لم يبتهج صديقي كثيرا بعد أن سَحبت الحكومة مشروع المدونة الرقمية منذ أيام. فقبل أن يحمل حقائبه ويرحل ليقيم في العالم الافتراضي، كان قد عاش ما شاء من السنين في هذا العالم «الواقعي»، خبِر فيها كيف يفكر القائمون على السلطة في المغرب. ويدرك جيدا أن طي هذا المشروع ليس سوى انسحاب «تكتيكي»، وأن هؤلاء القائمين لا يستسلمون بسهولة وسيعيدون الكرة تلو الكرة لتمرير نسخة أخرى من هذه المدونة تتضمن صيغا تشبه «الأضداد» في اللغة العربية، تفيد معنى معنيا وعكسه في الآن ذاته، وصيغا أخرى ملتبسة تكون لها علاقة قرابة قوية بتلك التي جاءت مثلا في المادة 24 من الوثيقة التي تم سحبها إلى حين. ويدرك هذا الصديق أن العالم الافتراضي بشبكاته الاجتماعية ومواقعه التي يستحيل عدُّها بات مصدر القلق الرئيسي لهذه السلطة، لأنه صار كونا هُلاميا وواقعيا في الآن ذاته.. كونا لا حدود له وبأبعاد لا نهائية.. كونا منفلتا من كل سيطرة وتحكم.. كونا يسخر من الجغرافيا والقوانين الجيولوجية والفيزيائية..كونا يخرج لسانه في وجه أساليب السلطة التقليدية للتحكم.. إن هذا «الكون المنفلت»، صار مصدر قلق بالغ للسلطة في بلادنا لأنه غدا ساحة المعارضة الحقيقية وصوتها.. معارضة بروح جديدة غير منهكة بالخيبات والضربات التي تأتي من حيث لا يحتسب المرء.. معارضة بروح جديدة غير ملوثة بالحسابات السياسوية وفيروس الانتهازية. وهي معارضة أثبتت قوتها وتأثيرها في أكثر من مرة (الربيع العربي.. حركة 20 فبراير بالمغرب.. قضية العفو عن المغتصب دانييل كالفان... إلخ) هذا الكون المنفلت مصدر قلق للسلطة لأنه أصبح ملجأ حتى لأولئك الذين سرى الخوف من جبروتها في كيانهم كالنسغ، يهمسون فيه بما يخشون الجهر به، فيصير همسهم هذا مدويا يتردد صداها إلى ما لا نهاية.. ليس هذا فقط، فأنا الذي مازلت أكتفي معظم الوقت بالوقوف على عتبة هذا الكون «الهلامي الواقعي»، أتأمل، ما أمكنني ذلك، في الحياة النابضة التي تجري على خيوط شبكته (حكايات، تعاليق، آمال، مقترحات، مطالب، كلام بذيء) وأتابع الذين استقروا فيه بشكل نهائي تقريبا؛ والذين يغوصون فيه مرة بعد أخرى بحثا عن بعض الهواء النقي بعد أن يخنقهم جو هذا الواقع المغربي المؤلم؛ وحتى الذين يفئون إلى ظل شبكته التي حولوها إلى كنيسة يبوحون في كرسيها بما يثقل صدورهم بعيدا عن عيون الرقباء. صحيح أن كثيرا من المخاطر تكمُن في ثنايا هذا الكون اللانهائي (إرهاب.. جريمة.. بيدوفيليا.. دعارة.. إلخ)، وهي المخاطر التي تتخذها السلطة في المغرب ذريعة لتضييق عيون هذه الشبكة الكونية والحد من «شر» ما قد تولده «كلماتها». فهي على ما يبدو نحتت فهمها الخاص لما قاله الكاتب الفرنسي «سيلين» مرة: «لا نحذر أبدا بما فيه الكفاية من خطر الكلمة» (on ne se mefie jamais assez des mots). والهدف الأساس الذي تسعى إليه ليس القضاء على تلك المعارضة الجديدة وكتم صوتها، بل عزلها وجعل صوتها مجرد همس غير مسموع، وقطع أي امتداد لها في المجتمع حتى لا يتمدد تأثير كلمتها، كما نجحت في عزل المعارضات السابقة وكبح تأثير كلمتها. وكيفما كان الحال، وكيفما كانت الصيغة التي سيعود بها مشروع «المدونة الرقمية» فستظل هشة مثل بيت العنكبوت ويمكن اختراقها أو الالتفاف عليها لأنها ستظل دائما قاصرة على التحكم في خيوط هذا الكون. فالشبكة العنكبوتية مثل أرض الشاعر المغربي الكبير أحمد بركات، تلك الأرض التي ليست لأحد..، بل هي لمن لا يملك مكانا آخر للتعبير بكل حرية وصدق.