي يُستدعى لقسم المستعجلات بعد وقوع حادثة سير خطيرة، لهذا، بعد خمسة أيام من ظهور نتائج الاقتراع، استقال مزوار وسلم المفاتيح لأخنوش الذي سبق وأعلن، قبل ستة أشهر، أنه اعتزل السياسة، وأنه سيتفرغ للفلاحة. أخنوش اليوم يتقدم لشغل مقعد إلياس، ولهذا لم ينتظر ابن الريف التحقيقات الجارية حول وفاة محسن فكري، بل سارع إلى إصدار بيان ناري يحمل فيه وزارة الفلاحة والصيد البحري، التي احتكرها أخنوش لمدة 10 سنوات، المسؤولية عن مقتل شهيد الكرامة. أكثر من هذا، دعا إلياس العماري، في بيان حزبي، أعضاء حزبه إلى التظاهر في الشارع عله يحرق ورقة أخنوش قبل أن تستعمل في الخطة السياسية الجديدة، سواء في الحكومة أو المعارضة. أمام بنكيران اليوم اختياران، إذا فشل في إقناع أحزاب «السلطة» بالدخول معه إلى خيمة الأغلبية؛ الخيار الأول هو تشكيل حكومة أقلية لا يفصلها عن الأغلبية سوى 15 مقعدا (بحوزة المصباح والميزان والكتاب الآن 183 مقعدا، والأغلبية تحتاج إلى 198 مقعدا). هناك في مجلس النواب، حيث الانتماء الحزبي مترهل والأحزاب مهلوكة، لن يعجز بنكيران عن إيجاد 15 برلمانيا يمكن أن يعطوه أصواتهم دون أن يستفيدوا شيئا. أما الخيار الثاني، فهو الرجوع إلى الملك وتسليمه المفاتيح، والاستعداد لانتخابات جديدة ستحسم هذه المهزلة التي لم تعد تضحك أحدا.