بعد عشرة أيام من التفكير والتأمل وتقليب الرأي على أوجه عدة، قررت وزارة العدل التحرك تلقائيا ومتابعة الشيخ المتطرف أبو النعيم بتهمة إهانة هيئات منظمة وفق ما جاء في الفصل 265 من القانون الجنائي ونصه: «إهانة الهيئات المنظمة يعاقب عليها طبقا لأحكام الفقرتين الأولى والثالثة من الفصل 263». وهذا الفصل ينص على معاقبة من يهين هيئة منظمة بالحبس من شهر إلى سنة، وغرامة من مائتين وخمسين إلى خمسة آلاف درهم. واضح أن القانون الجنائي لا توجد فيه نصوص صريحة تجرم التكفير، ولهذا جرى اللجوء إلى نص عام ينص على إهانة هيئة منظمة، والمقصود أربع هيئات تعرض لها الشيخ السلفي في أشرطته النارية وهي: حزب الاتحاد الاشتراكي ووزارة الأوقاف والرابطة المحمدية للعلماء والمجلس العلمي الأعلى. إذن، أول الأمور التي يجب التفكير فيها عاجلا من قبل البرلمان والحكومة هو تجريم التكفير في هذه البلاد السعيدة، ووضع نصوص خاصة له، واعتباره عملا من أعمال التحريض على القتل، وذلك لسد هذا الباب الذي سيدخل منه للأسف كثيرون في المقبل من الأيام، خاصة أن نار الفتنة «التكفيرية» منتشرة بقوة في محيطنا الإقليمي والدولي، علاوة على أن النيت أصبح مملوءا بأعشاش المتطرفين الذين يصدمهم الواقع المعقد للعلاقات الدولية، والظلم المحيط بهم، وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولا يتصورون أن هناك حلولا للمشاكل الكبيرة التي تغرق فيها البلاد العربية غير الرجوع إلى كتب التراث، واستيراد فتاوى الإخراج من الملة... ويكونون كمن يداوي بالتي كانت هي الداء. الاختلاف في الرأي حول الدين والدنيا لا يعطي أحدا الحق في تكفير الآخر، وإذا سمحنا باستعمال سلاح الدمار الشامل هذا، فإننا نفتح باب جهنم، ولن يقدر أحد غدا أن يسده. من حق التيار المحافظ أن يعبر عن رأيه، وأن يخوض معارك فكرية وإيديولوجية ضد اليساريين والليبراليين والعلمانيين، متطرفين ومعتدلين، لكن بالقلم لا بالسيف، بالكلمة لا بالقنبلة، في صندوق الاقتراع لا في ساحات القتل، بالتفكير لا بالتكفير... هل يتصور أبو النعيم أنه أكثر إيمانا وخوفا على الدين من رجل وامرأة الشارع؟ إذا كان هؤلاء يعتبرون أن ما قاله لشكر يمس دينهم، سيعاقبونه غدا في الصندوق يوم الاقتراع، وحينها سيدفع ثمنا كبيرا لأنه لم يحسن إدارة معركته السياسية ضد خصومه. ليس سهلا على وزارة العدل، التي يقودها وزير إسلامي هو مصطفى الرميد، أن تتخذ قرار متابعة أبو النعيم في بلاد محافظة وفكرها الديني الرسمي جامد جدا، كلنا يتذكر الفتوى المثيرة للجدل التي نشرها المجلس العلمي الأعلى قبل أشهر والتي زكى فيها «حكم إقامة الحد على المرتد»، وهذا نص الفتوى الرسمية بالحرف: «شرع الإسلام ينظر إلى حرية العقيدة بمنظور آخر، ويدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقده وتديّنه، ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم، التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك بالخروج عن دينه وتعاقده الاجتماعي، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة، ويقتضي دعوته إلى الرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجبت إقامة الحد عليه». هذا في الوقت الذي توجد فيه اجتهادات من علماء كبار تقول إن الأصل في الإيمان هو قوله تعالى: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، (الآية 29 من سورة الكهف) وقوله عز من قائل في سورة البقرة الآية 256: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، أما الأحاديث التي جاءت بعد هذه النصوص القرآنية والتي تقول: «من بدل دينه فاقتلوه»، فكانت أحاديث خاصة لا تقرر حكما عاما. فحديث «من بدل دينه فاقتلوه» جاء في سياق خاص، حيث سأل الصحابة النبي (ص) عن حكم من يفارق دينهم، وينضم إلى جيش قريش المحارب للدولة المدنية الفتية، هل يقتلونه إذا وجدوه في ساحة المعركة أم لا، فقال عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه». «دينه» هنا يعني ولاءه للجماعة وهي في حالة حرب، تماماً مثل حكم الخيانة العظمى زمن الحرب التي تعاقب عليها جل التشريعات بالإعدام اليوم، دون أن يعني أنها تحكم على عقيدة الخائن بل على سلوكه بالانضمام إلى جيش العدو. وبهذا يكون الأصل في الحكم على المسلم الذي يختار الخروج طواعية من الإسلام هو: «لا إكراه في الدين»، وهل يتصور عاقل أن تجبر الدولة أحدا على اعتناق دين لا يريده؟ هل نجحت محاكم التفتيش في إسبانيا قبل خمسة قرون في إجبار اليهود أولا والمسلمين ثانيا على تغيير دينهم؟ هذا ورش فكري وديني كبير أصبح مفروضا على المؤسسة الدينية الرسمية أن تنخرط فيه، وهي التي لم تتطور مع العصر ولم تواكب حركة التجديد الفقهي الموجودة اليوم، واكتفت بمساندة الدولة واختياراتها التي لم تكن معتدلة دائماً. هذه معركة يجب أن يخوض فيها العلماء ومجالسهم، وألا يتركوا أبو النعيم ومن على شاكلته يوزعون الإيمان والكفر على قناة يوتوب...