الذي يلاحظ التقدم الذي يحققه المغرب في سياسته الخارجية والاختراقات المهمة التي يصنعها على كل المحاور، والتكتيكات الذكية التي لجأ إليها لتدبير التوتر مع أمريكا بالتوجه المتوازن نحو روسيا والصين، يخلص إلى أن العقل الاستراتيجي الذي يرسم "منظام" هذه السياسة يشتغل بذكاء، كما تشتغل معه بكثافة "الماكينة" التي توفر المعطيات وتواكب التطورات وتستشرف السيناريوهات. في المقابل، الذي يلاحظ ما يجري من تردد وارتباك في التعاطي مع المشهد السياسي ومكوناته، وما يترتب عن ذلك من تعاط مع العملية السياسية والمسار الانتخابي، ينتابه شعور بأن هذا المجال يُدار بطريقة مختلفة عن الرؤية الاستراتيجية التي تُدار بها السياسة الخارجية، وأنه لولا تدخل الحكمة الملكية للحسم في المآلات والمسارات لحدثت هوة خطيرة بين مخرجات العقل السياسي المغربي في السياستين. هل المشكلة في المعطيات والبيانات؟ بالتأكيد لا، فالمعطيات عن الداخل، وبالتحديد عن الفاعلين ورهاناتهم، وسوسيولوجية مكوناتهم، وغيرها من المعطيات الدقيقة، تملك وزارة الداخلية – بحكم خبرتها المتراكمة – معطيات كثيفة لا تقارن بمعطيات السياسة الخارجية. هل المشكلة في النهايات؟ بالتأكيد لا، فكما وضعت السياسة الخارجية هدف لحاق المغرب بالدول الصاعدة، فقد نص الدستور على أن الخيار الديمقراطي خيار لا رجعة فيه. أين تكمن المشكلة إذن؟ منذ الاستقلال، وبالاستقراء، تعاطت الدولة مع الشأن السياسي بثلاث مقاربات: – مقاربة الصراع للدفاع عن المشروعية، وقد امتدت إلى المسلسل الديمقراطي. – مقاربة صناعة التوازن، وقد كانت الغاية منها تحصين المغرب من العودة إلى الصراع حول المشروعية، وقد امتدت هذه المقاربة حتى مع حكومة التناوب. – مقاربة إعادة خلخلة المشهد السياسي لاستعادة التوازن، وقد برز هذا الرهان مع النتائج التي حققها البيجيدي سنة 2002، وظهرت إرهاصاته الأولى بعد انتخابات 2007، مع تأسيس حركة لكل الديمقراطيين. في المقاربة الأولى خسر الجميع، الدولة والأحزاب، وكانت نتيجة الأزمة توترات اجتماعية كبيرة ووقوع انقلابين متتاليين. في المقاربة الثانية، تكلفت الدولة بإنتاج أحزاب إدارية لا قاعدة اجتماعية لها فرضت نفسها على الحياة السياسية، وكانت النتيجة إعلان الدولة الرسمي عن دخول المغرب مرحلة السكتة القلبية. في المقاربة الثالثة، أنتجت السلطة حزبها، وكانت تضطر في كل مرة أن تعلن المسافة عنه بعد أن يتأكد لها في عدد من المحطات كلفة هذا الاصطفاف على صورة المغرب وخطورته على مساره السياسي. اليوم، نستطيع القول بأن العقل السياسي الذي أنتج هذه المقاربة يوجد في أزمة، وأنه لولا الحكمة الملكية التي تدخلت للحسم في مسار التطورات لحصلت الكارثة. لا يهمنا الدخول في تفاصيل أزمة هذا العقل السياسي ومظاهرها، لكن الذي يهمنا الحديث عنه هو عطب هذه المقاربة. نقطة قوة مقاربة التوازن أنها كانت تنطلق من الواقع الحزبي كما هو، وتحاول الاشتغال على بعض مكوناته وترك مساحة مهمة لاستقلالية القرار السياسي، وهذا ما يفسر دينامية الفعل السياسي، بل ويعطي معنى حتى للحَراك الداخلي للأحزاب، فيصير من الممكن فهم انشقاقات الاتحاد الاشتراكي وتحولات منظمة العمل الديمقراطي الشعبي مثلا، أما مقاربة الخلخلة، فقد انطلقت من مسلمة تدمير الأحزاب الوطنية، والجمع القسري للمكونات مع تضييق أو إلغاء هامش استقلالية القرار السياسي، ولذلك كانت نتيجة هذه الخلخلة أن وجدت الأحزاب الوطنية الديمقراطية نفسها بعد التراجع البين الذي حققته، بين الموت أو استعادة موقعها مع الأحزاب الوطنية الديمقراطية، أما الأحزاب الأخرى التي فرض عليها قسرا الانضمام إلى الحزب السحري، فقد ماتت تقريبا، وبقي حزب واحد متضخم عدديا، لكنه مرفوض ومعزول سياسيا مفارقة العقلين الذي ينتج السياسة الخارجية، والذي يتعاطى مع الداخل الحزبي، أن الأول مشغول بهدف استراتيجي عليه إجماع الجميع، أما الثاني، فمشغول بتفتيت الجبهة الداخلية التي تعتبر ضمانة لكل تقدم سواء في الداخل أو الخارج.