دخلت القاهرة مساء الجمعة 5 يوليوز 2013. أحمل حقيبة في الظهر وفكرة في الرأس: الجماهير التي خرجت لإسقاط مبارك تخرج الآن لإسقاط مرسي. هي ثورة لتصحيح ثورة. هذه الفكرة التي طبعت أولى تغطياتي للأحداث لم تصمد كثيرا أمام حجم الدلائل التي كانت تصفعني في الشوارع والميادين والأخبار. ما تشهده مصر «انقلاب شعبي». هكذا كتبت غير متحرج من موقفي السابق أو من حساسيتي اليسارية التي أوقعت العديد من «الديمقراطيين» في مواقفَ غير ديمقراطية، ليس حبًّا في السيسي بل نكاية في الإسلاميين. ما قيمة الانتماء إلى وعي يساري (أخلاقي عقلاني) إن لم يكن وعيا نقديا؟ في ميدان رابعة العدوية، خطب محمد بديع، في أول جمعة بعد الانقلاب، وسط هتافات المعتصمين. جيء به في سيارة إسعاف. خصومه قالوا إن مرشد الإخوان جاء متخفيا في خِمار امرأة. كان أول حوار أجريته في «رابعة» مع الداعية الإخواني صلاح الدين سلطان، ثالثنا كان صحافي «الجزيرة» أحمد منصور. رأيته يرافق سلطان كظله، قبل أن يأخذ الكلمة، خطيبا موجّها في الندوة الصحافية التي أعقبت «مجزرة دار الحرس الجمهوري»، مساء الاثنين 8 يوليوز 2013. بعد انتهاء الندوة سيقول لي سلطان: «السيسي قاتل، والجيش الذي لم يحارب في الخارج لا بد له أن يحارب في الداخل». وبسخرية مرّة أضاف: «الجيش المصري يصدق عليه قول الشاعر: أسد عليَّ وفي الحُروب نعامةٌ». كنا في أولى أيام الانقلاب. الكل يبحث عن رأس الخيط، حين التفت إلي صلاح سلطان، وبوثوق قال: «محمد بن زايد بن سلطان آل نهيان (ولي عهد إمارة أبوظبي) هو صاحب الإمداد الأكبر، وأنا أتوفر في هاتفي على الخطة الكاملة التي أشرف عليها محمد بن زايد لعزل الرئيس مرسي. الإمارات دفعت مليارا ونصف المليار من الدولارات من أجل هذا الانقلاب على النظام الشرعي، كما دفعت مليارا ونصف مليار آخر للضباط والقادة الذين قاموا بهذا الانقلاب». زوال الأربعاء 10 يوليوز، أول أيام رمضان 2013. الشمس في كبد السماء، و«الإخوان» في قلب «الميدان» محاطين بكبرى البنايات العسكرية التي تمتد على جانبي الشارع المؤدي إلى مسجد رابعة العدوية، بدءاً من المنصة التي اغتيل فيها الرئيس أنور السادات سنة 1981 على يد جندي إسلامي، مرورا بمقر المخابرات العسكرية التي كان يرأسها عبد الفتاح السيسي، قبل أن يعينه الرئيس مرسي قائدا عاما للقوات المسلحة المصرية، وصولا إلى دار الحرس الجمهوري التي كانت شاهدة فجر الاثنين يوليوز 2013 على سقوط أزيد من مائة من أنصار «الشرعية». التقيت صفوت حجازي، محشورا في سروال جينز وقميص متهدل، زاهدا في أناقته المعتادة. في «رابعة» استعاد الدكتور صفوت دوره كأمين عام لمجلس أمناء الثورة الذي تشكل عقب ثورة 25 يناير 2011 في ميدان التحرير. توجه إلى شاب فارع الطول، وهو يشير بأصبعه إلى كومة أزبال: «إيه يا حاج إبراهيم.. أنا معرفش حدّ مسؤول عن النظافة إلا أنت». امتثل «الحاج» إبراهيم: «أيوا يا ريّس.. حاضر يا فندم». داخل المركز الإعلامي (خيمة خلف منصة «رابعة») قال لي حجازي: «دول الخليج تخشى أن تكون الثورة المصرية ملهمة لشباب بلدانها.. كما أن التقارب المصري الإيراني أخافها». بإحدى قاعات مسجد رابعة العدوية، التقيت الدكتور محمد البلتاجي محاطا بصحافيين من العالم. كان يرافقني نجله عمّار، فسألته عن شبيبة الإخوان. أجاب: «أنا لست إخوانيا، لكنني أدعم الشرعية». وأنا في طريقي إلى الدكتور البلتاجي، كنت قد التقطت أنباءً عن وجود وساطات بين الإخوان والعسكر، سألت عنها القيادي الإخواني فقال: «ربما خرجت محاولات من مثل الدكتور سليم العوا، وفهمي هويدي، لكنني لا أدري تفاصيل ما وصلت إليه.. الخطوة الأولى لإعلان حسن النوايا هي وقف الانقلاب وإلغاء ما ترتب عليه من آثار». لم يتوقف الانقلاب عند عزل الرئيس المنتخب، بل نكّل واعتقل وقتل ورمّل المصريين الذين وثقوا والذين توجّسوا في الابتسامة الرعديدة للجنرال الدموي. قبل مغادرتي مصر بيوم واحد، التقيت الروائي المصري علاء الأسواني، كان اللقاء على هامش ندوة ألقاها في أحد مراكز منطقة «المقطم». لم يذّخر الأسواني جهدا للتأكيد، لمن يحتاج إلى تأكيد من جمهوره، بأن ما حدث في مصر ليس انقلابا. بعد نهاية الندوة تقصّدت أن أسأله: ألا ترى أن الدعم الخليجي الذي تدفق على مصر بعد عزل الرئيس مرسي دليل على وجود أياد خارجية في ما حدث؟ أجاب: «هذه كلها أكاذيب، فمن الطبيعي عندما تكون مصر في حالة اقتصادية صعبة أن يبادر الإخوة الأشقاء إلى مساعدتها كما فعلوا دائما». أحسست بنوع من السعادة والحزن وأنا أرى الكاتب اليساري-الليبرالي يتأتئ بكلمات غارقة في النفاق والرياء السياسي عن «الأشقاء» الخليجيين. قذفته بابتسامة حبلى بالمعاني وغادرت. في غشت 2014، حاورت الروائي المصري الكبير، صنع الله إبراهيم، في طنجة. كنت أعرف أن صاحب «تلك الرائحة» يحمل نفس «كره» زميله الأسواني للإخوان، كره غارق في ميكيافيلية تبرر كل ما من شأنه إقصاء الإخوان. سألته: ألا ترى أن مواقف عدد من المثقفين اليساريين والليبراليين نابعة من موقف نفسي، سابق وثابت، من الإخوان المسلمين، وليس بناء على معطيات موضوعية، وأن هؤلاء المثقفين اليساريين والليبراليين، في كل الأحوال، كانوا سيرفضون حكم الإخوان لا لشيء سوى لأنهم إخوان؟ بعد انتهاء الحوار التفت صنع الله إبراهيم إلى صديقتنا المشتركة الشاعرة وداد بنموسى وقال: «يا وداد.. هذا يساري؟ هذا إخواني، وإخواني مستفز».