كثرت المواقف التي تهاجم بشدة ميثاق إصلاح منظومة العدل ومن أطراف متعددة، وفي هذا الحوار يحدد عبد العزيز النويضي، الذي كان عضوا في اللجنة التي أعدت الميثاق، موقفه ويوضح الكثير من النقط المتعلقة بممارسة مهنة القضاء والمحاماة. { انصبت كثير من الانتقادات على ميثاق إصلاح العدالة وعلى وزير العدل بصفة خاصة، ماذا ترون كمتتبع وكعضو في الهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة؟ حتى أضع الأمور في نصابها، سأبدأ من البداية لأقول إن فكرة الميثاق الوطني جاءت على إثر عقد حزب العدالة والتنمية ندوة داخل البرلمان حول إصلاح القضاء، وذلك قبل دستور 2011، وبعد مجيء الدستور الجديد في إطار ما عرفه المغرب وعدد من الأقطار العربية من حراك من أجل التغيير، وبعد الانتخابات وتعيين الحكومة، التقى وزير العدل الجديد آنذاك مجموعة من المحامين الذين نُسجت بينه وبينهم أواصر المودة نتيجة النضال المشترك في القضايا الحقوقية، وهم من مشارب سياسية وفكرية مختلفة، وعبر الوزير عن رأيه في تشكيل لجنة يستشيرها في عدد من الأمور المرتبطة بإصلاح منظومة العدالة. وبعد ذلك، بعث الوزير إلى عدد من الأشخاص والهيئات بمشروع أرضية منهجية بشأن حوار وطني حول إصلاح منظومة العدالة، فأجاب من أجاب وتخلف من تخلف، ثم تطورت الفكرة، وتوسع الأعضاء بعدما سعى الوزير إلى نيل مباركة ملكية لفكرة الحوار والميثاق الوطني، وفي شهر ماي 2012 دعينا إلى القصر الملكي بالدار البيضاء، وفوجئت شخصيا بعدد الأعضاء الذي بلغ الأربعين، ولكنني لم أعتبر الأمر سلبيا بانتظار ما سيحصل...
{ تم إغراق اللجنة بعدد كبير من مسؤولي وزارة العدل وعدد من رؤساء الهيئات، وحتى والي بنك المغرب مثلا، ماذا سيحمل تقنقراطيون وأشخاص بعيدون عن مجال العدالة؟ لا يمكنني الحكم على تشكيلة اللجنة ولا على مساهمات الأشخاص، ولكني أقول إنها كانت تجربة مهمة ساهم فيها الجميع، وتعلم فيها كل عضو أشياء في غاية الأهمية، وبالنسبة إلى والي بنك المغرب، الذي تحدثت عنه، فقد كانت له آراء نيرة، وصدر عنه أحسن موقف بخصوص استعمال المعلوميات في قطاع العدالة، عندما نبه وزارة العدل إلى المحاذير التي تنتج عن التبعية لبائعي المنظومات، وأعطى نموذج بنك المغرب، بالإضافة إلى أنه كان لطيفا، وكانت مداخلاته تخفف التوتر الذي يسود أحيانا بسب تصادم أفكار ومقترحات عديدة...
{ البعض رأى أن موظفي الوزارة أغرقوا اللجنة وشكلوا ما يشبه «لوبيا» منسجما يدافع عن أطروحة واحدة؟ ربما ارتأى الوزير التعبير لكبار مسؤولي الوزارة عن تقديره لهم تشجيعا لهم على المساهمة القصوى والمباشرة... وفي الواقع كانت مساهمتهم كبيرة وضرورية بالنظر إلى معرفتهم بالمعطيات وبمختلف البدائل، كل في مجاله. أما بالنسبة إلى نادي القضاة، فقد عبرت غير ما مرة عن أسفي لعدم إشراكه، وتحدثت مباشرة مع الوزير رفقة أعضاء آخرين، وكان رده أنه يصعب عليه، أمام تهديد النادي بالانسحاب إذا لم تلب بعض المطالب قبل 15 ماي 2012، أن يقترح عضويتهم على الملك. وفي الواقع، لا شيء يمنع النادي من الدفاع عن المقترحات التي يراها أكثر إيجابية لإصلاح المنظومة، وانتقاد أي مشروع لا يتفق معه كليا أو جزئيا. وما يصدق على النادي يصدق على نقابات العدل، ولطالما سعينا، رفقة عدد من كبار النقباء والمحامين، إلى تقريب وجهات النظر بين الوزارة وأكثر هذه النقابات تمثيلية، وتوصلنا، بعد جلسات طويلة في أبريل 2012، إلى تسويات مكتوبة، ولكن المشاكل كانت تعود للبروز، خاصة ما يخص مسألة الاقتطاع من الأجور بسبب الإضرابات.
{ وما هو موقفك الخاص من قضية الاقتطاعات من الأجور عن أيام الإضراب؟ إن موقفي هو موقف منظمة الشغل الدولية، التي ترى أن الاقتطاع من الأجور عن أيام الإضراب لا يشكل خرقا لمبادئ الحريات النقابية، فالإضراب حق مشروع ولكنه لا يعني الاحتفاظ بالأجر، خاصة عندما يصبح ممارسة متكررة، ويصبح الأمر أكثر صعوبة متى تعلق الأمر بمرفق عام مهم كالقضاء، الذي يشكل إحدى سلط الدولة ويرتبط بحقوق المتقاضين... فيجب التعامل مع حق الإضراب باحتياط كبير لأن ممارسته لا تتم بدون عواقب، فخلال شهور بين 2011 و2012 بقي المتقاضون والمحامون رهينة صراع لا يد لهم فيه بين بعض النقابات والوزارة، وتضرروا كثيرا دون أن يستطيعوا اتخاذ موقف لأن كثيرا من المطالب النقابية كانت مشروعة، ولكن في الوقت نفسه كانت الإضرابات المتكررة قاسية، وصار ينخرط فيها حتى من لا ينتمي إلى النقابات مادامت أصبحت بمثابة عطلة مؤدى عنها! وبعد صدور النظام الأساس لموظفي وزارة العدل، الذي حسن من وضعيتهم المادية، كنا ننتظر سلما اجتماعيا، ولكن المنطق النقابي -الذي أحترمه- يدفع في اتجاه طلب المزيد، وفي وضعية كوضعيتنا التي أهمل فيها القطاع عقودا وتدهورت شروط عمل الموظفين والقضاة، من الطبيعي أن يكون الضغط كبيرا على الوزارة وعلى الدولة، ولكن البنيات السياسية والاقتصادية، على ما هي عليه، لا تمكن من الاستجابة لمطالب حتى لو كانت عادلة في غياب إصلاحات تكتسي طابعا ثوريا وتفترض وضعا ثوريا لسنا بصدده حاليا.
{ كيف رأيت الزيادات الأخيرة في رواتب القضاة، خاصة وأن بعضهم يقولون إن هذا غير كاف؟ الجواب تجده في الجملة الأخيرة التي قلتها لك توا قبل هذا السؤال. لقد كنت أنتظر مبالغ أكبر، خاصة أن هناك خطابا ملكيا منذ 2009.. طبعا فالذي يقرر هو جملة من المتدخلين على ضوء معطيات واعتبارات عديدة تصلح لتبرير حجم الزيادات، وحتى لإبرازها كتضحية في هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للمغرب والمغاربة، وذلك إذا نظرنا إلى المسألة بمنظور الأمر الواقع والبنية الاقتصادية والسياسية للبلاد... ولكنني أتساءل: لماذا لا تقرر علاوات للقضاة بناء على معايير، كما يحصل في وزارة المالية، مع ربطها بحصيلة المحاكم وبأداء القضاة وعبء العمل؟ لماذا لا توزع أراض لبناء إقامات سكنية وتعطى قروض ميسرة؟ لماذا نعطي لمستثمرين كبارا في قطاع العقار أراضي شاسعة بأثمان رمزية ضدا على المنافسة، ولا نعطي ذلك للقضاة ولعدد من موظفي ومستخدمي القطاعات مادامت البنية الجامدة للميزانية لا تسمح بتحسين أجورهم؟
{ وماذا عن الخلاف بين الوزير وجمعية هيئات المحامين بالمغرب؟ لقد ساهم معنا النقيب حسن وهبي، رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب، في أغلب جلسات الحوار، وكانت له مساهمات محمودة في مختلف جوانب الإصلاح ودفاعا عن المهنة. وأنا شخصيا فوجئت بما آلت إليه العلاقة بين النقيب والجمعية من جهة والوزير من جهة ثانية، وبالمواقف التي ترفض الميثاق جملة وتفصيلا رغم أنه جاء نتيجة مشاورات ونقاشات واسعة وعميقة، كما أنه فعل هيئة بأكملها وليس إنتاجا خاصا للوزير الذي كان في عدد من المواقف في وضع أقلية، واتبعت للوصول إلى الميثاق منهجية محكمة ووسائل فكرية ومعطيات ومساهمات يصعب أن تتوفر لأي هيئة مهنية أو هيئة خبراء بمفردها، وإن بقيت فيه نقط ضعف أو نواقص، فهي مجال للترافع وحتى للصراع السلمي، لأن الأمر يتعلق، في عدد من الجوانب، بمصالح بعضها يتشبث بما هو واقع، وبعضها يريد التغيير، ويجب أن تكون الغلبة للدستور الذي يعد متقدما جدا في مجال إصلاح العدالة في إطار احترام المعايير الدولية التي ينبغي أن تسود في دولة ديمقراطية، والكلمة الأخيرة تبقى للبرلمان في مجال التشريع ولكيفية تعبئة واستخدام الموارد بالنسبة إلى أمور لا تتعلق بالتشريع، ويجب أن يتعبأ الفاعلون في كل محطة وبالنسبة إلى أي مشروع لتحسينه، ولكن على أسس واقعية ومنطقية، وتقديم مقترحات مدروسة يصعب دحضها...
{ تفجر خلاف بين الوزير وبين جمعية هيئات المحامين حول مرسوم المساعدة القضائية، ما رأيكم في ذلك؟ يجب توضيح أن هذا الأمر لا علاقة له بالميثاق، وطرأ قبل المصادقة عليه. لقد جاء الاعتراض على المرسوم أساسا في ثلاث نقط: أولا أن الأتعاب المستحقة للمحامين ستؤديها الخزينة العامة للدولة وليس الهيئات، وثانيا أن المرسوم سيصبح مرجعا لتحديد أتعاب المحامين من طرف القضاء في حالة النزاع حولها. ثالثا، أن المبالغ المقترحة هزيلة ولم يتم الاتفاق عليها مع الوزير. لقد أجاب الوزير، في إحدى جلسات البرلمان، بما مفاده أن قانون المحاماة هو الذي ينص على وجوب أداء مبالغ الأتعاب من الخزينة، وأن مرسوما صدر بدون هذه الشروط قبل مجيئه رفضته وزارة المالية، وأنه تم الاتفاق بين الوزارة وجمعية هيئات المحامين على المبالغ، وأن المرسوم ليس مرجعا للأتعاب حتى بالنسبة إلى المساعدة القضائية في حال كون المتمتع بالمساعدة القضائية قد استفاد ماديا، فالمحامي سيستفيد من أتعاب إضافية يحددها النقيب في حالة النزاع... أي الفريقين على صواب؟ في جميع الحالات، المرسوم قد ألغي، علما بأن تخوف المحامين من مسألة المبالغ كمرجع قد تكون في محلها، فالوزير لا يمكنه فرض أي تفسير على القضاة إلا إذ كان المرسوم دقيقا غاية الدقة ولا يترك مجالا للتأويل. وحسب علمي، فالمساعدة القضائية يقدمها المحامون مجانا بصفة يومية في المحاكم في القضايا الجنائية، ولا أدري هل تؤدى لهم تعويضات... كما أنني لست متأكدا من جودتها في عدد من الحالات، فالمال مهماز للعمل وأساس للمحاسبة...
{ بالنسبة إلى الميثاق حول إصلاح العدالة، خرج عدد مهم من المحامين ضده فما هي مآخذهم عليه؟ من حق المحامين إبداء وجهة نظرهم في الميثاق وانتقاد ما يرونه من نقص، وأن يعبروا بالطريقة التي يختارونها، ولكني أرى أنه يجب دراسة الميثاق، وتحديد الجوانب التي لا يوافقون عليها بالضبط، وماذا يقترحون... وحسب ما فهمت، فقد ركزوا على القضايا المرتبطة بالمهنة، ورأوا أن بعض الجوانب فيها تراجع بالنسبة إلى الوضع الحالي ومنها، مثلا، مسألة حضور الوكيل العام للملك أو من يمثله المجلس التأديبي للمحامين دون أن يشارك في المداولات واتخاذ القرار... ولكن ذلك تم مقابل إحداث هيئة قضائية بمحاكم الاستئناف تتكون من ثلاثة قضاة ومحاميين اثنين يمثلان المحامين للبت في الطعون المقدمة ضد القرارات التأديبية، مع تخويل الهيئة المذكورة حق التصدي... فالتأديب اليوم يلعب فيه الوكيل العام دورا مهما، إذ يمكنه الطعن في قرارات الهيئات وإحالة الأمر على غرفة المشورة دون أن يكون فيها ممثل للمحامين. وربما توجد اعتراضات أيضا على اقتراح مراجعة المقتضيات المتعلقة بودائع المتعاملين مع المهن القضائية في اتجاه حمايتها وتحصينها، وأنا أرى اليوم أنها محصنة ولا تتطلب أكثر من صرامة النقباء لتطبيق القانون بالحزم والسرعة اللازمين إزاء من يخرقه... وقد توجد اعتراضات على اقتراح إحداث مجلس وطني لهيئات المحامين من ضمن مهامه وضع التصورات العامة للتكوين الأساس والمستمر، ووضع نظام داخلي موحد لهيئات المحامين، ويكون المجلس محاورا للسلطات بخصوص قانون المهنة ومسائلها، كما يقوم باستئناف القرارات التأديبية، ويسهر على تنظيم أمور التقاعد والتغطية الصحية والجوانب الاجتماعية وعلى وضع مدونة سلوك للمهنة. وهنا يجب اقتراح إصلاح أفضل إذا أردنا الاحتفاظ بالهياكل الحالية مع تحسينها... وقد توجد اعتراضات على اقتراح مراجعة طريقة ومدة انتخاب النقيب وأعضاء مجلس الهيئة، وخاصة حصر مدة انتخاب النقيب في ولاية واحدة غير قابلة للتجديد، وهو اقتراح يستهدف فتح المجال للتداول حول المسؤولية ووضع حد لبعض الممارسات التي يتناوب فيها نقباء على المنصب في بعض الهيئات سنين طويلة. وربما يمكن تحسين هذا الاقتراح باقتراح إمكانية تجديد الثقة في النقيب مرة واحدة حتى نتيح لبعض النقباء الاستمرارية خاصة المصلحين منهم...
{ وماذا عن المفسدين؟ لست ممن ينصر أخاه ظالما أو مظلوما، ولكنني أرى أنه يحق هنا القول «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، فعندما عينت بالهيئة العليا جلست مع الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي طالبا رأيه، فقال لي ما مفاده أن إصلاح العدالة يتوقف كثيرا على دور المحامين، وفهمت منه أنه يمكن لممارسة مهنية راقية أن تلعب دورا كبيرا في الإصلاح... لقد لعب المحامون أدوارا رائدة في الدفاع عن الحقوق وعن التطور الديمقراطي للبلاد، ولكن دورهم تراجع اليوم لاعتبارات عديدة لا مجال لعرضها... غير أنه يمكنهم دوما استرجاع دورهم الطليعي في هذه المجالات، وأن يسهموا في تحسين وتفعيل مقترحات ميثاق إصلاح العدالة في كل نقطة وكل اقتراح، سواء تعلق الأمر بفعالية العدالة أو العدالة الجنائية، أو إصلاح مختلف المهن، أو محاربة الرشوة، أو تكوين الأجيال الجديدة مهنيا وإعطاء القدوة في النزاهة والاستقامة والشجاعة...
{ كان بالهيئة العليا عدد من المحامين ألم يدافعوا عن المهنة؟ لقد دافعوا عن المهنة بشكل موضوعي، وكان تصورهم أنهم هناك للمساهمة في إصلاح شامل لا كطائفة مهنية، فهم لم ينتدبهم المحامون بل شارك أغلبهم كأشخاص -باستثناء النقيب حسن وهبي رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب- وبعضهم شارك كرئيس جمعية متخصصة أو كممثل مؤسسة كحالة النقيب عبد العزيز بنزاكور وسيط المملكة، الذي مازلت أتذكر مرافعته الرائعة دفاعا عن المحامين عندما اعتقد بعض أعضاء الهيئة عن خطأ أن المحامين فوق المساءلة ويتمتعون بحصانة مطلقة في ما يصدر عنهم من أقوال. وطبعا لكل واحد موقفه من الاقتراحات الخاصة بالمحامين والمهنة، ولكنهم عموما دافعوا عن المهنة مع أنهم يقبلون بالانتقادات إذا كانت غير متحاملة، ففي مهنة المحاماة، كغيرها من المهن، توجد ممارسات غير لائقة تستحق التقويم...
{ تعطل إحداث مؤسسة تكوين المحامين رغم التنصيص عليها منذ قانون المهنة في 1993؟ ذلك صحيح، وهو مسؤولية الدولة منذ عشرين سنة، ويربط البعض تباطؤ المعهد في قضية التمويل بموقف وزارة المالية التي قالت إن هذه مهنة حرة على أصحابها أن يتولوا التكوين فيها، وأنه لا توجد ميزانية لذلك... لكن هذا موقف غير سليم، فالذي سيستفيد من تكوين جيد للمحامين هو العدالة والقضاة والمتقاضون، فكم يستفيد القضاة من المذكرات الممتازة التي تساعد في تكوينهم وفي إنتاج أحكام جيدة، ومثلما تستثمر الدولة في تكوين القضاة يجب أن تستثمر في تكوين المحامين، خاصة الجدد منهم، ذلك أن هذا التكوين يبدأ قبل ممارسة المحاماة كمهنة حرة، وقبل أن يتوفر هؤلاء المحامون الجدد على مداخيل للتكوين المستمر الذي يعد أساسيا في هذه المهنة. ثم إن النقابات تسهم كثيرا اليوم في تطور المهنة بفضل تطوع عدد من المحامين في تكوين زملائهم الشباب ولكن ذلك ليس كافيا ويحتاج إلى موارد... ولحل المشكل المالي يمكن اقتراح صيغة تعاون بين هيئات المحامين والدولة: الدولة تنشئ المعهد وتنفق على إدارته، والمحامون يشاركون في تسييره ويوفرون من بينهم أساتذة للتكوين إلى جانب القضاة، ويتمتعون بتعويض معقول يؤدى بمساهمة الدولة والنقابات المهنية، ومساهمة رمزية للمتكونين ضمانا للجدية والحضور، علما بأن تكوين المحامين والقضاة يحب أن يعالج جذور معضلة التكوين بالجامعة المغربية، خاصة في كليات الحقوق التي كونت في الماضي جزءا كبيرا من النخبة الحالية، وكنت طالبا بها ثم أستاذا لمدة ربع قرن، والتي تحتضر اليوم بعد أن صار التكوين في مواد رئيسة يتم في شهرين دون تأطير جدي وكاف يتطلب عددا مهما من الأساتذة ومن المحامين والقضاة... وهنا أيضا يمكن اقتراح مساهمة الفئات المتوسطة والميسورة في تمويل تعليم عالٍ عمومي جيد مع إعفاء الفئات الفقيرة، لاسيما أن العديد من الآباء يدفعون مبالغ باهظة ويضحون بجزء كبير من مداخيلهم لأداء رسوم أبنائهم في التعليم العالي بالمغرب وبالخارج. وهم بلا شك في أغلبهم سيقبلون أداء رسوم معقولة مقابل تعليم عال جيد، ولن تمثل ولو 10 في المائة مما يدفعونه اليوم في التعليم العالي الخاص. ولا يجب على العقلاء أن يناهضوا ذلك باسم مجانية التعليم العالي فهذه المجانية ستبقى مضمونة للفقراء مع مساهمة تضامنية للآخرين، تسمح بتمويل يحسن جودة التعليم فيربح الجميع، بخلاف اليوم حيث يخسر الفقراء ويتكبد الآخرون مبالغ لا تناسب دوما ما يتلقونه من تعليم في عدد من المؤسسات بالمغرب وبالخارج...
{ أسندت مسودة القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الطعن في المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية للقضاة الصادرة عن هذا المجلس إلى الغرفة الإدارية بمحكمة النقض، لم لا يتم إسنادها إلى محكمة إدارية عليا، كمجلس الدولة الذي ورد في خطاب ملكي منذ 1999؟ هذه من الأمور التي كان فيها نقاش مهم داخل الهيئة العليا، وكان المرحوم التراب إلى جانب الأعضاء المترافعين عن هذه الأطروحة بالهيئة العليا، ومنهم المحامون، مقابل رأي آخر دافع عن استمرار الوضع الحالي، ورأى أن الوقت لم يحن بعد لهذا الإصلاح الذي في الحقيقة يعطي ضمانة أحسن لجميع القضاة في حالة الطعن. وربما توجد جهات خارج القضاء أيضا لا تحبذ هذا التوجه، وأقصد الأمانة العامة للحكومة التي قد تفقد مهمة المستشار القانوني للحكومة التي يضطلع بها عادة مجلس الدولة، علما أن الأمانة العامة للحكومة في تاريخ المغرب لعبت دورا يتجاوز بكثير مهمتها في نظام ديمقراطي كالنظام الفرنسي الذي أخذنا عنه، حيث لعبت عندنا دور الرقيب السياسي المحافظ. ولا أدري إن كانت مازالت تمارس هذا الدور الذي -إلى جانب عيوب ديمقراطيتنا الأخرى- جعل المغرب يتخلف بعشر إلى عشرين سنة عن الإصلاحات التشريعية الديمقراطية والحقوقية الكبرى.
{ صدر مؤخرا بيان إخباري بشأن تأسيس «النسيج المدني للدفاع عن استقلال السلطة القضائية»، وجه انتقادات شديدة إلى مشروعي القانونين التنظيميين حول المجلس الأعلى للسلطة القضائية وحول النظام الأساس للقضاة. ما تعليقكم على ذلك؟ لقد حضرت بالصدفة اللقاء الذي سيصدر عنه البلاغ الإخباري عندما أخبرني الأستاذ أحمد مفيد بأن النقاش سينصب حول مسودة المشروعين، فرغبت في الحضور للاستفادة من النقاش وتنوير بعض الجوانب إذا تطلب الأمر ذلك. وقد لقيت ترحيبا واستمعت باهتمام إلى مختلف الآراء، كما تم الاستماع باهتمام إلى وجهة نظري، وكان النقاش غنيا، وإن اختلفت مع عدد من التقييمات التي تمت. لقد أوضحت في اللقاء، وأوضح الآن، أن المشروعين لم يناقشا داخل الهيئة العليا وإنما بين الوزارة وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء. ولعل بعض مواقفنا كمحامين -وأقصد بصفة خاصة موقفي رفقة النقيب الجامعي من بعض النقط التي ستدمج في المشروعين، خاصة كيفية تعيين رئيس محكمة النقض والوكيل العام للملك بها، والتي دافعنا داخل الهيئة عن أن تكون من اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية مع موافقة الملك بظهير على التعيين طبقا للفصل 57 من الدستور- ربما جعلت أعضاء من المجلس الأعلى للقضاء (الأعضاء أيضا بالهيئة العليا) يتحفظون على مشاركتنا في صياغة المسودة، أو أنهم يعتبرون أن موضوع القانونين يحب ألا يفتح أمام الجميع رغم أن الدستور نفسه فتح المجلس الأعلى للسلطة القضائية في وجه أشخاص من غير القضاة. ورغم ذلك فلا يمكنني أن أتفق مع التقييم الذي سمعته من بعض المتدخلين في ذلك اللقاء، والذي يعتبر المشروعين سيئين وكلهما تراجعات... وأن وزارة العدل مازالت مهيمنة فيهما، وأنها يجب أن ترفع يدها عن تدبير شؤون المحاكم والموظفين... ذلك لأن القضاء مرفق عمومي متعدد الأبعاد، تعد مسؤولية حسن سيره واستمراريته وجودته مسؤولية الحكومة التي ستحاسب عليها، كل ذلك مع احترام وتوفير شروط استقلال القضاء الذي يعد أحد الأبعاد المهمة، ولا يستطيع المجلس الأعلى للسلطة القضائية لوحده النهوض بكل جوانب المرفق العمومي للقضاء. ولأن الموظفين جزء من الإدارة التي هي أداة للحكومة كسلطة تنفيذية بموجب الدستور، ثم إن المسودين تسندان إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية اختصاصات مهمة جدا منظمة بكثير من المواد (من المادة 63 إلى المادة 108) إلى جانب السلطات المهمة للرئيس المنتدب، بما في ذلك مثلا اقتراح تعيين المفتش العام على الملك بعد التشاور مع الأعضاء... وفي الوقت نفسه لا أتفق مع العديد من مقتضيات المسودتين، كتلك التي تقيد حق القضاة في تأسيس الجمعيات (المسودة المتعلقة بالنظام الأساسي للقضاة)، وتضع جملة شروط تتعلق بجهة التصريح واشتراط عدد من الأعضاء في عدد من دوائر محاكم الاستئناف، وموافاة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بلائحة محينة بأسماء المنخرطين...