عائشة البصري، الناطقة السابقة باسم بعثة الأممالمتحدة في دارفور، تفتح كتاب حياتها ل«اليوم24». قضت في الأممالمتحدة 15 سنة، قبل أن تتخلى عن منصبها والامتيازات المرتبطة به من أجل قول الحقيقة حول ما يجري في «دارفور»، قبل أن تحصل على جائزة «رايدنهاور» ل«كاشفي الحقيقة»، التي فاز بها قبلها بعام واحد إدوار سنودن، تكشف كل التفاصيل المرتبطة بحياتها ووظيفتها، لأن الأمرين مترابطان بالنسبة إليها، وتقودنا عبر سلسلة متتالية من الأحداث لفهم كيف بُنيت شخصية مغربية امتلكت، في نهاية المطاف، الجرأة على تحدي ومواجهة منظمة الأم المتحدة. من دون شك، كانت فرنسا مغرية لك باعتبارك واحدة من المولعات بالأدب الفرنسي؟ حين غادرت المغرب نحو مدينة غرونوبل في 1989 للتحضير لرسالة الدكتوراه كنت مشبعة جدا بلغة موليير وأشعار رامبو وأدبيات الثورة الفرنسية تحت شعار: «حرية، مساواة، أخوة». كنت معجبة بفلاسفة التنوير، وبفولتير على وجه الخصوص الذي ندد بالطغيان السياسي والاستبداد الديني، وروج أكثر من غيره الفكر الحر ومبادئ العدالة والتسامح والإنسانية التي جعلت منه مرجعا أساسيا للثورة الفرنسية. في المغرب درست الوجه المشرق لهذا الفيلسوف، لكي أكتشف في فرنسا الوجه القبيح لفولتير العنصري الذي لا يؤمن بمساواة الأجناس البشرية، ولا يرى فرقا بين «الزنوج» والقردة والفيلة وغيرها من الحيوانات. فولتير الذي ندد بالعبودية في روايته «الساذج أو التفاؤل»، ثم مارس تجارة الرقيق التي درت عليه أموالا طائلة دون أن يشعر بالذنب. فولتير الذي تفنن في حقده على اليهود فوصفهم ب«أبشع شعب على وجه الأرض»، متهما إياهم بالجهل والجشع والخبث وبكل عاهات ورذائل ومصائب البشرية. ثم اكتشفت أن هذا الانحطاط الفكري لم يقتصر على فولتير، إذ كانت العنصرية والنظرة الدونية إلى المرأة وإلى الآخر بشكل عام -الجنس غير الأبيض- راسختين في فكر ديدرو ومونتيسكيو الذي ذهب إلى القول إنه «لا يمكننا أن نقبل فكرة أن الإله، وهو كائن حكيم، قد وضع روحا، وبالخصوص روحا طيبة، في جسد أسود». كنت في العشرينات من عمري، ولم أكن أتخيل أن مونتيسكيو مؤلف «روح القوانين»، الذي جاء بمبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، هو نفسه الأب المعاصر للعنصرية العلمية. اكتشافي لظلامية التنوير فتح عينيّ على ازدواجية فرنسا المتحضرة، العادلة، الإنسانية مع نفسها، والهمجية مع الغير. صورة اتضحت معالمها بشكل أكبر عبر «قضية الفولار» التي فجرها الإعلام الفرنسي، ليلاحق ويتحرش بطفلات فرنسيات مسلمات يرتدين الفولار عن رغبة أو عنوة، منددا «بالخطر الإسلاموي». هكذا وقفت على مجتمع يلقن العالم دروسا في حقوق الإنسان، ليحرم بنات المهاجرين المغاربيين من حقهن الأساسي في التعليم المجاني والعبادة والاختلاف. ما الذي صدمك أكثر في فرنسا حتى تيقنت أن أوهامك كانت كبيرة؟ ما صدمني أكثر هو تطرف ما يسمى باليسار من مثقفي الكراهية والإعلام الأصفر وفلاسفة التلفزيون، بمساهمة عدد من المثقفين العرب والمسلمين الذين رسخوا الصورة النمطية للرجل العربي المسلم المتوحش والمرأة الضحية المطلقة بما يخدم أجندات سياسية تنقلب عليهم وعلى أهلهم. مع مرور الوقت شعرت بالتصدع بين الفكرة التي كنت قد كونتها عن فرنسا وواقع ما يطلق عليه اسم «الغرب» الذي أصبح يفتقر إلى أم الحريات وهي حرية التفكير. فإذا كانت العقلانية أكثر ما تميز به الغرب إلى يومنا هذا -كفكر يرتكز على المنطق مصدرا للمعرفة ويتخذ من العقل معيارا للحقيقة بدلا من المعايير الحسية والعاطفية- فإن هذه العقلانية قد تقلصت بشكل كبير، وأصبحت تقتصر على مجالات محدودة كالابتكار العلمي والاقتصادي والاستهلاكي. ولاحظت وقتها أن المجتمع الفرنسي يعيش تحولا خطيرا من الفرد إلى الجموع الناخبة، المتفرجة والمستهلكة، والتي تظن أنها تفكر، في حين أنه مفكر لها كما وصفها الشاعر الفرنسي بيير جوف حين قال «نحن لا نفكر، نحن مفكَّرون» Nous ne pensons pas. Nous sommes pensés. وهذا ما لامسته خلال مقامي في كل من فرنسا، إنجلترا وأمريكا، وأسفاري عبر العديد من الدول الأوروبية وكندا. لقد أصبح من الصعب على الفرد أن يفكر من تلقاء ذاته في زمن صناعة الرأي العام عبر إعلام الجموع والقنوات التعليمية وغيرها من القنوات القادرة على تهميش الرأي النقيض لموقف المؤسسات المسيطرة سياسيا واقتصاديا، والحد من أثره. لكن، لا يمكن أن ننكر أن هامش الحريات لايزال كبيرا في ما يسمى بالغرب، أليس كذلك؟ هذا صحيح نوعا ما، لكن رغم تنوع ووفرة الحريات في المجتمعات الغربية، وعلى رأسها حرية التعبير، فإن الفرد فقد أهم جزء من حريته.. أن تكون له آراء أو تصورات مستقلة عن آراء الآخرين حول موضوع معين في ظل استبداد الديمقراطيات السياسي والاقتصادي. فصناعة الرأي العام متقدمة جدا في الغرب، وهي ترتكز على سياسة الخوف: الخوف من المسلمين، من الإرهاب، من الكوارث الطبيعية، من البطالة، من اللاجئين، من الصين، من روسيا وغيرها من مصادر الخوف الحقيقي والمفبرك. وفي ظل طغيان الجموع على الفرد أصبح من الصعب شخصنة الآراء والأذواق. ولا أبالغ إذا قلت إن ما تفتقر إليه في فرنسا وغيرها من الدول الغربية هو الفرد الحر الذي يستطيع أن يفكر ويشكك ويقرر ويفعل بمحض إرادته دون أي ضغوط عليه من أي نوع. الفرد الذي تحدث عنه رونيه ديكارت وجان جاك روسو وغيرهم من صناع أسطورة الغرب. وكيف قاومت ذلك، فأنت في كل الأحوال كنت مجبرة على العيش سنين طويلة بين ظهرانيهم؟ كانت تجربة مؤلمة لأن فرنسا لم تكن بلدا بالنسبة إلي، بل كانت وطنا لآمالي. حاولت تجاوز خيبات أملي عبر التحضير لرسالة الدكتوراه، وذلك هو الوجه المشرق في المرحلة الفرنسية من حياتي، خاصة أني خصصت الرسالة لجان جنيه، ابن فرنسا الشقي. جنيه اللقيط الهارب، اللص الشريد، وهو كاتب وجودي بامتياز. منذ أن أدرك أنه لقيط ولا تربطه صلة دم بأي شخص على الوجود، حول هذه المأساة إلى حرية مطلقة وشخصية منفردة ترفض العيش وفقا لشروط المجتمع ومسلماته بما فيها من أفكار مسبقة وقوالب جاهزة. نبذ جنيه القيم التي وصفها بالبورجوازية ليستبدلها بقيم الموت والعنف والكذب والخيانة والسرقة والحب المثلي في عالم هامشي شهواني ينشق عن عالمنا. أعجبت بجان جنيه لأن كتاباته وحياته تضع الحرية فوق كل اعتبار، وهو الذي قال: «كلما كبر ذنبي في عيونكم، أفترض أن تكون حريتي أكبر». حاولت في أطروحتي أن أسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين أسطورة وحقيقة السجن والكتابة في أعماله. ثم خصصت بعدها كتابا بعنوان «مخيلة السجن عند جان جنيه» صدر في باريس عام 1999 عن دار النشر لارماتان. وشعرت بعدها بأني قمت بواجبي نحو كاتب عملاق لفظ أنفاسه في باريس، مسقط رأسه، واختار أن يدفن في مدينة العرائش بيننا.