بقلم: الحسن مصباح إن حجم وطبيعة ردود فعل التي صاحبت مقالة الأستاذ امحمد جبرون حول "حزب العدالة والتنمية ومواجهة التحكم"، والتي اتسمت في الكثير منها بعنف لفظي، تدفع للتساؤل عن مبررات القصف الذي تعرضت له المقالة الجبرونية من بعض قيادات حزب العدالة والتنمية وجملة من مناضليه، لاسيما وأنه لا يمكن إدراجها ضمن خطاب الكراهية الذي يتعرض له الحزب في الآونة الأخيرة. ما المثير في أطروحة جبرون ليتم التصدي لها بعنف؟ وما هي المبررات/العوائق التي حالت دون تلقي إيجابي لما تضمنته هذه المقالة من رسائل؟ إن قراءة متأنية لمضمون المقالة الجبرونية وتفكيك ما بدا لي أنه الرسالة الأساسية فيها، ستسمح لنا بالتقاط بعض خلفيات هذه الردود العنيفة التي شكلت عوائق أمام تعامل متزن مع مضمون الرسالة، والتي أجهضت بالتالي أن تشكل هذه المقالة حدثا إيجابيا ضمن الساحة الفكرية والسياسية الإسلامية. جوهر الرسالة الجبرونية إلى من يهمه الأمر جوهر الرسالة التي حملها خطاب امحمد جبرون إلى قيادة حزب العدالة والتنمية، أن المعركة التي يخوضها الحزب حاليا ضد ما اصطلح عليه بالتحكم تجعله في مواجهة مباشرة مع المؤسسة الملكية، لكون التحكم جزء من طبيعة هذه المؤسسة، وأن التجربة الحديثة للمغرب تبين أن كل من دخل في أتون هذا الصراع سيخرج خاوي الوفاض من هذه المعركة أمام هذه المؤسسة العتيدة، كما يشهد بذلك تاريخ الحركة الوطنية، وأن منطق الصراع هذا، يتنافى وميراث الحزب وبالأخص زعيمه عبد الإله بنكيران. بل إن الكاتب يُراهن على حزب العدالة للمساهمة في حل معضلة الاستقرار السياسي للبلاد، لما يعتبره مؤهلات ثقافية وسياسية يتميز بها هذا الحزب الفتي. وأن هذا الحل يكمن في الانتقال من أرضية الصراع السياسي إلى أرضية جديدة للتلاقي مع المؤسسة الملكية، وهي الأرضية الاقتصادية التنموية التي يسعى القصر نفسه للبناء عليها لتمتين أسس شرعيته. هذه الأرضية هي تفعيل للمقتضى الثاني من مسمى الحزب أي التنمية. هذا هو جوهر الرسالة الجبرونية والباقي تفاصيل يمكن تجاوزها وغض الطرف عنها لاسيما من العداليين (نسبة لحزب العدالة والتنمية) الذين يعنيهم أمر هذه الرسالة. إذا كانت هذه رسالة جبرون لحل المعضلة المغربية (معضلة الاستقرار السياسي) فما الذي جعلها تلقى صدودا من طرف إيديولوجيي الحزب ومناضليه، لاسيما وأنها لا تحمل نفسا معاديا لهذه التجربة السياسية للحزب بل بالعكس من ذلك تحمل في طياتها غيرة على هذه التجربة، وتعقد آمالا عليها في المساهمة في الانتقال بالمغرب إلى مربع الأمان إن هي استوعبت ما اعتبره جبرون عمق المعضلة المغربية. العوائق الأربع لتلقي الرسالة الجبرونية أعتقد أن جملة من العوائق الذاتية والموضوعية ساهمت في إجهاض النقاش الموضوعي وتحريفه عن المسارات التي كان من الواجب أن يسلكها لاسيما من طرف العداليين(البيجيديين) الذين يهمهم الأمر بالدرجة الأولى. بل نجد من خارج هذه الدائرة من كان أكثر إنصافا للكاتب (حسن طارق وعبد الحميد جماهري الذي كان أكثر وعيا بالإشكالية التي طرحها جبرون). هذه العوائق يمكن إجمال أهمها في ما يلي: 1. توقيت المقالة توقيت المقالة الجبرونية المتأخر الذي جاء بعد انطلاق المعركة السياسية المرتبطة بالانتخابات التشريعية ألقى بظلاله على الكثير من المواقف العدالية، ووقف حاجزا أمام التعامل الإيجابي مع مضمونها. لا يمكن لقيادة الحزب في هذه اللحظة وقد حددت استراتيجيتها المرحلية ومفردات خطابها أن تعيد النظر فيها وهي في عز المعركة (ما كان لنبي إذا لبس لأمته للحرب أن يخلعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه). واجب الوقت بالنسبة لمن هو غارق في أتون المعركة هو النصرة لا النصح والمحاسبة. ولسان حال الحزب يقول أن ما سينتج عن هذه المعركة من نتائج هو الذي سيحدد المصائر. وهذا ما لا يقبل به القصر الذي تعود على ضبط استباقي لقواعد المعركة ونتائجها. 2. الفصل المتوهم/الموهم بين الملك والمؤسسة الملكية. إن القول بأن مصدر الشر (التحكم) ليس هو الملك وإنما "مراكز نفوذ تحتل مكانة قريبة من المؤسسة الملكية وتتمتع بهذا الامتياز لتمارس مهامها في الوساطة مع المؤسسات. غير أن هذه الوساطة قد تنزاح في كثير من الأحيان عن وظيفتها الأصلية لترسم لها أجندات خاصة." (عبد العلي حامي الدين)، يبتغي تجنب الصراع مع المؤسسة الملكية عبر نسبة التحكم إلى الأدوات التي تتجاوز المطلوب منها. إن المؤسسة الملكية هي حصيلة تفاعل مكوناتها حيث يلعب الملك دور الرأس فيها لكنه لا يمكن فصله عن المحيط والأدوات بتفاهماته وصراعاته. وبالتالي فإن الصراع مع المحيط الملكي أو مع أدواته هو حتما صراع مع المؤسسة الملكية. وهو صراع إذا أراد الحزب أن يختار طريقه فعليه أن يعي تبعات ذلك، وهو حتما ما لا يريده ولا يسعى له. لكنه يجب أن يخرج من وهم الفصل بين الملك ومحيطه. فالخرجات المتكررة للملك محمد السادس بصحبة الهمة، أو إفطاره في رمضان عند أخنوش هي إشارة رمزية دالة للعموم. كما أن الدعم السياسي الذي تتلقاه جهة طنجة في شخص رئيسها إلياس العماري من خلال محطات عدة (آخرها مرافقة الملك في زيارته للصين) دليل واضح أن رمز التحكم ليس غريبا عن المؤسسة الملكية. 3. تجذر الثقافة الاحتجاجية إن حزب العدالة والتنمية الذي انبثق من رحم حركة التوحيد والإصلاح ظل أسير أنموذج الإصلاح المشبع بالروح النقدية وبالنفس الاحتجاجي مع خلفية دعوية أسستها ثقافة سلفية. إن المشكلة لا تتعلق بمفهوم الإصلاح وإنما بالإطار النفسي والفكري الصراعي الذي ترعرع ضمنه هذا المفهوم. وإذا لم يكن هذا التيار هو المسؤول عن خلق هذا الجو المشحون بالصراع وإنما ورثه من واقع سياسي ومجتمعي مأزوم ناشئ قبل ولوجه مسرح العمل الدعوي والسياسي، فإنه مسؤول عن تكريسه بانغماسه في هذا الجو وعدم قدرته على التحرر من براثنه. وقد وجد الحزب في خطاب مواجهة التحكم ضالته المنشودة التي يغذي بها النفس الاحتجاجي/الصراعي. 4. ميراث الحركة الوطنية حينما ولج الإسلاميون المشهد السياسي وجدوه شبه مقسم بين ما يسمى بأحزاب الحركة الوطنية وما يسمى بالأحزاب الإدارية. وبالطبع نتيجة الروح والنفس النضالي الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة وجد نفسه مصطفا مع أحزاب الحركة الوطنية بل سعى لإيجاد موقع له ضمنها. وقد ورث بدون وعي ولا اختيار منه ميراثها الاحترازي إن لم يكن الصراعي مع مؤسسة الحكم باصطفافه مع المكون الوطني. كان بالإمكان أن يجد الحزب لنفسه موقعا خارج الدائرتين المتصارعتين. بالطبع لم يختر هو الصراع من ذاته بل جرّ إليه جرا (البام صنع خصيصا لضرب العدالة والتنمية) لكنه لم يستطع التفلت منه. ومن هنا تأتي أهمية أطروحة جبرون الداعية إلى الخروج من دائرة التدافع السياسي (أطروحة الانتقال/النضال/البناء الديمقراطي) إلى دائرة التفاعل الإيجابي مع المؤسسة الملكية على أرضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما عبرنا عنه سابقا بتفعيل البعد الثاني من مسمى الحزب (التنمية). والحزب مؤهل لأداء هذا الدور وذلك ما تشهد به إنجازات الحكومة التي يترأسها على المستوى الاقتصادي من خلال الإصلاحات الهيكلية الكبرى (إصلاح صندوق المقاصة وصندوق التقاعد والقضاء وعقلنة المشهد الاحتجاجي (الإضرابات العشوائية التي كانت تعرفها بعض القطاعات). والسؤال هنا ما الذي يمنع الحزب أن يختط طريقا خاصا به؟. إن في ميراث الحزب السياسي والمرجعي ما يسمح له ببناء علاقات متوازنة مع أطراف المعادلة السياسية في البلاد وذلك عبر بناء خط ثالث ضمن المشهد السياسي المغربي خارج إطار الصراع والموالاة. وللحزب من المؤهلات الفكرية والسياسية ما يمكنه من إنجاز هذه المهمة شرط تحرير كفاءاته العلمية والفكرية من ضغط إكراهات المسؤوليات التنظيمية والسياسية المباشرة. وهذا هو رهان المقالة الجبرونية في حديثها عن المؤهلات الثقافية للحزب. وأخيرا فإن هذه الأفكار التي أضعها بين يدي القراء لا تهدف إلى الانتصار لطرف على حساب الآخر، وإنما تسعى لفهم سياقات النقاش الذي صاحب أطروحة جبرون في فهم المعضلة المغربية. وما قد يبدو للبعض أنه انتصار للأطروحة الجبرونية في بعض مقاطع المقالة هذه فهي مما فرضه سياق القول وواجب الوقت الذي يتطلب نصرة خط الإصلاح بمنطق العقل لا العاطفة. والله من وراء القصد.