بنسعيد : الحكومة لا يحق لها التدخل في شؤون مجلس الصحافة    سعد برادة: استقلت من جميع الشركات وفق القانون... والتسجيل التجاري إجراء إشهادي فقط    وفد إماراتي يحل بالحسيمة لبحث فرص الاستثمار السياحي    انتشال جثة من حوض في اشتوكة‬    "تشويه لسمعة البلاد".. بووانو ينتقد تسريبات "لجنة الصحافة" ويتهم الحكومة ب"الشطط"    مراكش تحتضن قمة الإنتربول.. والحموشي في قلب الحدث الأمني العالمي    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    "اتحاد حماية المستهلكين" يوضح بشأن سلامة زيت الزيتون المغربي    انتخاب سفير المغرب في المملكة المتحدة نائبا لرئيس الدورة ال34 لجمعية المنظمة البحرية الدولية    إخفاق 7 أكتوبر يعصف بكبار قادة الجيش الإسرائيلي    إضراب وطني يشل بلجيكا ويتسبب في إلغاء رحلات جوية    الرئيس النيجيري يعلن تحرير 38 مختطفا من إحدى الكنائس    الPPS يرفع مذكرته إلى الملك لتحيين مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية    المنصوري: إعادة بناء أزيد من 53 ألف منزل في المناطق المتضررة من زلزال الحوز    طلبة "العلوم التطبيقية" بأكادير يعتصمون وملفات التحرش والابتزاز تُعاد إلى الواجهة    "لبؤات القاعة" يحصدن أول إنتصار في المونديال أمام الفلبين    أول رد رسمي على "تسريبات المهداوي".. بنسعيد يرفض الإساءة للأخلاق التدبيرية    سلا .. بنعليلو يدعو إلى ترسيخ ثقافة تقييم أثر سياسات مكافحة الفساد    تداولات إيجابية لبورصة الدار البيضاء    عقد أولى جلسات محاكمة المتهم في قضية مقتل الفنان "سوليت" بالحسيمة    العلم تطلق زاوية "يوميات الكان" لمواكبة كأس الأمم الإفريقية المغرب 2025    منشور لأخنوش يقر منحة للتشغيل تبلغ 17% من الدخل السنوي في قطاع ترحيل الخدمات    بنعلي : إفريقيا مطالبة بحماية مواردها وتحويل ثرواتها الجيولوجية لتنمية مستدامة    معركة الاستراتيجيات والطموحات – هل يستطيع برشلونة اختراق دفاع تشيلسي؟    حكيمي يطمئن المغاربة: عدت أقوى... والكان هدف أمامي        الرّمادُ والفَارسُ    محمد صلى الله عليه وسلم في زمن الإنترنت    الرميد: لجنة "أخلاقيات الصحافة" ارتكبت فظاعات وذبحت الحقوق والحريات من الوريد إلى الوريد    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ميناء الحسيمة : انخفاض نسبة كمية مفرغات الصيد البحري    دراسة علمية تشير لإمكانية إعادة البصر لمصابي كسل العين        ألونسو: هذه هي الكرة حققنا بداية جيدة والآن النتائج لا تسير كما نتمنى    بغلاف ‬مالي ‬يصل ‬إلى ‬6.‬4 ‬مليون ‬درهم.. ‬إطلاق ‬خطة ‬استراتيجية ‬لمواجهة ‬‮«‬ضغط ‬السكن‮»‬    الجيش السوداني يرفض اقتراح اللجنة الرباعية لوقف إطلاق النار ويصفها ب"غير محايدة"    إسرائيل ترفع تأهب الدفاع الجوي غداة اغتيالها قياديا ب"حزب الله".. وتستعد لردود فعل    سيناتور يمينية متطرفة ترتدي "البرقع" بمجلس الشيوخ الأسترالي وتثير ضجة بالبرلمان    تسوية قضائية تُعيد لحمزة الفيلالي حريته    وفاة الممثل الألماني وأيقونة هوليوود أودو كير عن 81 عاماً    احتجاجات صامتة في الملاعب الألمانية ضد خطط حكومية مقيدة للجماهير    تتويج أبطال وبطلات المغرب للدراجات الجبلية في أجواء ساحرة بلالة تكركوست    جمعية التحدي تدق ناقوس الخطر بشأن تفاقم العنف ضد النساء وتجدد مطالبتها بإصلاح تشريعي شامل    من الديون التقنية إلى سيادة البيانات.. أين تتجه مخاطر الذكاء الاصطناعي؟    مملكة القصب " بمهرجان الدوحة السينمائي في أول عرض له بشمال إفريقيا والشرق الأوسط    المخرج ياسر عاشور في مهرجان الدوحة السينمائي يتحدث عن فيلم "قصتي" حول الفنان جمال سليمان:    لجنة الأفلام في مدينة الإعلام – قطر تُبرم شراكة مع Parrot Analytics لتعزيز استراتيجية الاستثمار في المحتوى    إطلاق دفعة جديدة من أقمار ستارلينك الأمريكية    تحديد ساعات التدريس من منظور مقارن        دراسة: استخدام الأصابع في الحساب يمهد للتفوق في الرياضيات    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الأيديولوجيا 3/4
نشر في بيان اليوم يوم 15 - 11 - 2013

الحداثة في سياقها العام هي سلسة من الإصلاحات الثقافية شملت الفن والهندسة والموسيقى والآداب والفنون التطبيقية. والتعريف في عموميته غطى العديد من الحركات أو الاتجاهات السياسية والثقافية والفنية التي حققت جملة من التغيرات في المجتمع الغربي عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. والحداثة بتعبير آخر أيضا هي ميل من التفكير الذي أكد على دور القوة والإرادة الإنسانية في تحسين أو إعادة تشكيل محيطه الاجتماعي عبر المعرفة والتكنولوجيا والتجربة الخاصة.
لقد استطاعت الحداثة تشجيع إعادة امتحان كل الوجوه الحياتية بدءا من التجارة وصولا إلى الفلسفة بهدف القبض على مقومات الوجود الاجتماعي التي كانت تعرقل تقدم الإنسان, واستبدالها بمقومات جديدة قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة في التقدم الإنساني.
في جوهر المسألة استطاعت الحركات الحداثية عبر كل مستوياتها أن تناقش الحقائق الجديدة لزمن الصناعة والتكنولوجيا, التي شملت إضافة إلى ما أشرنا إليه أعلاه, حداثة الفيزياء وحداثة الفلسفة وحداثة الرياضيات...الخ التي راحت تكتمل, أو هي على وشك الاكتمال, والتي أصبح من المفروض على الناس تكييف صور عالمهم أو حياتهم بما يتناسب وقبول كل ما هو جميل وجيد وحقيقي من منجزات الزمن الجديد زمن الثورة التكنولوجية.
وللتأكيد نستطيع القول هنا: إن مسألة التغير والحداثة شملت أيضا الكثير من أعمال المفكرين الذين ثاروا ضد أكاديميي ومؤرخي التقليد في القرن التاسع عشر معتقدين أن صيغ الفن التقليدي في الهندسة والأدب والتنظيم الاجتماعي ومعطيات الحياة اليومية المباشرة أصبحت من العهد القديم. وعليهم مواجهة المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أفرزها العالم التكنولوجي.
لقد قام بعض المفكرين في القرن العشرين بتقسيم الحداثة إلى قسميين هما: الحداثة, وما بعد الحداثة في حين لمس بعضهم أن الحداثة وما بعد الحداثة وجهان لعملة واحدة. سنحاول في هذه القضية الثانية من (قضايا التنوير) ان نتعرف على الحداثة وما بعد الحداثة كما ظهرت في الغرب وكما فهمها الغرب وبالتالي أين نحن اليوم منها موقعا في الساحة العربية.
شأن الآيديولوجيا شأن الكثير من المفاهيم التي اختلف حول تعريفها الكتاب والسياسيون والمفكرون منهجاً ووظيفة أيضاً، - والسبب الرئيس في هذا الاختلاف, بالرغم من وجود أسباب كثيرة تصب في هذا الاتجاه -، يعود إلى ارتباط الآيديولوجيا بالسياسة، حيث أن كل سياسة وكل سلطة برأيي تتضمن أيديولوجيا، أو تصادر عليها صراحة أو ضمناً, كما أن كل أيديولوجيا تتضمن نظرة في المجال السياسي، تستهدف في النهاية الوصول إلى السلطة لتطبيق نظريتها في أضعف الإيمان. راجع كتابنا الآيديولوجيا والوعي المطابق- دار التكوين – دمشق 2006- ص19)
لذلك فإن طبيعة الصراع السياسي الذي دار خلال الحرب الباردة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي هو صراع أيديولوجي, أو بتعبير آخر, هو صراع أيديولوجي بين النظامين, تجلى في المحصلة صراعاً سياسياً يحمل في جوهره مصالح مادية ومعنوية، أي صراع مصالح طبقية. وهذا الأمر ذاته ينطبق الآن على مسألة صراع الحضارات الذي روج وسوق له ومارسه عملياً قادة النظام العالمي الجديد، وهم طغمة الرأسمال الاحتكاري العالمي. فصراع الحضارات في جوهره صراع مصالح , تجلى عملياً كصراع سياسي, في الوقت الذي نُظَر له أيديولوجياً كصراع بين ثقافتين أو أكثر. أما أوجه الاختلاف في التفسير أو التنظير للآيديولوجيا، فأراها تتجلى في موقفين أساسيين, لهما حواملهما الاجتماعية ومفكروها، ممثلة بحكومات وأحزاب سياسية، ومؤسسات فكرية تعمل لمصالح قوى طبقية محددة .. الخ .
الموقف الأول: هناك من أعاب الآيديولوجيا واعتبرها شكلاً من أشكال الوعي الزائف غير المنطبق على الواقع أو المسامت له, وهذا ما أكد عليه العروي مثلاً كأحد المتبنين لهذا الاتجاه، في كتابه، (مفهوم الآيديولوجيا) حيث يقول : ( ليست الآيديولوجيا هي الفكرة المجردة أو العقيدة, وإنما هي الفكر غير المطابق للواقع)،( راجع كتابنا - المصدر السابق ص35) وبالتالي فهي في وظيفتها بناءً على هذا الرأي، ستعمل في الغالب على شد الكتل الاجتماعية نحو الأسطورة والوهم أكثر من شدها نحو الواقع والعقلانية. وهذا الموقف نجده أيضاً عند «منهايم وهيدجر». ( للاستزادة في ذلك راجع المصدر نفسه ص32 وما بعد)
الموقف الثاني: وهو موقف من أشاد بها واعتبرها وعياً عقلانياً, كما هو الحال عند ألتوسير الذي عبر عنها بقوله : ( إن الآيديولوجيا تحول الفرد إلى ذات، أي تحوله من كائن غفل، أو رقم مجهول ضمن جماعة, إلى فرد واع بذاته، معتز بانتمائه للجماعة, ومنها لتقبل قيمها واختياراتها وأهدافها، أي في النهاية إلى ذوات تعتقد بأنها حرة وواعية وفريدة وفعالة وأساسية في الجماعة. ) ( راجع المرجع السابق ص52 ). هذا الموقف الايجابي ذاته نجده عند «جورج لوكاش», أيضاً حيث يقول عنها : ( الآيديولوجيا هي تصور للعالم,هي بمثابة عقيدة تحفز لا على النظر, بل على العمل .. إنها ركيزة نظام اجتماعي وسياسي لأن المجتمع والدولة لا يقومان فقط على العنف, بل يقومان أيضاً على الآيديولوجيا.). ( المرجع السابق- ص46). أما أهم ما يميز هذا الاتجاه أو الموقف الايجابي من الآيديولوجيا منهجياً ووظيفياً برأيي, هو التأكيد على أهمية مسألة الآيديولوجيا، من حيث كونها فكرة كبرى أنتجها الواقع المعيوش بحوامل اجتماعية, أرادت التعبير من خلال هذه الفكرة الكبرى ذاتها، عن مصالحها ومصالح الكتل الاجتماعية المؤمنة أو المرتبطة بها, مع إيمان هذه الحوامل بأن هذه الفكرة غير ثابتة أو مطلقة, طالما هي مرتبطة بالواقع الذي ساهم في إنتاجها وتحديد مكوناتها في فترة تاريخية محددة. وبالتالي فهي وفق هذا المعطى قابلة للتطور والتبدل بناءً على تطور وتبدل الواقع ذاته, ثم تبدل طبيعة المصالح والأهداف المتعلقة بحواملها, وبهذا تكون الآيديولوجيا قد تحولت من فكرة كبرى تعمل في حالة جمودها إلى ليّ عنق الواقع كي ينسجم معها دائماً, إلى (وعي مطابق) ينسجم مع الواقع ويعمل دائماً على تجديد نفسه بما ينسجم وحركة وتطور هذا الواقع, دون التخلي هنا عن الأهداف العريضة أو الإستراتيجية التي تتطلب فترات زمنية طويلة لتحقيقها, والتي تشكل – أي الأهداف العريضة – الملاط الذي يشد الكتلة الاجتماعية دائما للإيمان بهذه الآيديولوجيا والنضال من أجل تطبيقها على الواقع.
تنوير و إصلاح
من الضرورة بمكان الإشارة هنا إلى أن الكنيسة والدولة كانتا معا في حالة من الصراع الخفي، غير أنهما كانتا مدركتين وبشدة حالات اختلافهما، حتى أن الملوك كثيرا ما انجذبوا وفتنوا بالنقاشات التي كانت تدور بين الكنيسة والدولة، والتي كان لها تأثير كبير في إضعاف الكنيسة . أما الارستقراطيون فلم يكونوا في الحقيقة يدركون أبعاد عدم استقرارهم، في الوقت الذي كانوا مهتمين فيه فقط بالعبث بتلك الأفكار الجديدة، لالشيىء، إلا كونها أفكارا جديدة بكل بساطة. ومن الطرافة بمكان القول: إنه كان من بين هؤلاء الارستقراطيين الكثير من العاطلين عن العمل (الكسالى). وإن الكثير من المتنورين الفرنسيين كانوا يعاشرون البعض من أوائلهم والمتحمسين لهم، فهذا (فولتير) كثيرا ما كان يتحرك في دوائرهم متناولا الطعام على موائدهم، وآخذا عناوين عشيقاته منهم، ومراسلا ملوكهم، بيد أنه كان يعارض استبدادهم والعقائد التي سادت في عصرهم، في الوقت الذي كان لديه القليل من الإيمان الذي لايتجاوز إيمان أي فرد عادي، كما كان مناصرا لفكرة الديمقراطية وحكم الشعب، بل وكثيرا ما كان يفكر (فولتير) في هؤلاء الأشخاص المثقفين والمتحذلقين معا، وذوي الخبرة في هذه الحياة، حيث كان يرغب في إحضارهم كي يرى العالم من خلال ممارساتهم العقلية، أن العالم يستطيع، بل يريد وبشكل كبير، أن يتغير نحو الأفضل .
مقارنة ما بين روسو و فولتير
لم يكن كل مفكري عصر التنوير يشبهون «فولتير» في مواقفه التي جئنا عليها هنا، حيث نجد على سبيل المثال أن خصمه اللدود « روسو « لايثق بالارستقراطيين، وذلك ليس من أجل عطشه للتغيير، وإنما لاعتقاده أنهم كانوا يخونون القيم التقليدية الأصيلة. كما عارض المسرح الذي شكل عند « فولتير « دم الحياة، وتجنب الارستقراطية التي تودد إليها فولتير، ودخل في نقاشات حول أشياء لها من الخطورة الكثير آنذاك، كالثورة والديمقراطية. هذا وفي الوقت الذي كان فيه فولتير يناقش بإمكانية المساواة كان روسو يقول فيها، بأنها – أي - المساواة أمر طبيعي، وعندما تؤخذ مسألة المساوة بشكل جدي فهي قادرة على صنع حكومة مناسبة إلى حد ما . وفي الوقت الذي كان فيه فولتير أيضا مفتونا بذكائه الحاد وفطنته، كان روسو يصر ويشده على صحة مواقفه، وبينما كان «فولتير» يلح على تفوق الفكر والعقل، كان روسو يؤكد على العواطف، جاعلا كلا من يدعم التنوير أو يخلقه رومانطيقيا، وعندما يكرر روسو الحزمة نفسها من الملاحظات الجوهرية للتنوير، كان روسو يتحدث وبعمق عن الأفكار الأصيلة وبكل الاتجاهات بدءا من التربية مرورا بالعائلة والفنون وصولا إلى الحكومة وكل ما يلفت انتباهه في هذه الحياة. ومع ذلك، وبالرغم من كل اختلافاتهما الشخصية فقد تقاسم الاثنان الكثير من القيم التي أحبا الاعتراف بها. فكلاهما عاشا حياة الملكية المطلقة واعتبراها شرا وخطرا على المجتمع، وكلاهما رفضا المسيحية الأرثوذكسية (المتشددة- المترجم)، وكثيرا ما ناضل روسو ليبدو أكثر إخلاصا، وكان يميل تقريبا إلى الشك بالقدر نفسه الذي كان يميل إليه فولتير، كلاهما أيضا تقاسما الاعتقاد بالإيمان المتطرف الذي كان يقر بضرورة الإيمان بالله وحده بعيدا عن أي دين كان، أي الإيمان بالله دون أي وساطة من قبل الآخرين، وهذا الشكل من الإيمان ذاته كان قد تحول إلى المجتمع الأوربي وحاز على تأثير قوي في مختلف وجوه المجتمع .
التنوير في بريطانيا
استطاعت المملكة المتحدة العظمى أن تطور عالم تنويرها برعاية العديد من المفكرين أمثال المفكر الإنكليزي « جان لوك « و» دافيد هيوم « وغيرهما، حيث كانت بريطانيا السباقة على كل الأوربيين في خلع وقطع رؤوس ملوكها في أواخر القرن السابع عشر، بالرغم من أن النظام الملكي كان قد استعاد عافيته. فهذه التجربة خلقت انفتاحا حقيقيا باتجاه التغيير في العديد من المواقع التي لم تستطع أن تخمد كليا، إذ ظلت البروتستانتية البريطانية - (مثلت آنذاك التطلعات العقلانية لتحرير الإنسان من سلطة الاستبداد الكنسي - المترجم)- تناضل لتعبر عن نفسها في طرق اتسعت حدودها إلى خارج نطاق حرية الكلام والتظاهر. وعلى اعتبار أن بريطانيا قد حققت ثورتها بشكل مبكر بالنسبة لأوربا، فقد أعطاها هذا السبق القدرة على أن تواصل بكثير من السهولة وبشكل تدريجي الوصول إلى الديمقراطية، بيد أن الحرية الانكليزية شكلت قنبلة عندما انتقلت إلى فرنسا، وذلك بسبب المقاومة الشرسة التي ظهرت من قبل الكنيسة والدولة معا تجاه هذه الحرية حتى آخر لحظة، لذلك في الوقت الذي نجد فيه أن بريطانيا التي انطلقت الثورة من بلادها إلى فرنسا بقيت غاطسه في أوحال التفاوت الطبقي والتراتب الاجتماعي والورع الكنسي الديني، نرى فرنسا قد أصبحت بعد ثورتها من أكثر الدول الأوربية دعوة للمساومة وبناء الدولة اللا اكليركية .
التنوير في أمريكا
إن العديد من القادة المتنورين الأمريكان في الثورة الأمريكية أمثال « جفرسون « و» واشنطن « و» فرانكلين « وغيرهم، تأثروا وبشكل قوي بالأفكار الثورية للإنكليز، وقليلا أو إلى حد ما بالتفكير التنويري الفرنسي. فا (الله) الذي ضمن مفهوم المساواة في إعلان (الاستقلال الأمريكي)، هو نفسه (الإله) الذي عبده « روسو «، بينما هو ليس نفسه (الإله) الذي أقر في الكنائس التقليدية التي لم تزل تدعم وتحمي الأنظمة الملكية المطلقة في معظم الدول الأوربية. إن جفرسون وفرانكلين استوعبا التنوير الفرنسي، وأن لغة القانون الطبيعي لتراث أو أصول الحرية، أي حرية الإرادة التي تسربت وبعمق شديد إلى حصاد نضال الأمريكي، كانت هي لغة التنوير نفسه، بالرغم من أنها غالبا ما كانت تغطى بمسوح النور الديني الذي راح يدعي الآن من قبلنا بالدين المدني. ومن هذه المعطيات أخذ الأمريكان يفضلون دراسة التنوير، الذي أصبح يشكل نسغ حياتهم، فالتنوير، حدد جزءا من الذي حلموا به، بل الأهداف التي يصبون إلى تحقيقها، أما طموحات الارستقراطيين الأمريكان الانفصالية وما رافقها من ردود أفعال تجاه هذه التحولات الجارية في أمريكا تحت راية التنوير، فقد راحت تتآكل، وكانت في حقيقة أمرها ومنذ بدايتها أقل تأثيرا على الواقع مقارنة بتحركات زميلتها الأرستقراطية الفرنسية .
* كاتب وباحث من سورية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.