نعرف الكثير عن معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن هناك فلسطينيون آخرون، فضلوا التشبث بأرضهم وتحمل تعسفات الاحتلال الإسرائيلي. ويبلغ عدد هؤلاء حوالي 1.7 مليون نسمة ويشكلون حوالي 20 في المائة من سكان إسرائيل. وهم يعانون، في غفلة من العالم، من درجة عالية من العنصرية الإسرئيلية. في هذا الحوار يستعرض محمد زيدان، المدير العام ل»المؤسسة العربية لحقوق الإنسان»، وهي منظمة حقوقية تأسست منذ 1988 للدفاع عن حقوق فلسطيني 48، أبرز مظاهر التمييز الإسرائيلي الذي يمس مختلف نواح حياة هؤلاء. إنت من «فلسطيني 48» الذين رفضوا النزوح وفضلوا التشبث بأرضهم وتحمل تعسفات الاحتلال، ويوجد تمثيل لهؤلاء الفلسطينيين في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، هل لهم تأثير ما على القرار السياسي، أم إن إسرائيل تسوق عبرهم، ودون قصد منهم، صورة البلد الديمقراطي الذي يعطي الصوت لكل مكوناته؟ لقد كان النضال البرلماني وسيلة في فترة ما لإحداث التغيير. وهذا فشل ولم ينتج عنه شيء. بل إن البرلمان الإسرائيلي بدوره أصدر قبل أسبوع قرارا يتيح طرد أحد أعضاء إن حصل مقترح الطرد على 90 صوتا من أصل عدد أعضائه ال120. أي أنه صار ممكنا الآن للأحزاب الإسرائيلية الممثلة في البرلمان طرد كل النواب العرب. وهذا مناقض لكل ما تريد إسرائيل تسويقه حول نفسها بكونها دولة ديمقراطية وحقوقية. وهناك توجه لدى قطاعات شبابية واسعة لمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة. لا شك أن تقدم العرب بقائمة مشتركة للانتخابات الماضية رفع بشكل ملحوظ من عدد النواب العرب داخل الكنيست (13 نائبا حاليا)، ولكن بالمقابل لم تحقق هذه الكتلة البرلمانية شيئا ملموسا لفلسطيني الداخل. في ميزان الربح والخسارة، لا شك أن إسرائيل تستفيد من الوجود العربي في الكنيست أكثر بكثير مما يستفيد منه الفلسطينيون، لأنها تبدو للعالم بمظهر الدولة الديمقراطية التي تسمح بتمثيل كل مكوناتها في هيأتها التشريعية والمؤسسات الرسمية، والحقيقة غير ذلك في العمق. فهي تمارس ضد فلسطينيي 48 تمييزا كبيرا في كل مناحي الحياة. طيب، ما هي أبرز مظاهر التمييز ضد فلسطينيي 48؟ دعني أذكر هنا بأننا نحن، فلسطينيي الداخل، عددنا يصل إلى 1.7 مليون نسمة، ونشكل نحو 20 في المائة من سكان إسرائيل، الذين يبلغ عددهم حاليا زهاء 8 ملايين نسمة. ويعاني فلسطينيو الداخل من عدة مستويات من التمييز، الذي يجعل منهم دوما مواطنين من الدرجة الثانية، رغم أنهم هم أصحاب الأرض. فهناك ما يمكن أن أسميه التمييز القانوني المباشر. مثلا، خلال فترة الحكم العسكرية على فلسطينيي الداخل (1948-1966)، تم فيها سن العديد من القوانين التمييزية ضدهم التي كانت تفضل اليهودي على أساس ديني وعرقي صرف، دعني أذكر منها بالخصوص قانون: «ملكية الغائب»، وهو قانون أقره الكنيست الإسرائيلي سنة 1950، وينص بكل بساطة على الاستيلاء على الأراضي والممتلكات التي تعود إلى الفلسطينيين الذين هجروا منها أو نزحوا عنها إبان النكبة. وخول هذا القانون للسلطات الإسرائيلية الاستيلاء على عشرات الآلاف من الهتكارات من الأراضي، فضلا عن آلاف المنازل والعقارات.. هل يطبق هذا القانون حتى على الفلسطينيين الذي بقوا في الأراضي التي شملها الاحتلال الإسرائيلي في 1948؟ نعم. ويوجد الآن نحو 350 ألف فلسطيني يعيشون في إسرائيل، وهم محرومون من ممتلكاتهم بسبب هذا القانون. بل إن هناك عشرات القرى التي بناها الفلسطينيون، ولا تعترف بها السلطات الإسرائيلية، وتمنع عنها الماء والكهرباء، ويعيش أفرادها في ظروف القرون الوسطى. هل كل القوانين التمييزية الإسرائيلية تقوم على أساس ديني عرقي؟ لا.. ليس بالضرورة، وهذا هو الخطير. فهناك ما نسميه نحن «التمييز القانوني غير المباشر». بمعنى أن هذا التمييز لا يذكر الدين أو القومية كمعيار للحقوق، ولكنه يلجأ إلى معايير أخرى قد تظهر بأنها بريئة أو حتى موضوعية ظاهريا، ولكنها في العمق تُفضي إلى التمييز في أسوأ أشكاله. وأضرب لك مثلا هنا، بمعيار «الخدمة في الجيش». إذا خدمت في الجيش في إسرائيل، فإنك تحصل على أفضلية في كل مناحي الحياة. وبما أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين لا يؤدون الخدمة العسكرية، فهذا يعني بشكل آلي أنهم محرومون من كل الحقوق التي يستفيد منها كل من أدى تلك الخدمة. والخطير أن هذا التمييز القانوني غير المباشر لا يقتصر على القطاعات العامة، بل يمتد إلى التسجيل في الجامعات وحتى العمل في القطاع الخاص. إذ تجد أن العديد من المؤسسات والمقاولات، وحتى بعض مكاتب المحاماة أو الصيدليات، أو محلات لبيع الملابس أو الأحذية مثلا، تضع ضمن شروط الانضمام إليها وبحروف صغيرة «بعد أداء الخدمة العسكرية». والبعض يسمي هذه الممارسة: «التمييز الذكي» أو «التمييز الخفي»، فبهذه الطريقة يتم تطبيق التمييز دون الحاجة إلى الإشارة إلى أصول المرء أو دينه أو عرقه. كيف يتجلى التمييز الإسرائيلي ضد الفلسطينيين سياسيا؟ إنه المستوى الثالث من التمييز الذي نعاني منهم. وهو ينتج عن القرارات التي يتخذها الوزراء، كل في مجاله: التعليم، الصحة، البنى التحتية… إلخ. إذ يتيح القانون في إسرائيل للوزير أن يتخذ قرارات تقريبا مطلقة في بعض المجالات التي تكون ضمن صلاحياته، وتسمى «أولويات». فكل وزير يستطيع أن يحدد، بشكل شبه مطلق كما قلت، ما هي «أولويات» وزارته. وهذه «الأولويات» تتجلي منذ 1966 في تفضيل اليهود والمناطق التي يعيشون فيها في كل مجالات الحياة. ودعني أسوق لك مثالا صارخا على هذا التمييز ويهم قطاع التعليم. فقبل أسابيع معدودة فقط، صدر تقرير عن مؤسسة «مراقب الدولة» (وهي مستقلة عن الحكومة بشكل كامل ومسؤولة فقط، أمام البرلمان) يكشف أن التلميذ العربي في إسرائيل لا يتلقى سوى 1 من 9، مما يخصص للتلميذ اليهودي! ويسري هذا التمييز الصارخ على كافة الوزارات الأخرى. ويكفي للمرء زيارة بلدة عربية وأخرى يهودية ليقف على الفرق الكبير في البنى التحتية وتجهيز الشوارع والمناطق الخضراء… إلخ. ألا يلعب هذا التمييز في العمق ضد إسرائيل؟ فهي تخلق جيلا أو أجيالا من الفلسطينيين الغاضبين الذين يحسون أنهم من الدرجة الثانية مهما فعلوا؟ لإسرائيل خطة معنية تقوم على منع بروز أي شكل من أشكال بلورة شخصية فلسطينية مستقلة عن إسرائيل، وفي الوقت ذاته تبذل كل الجهد لتمنع أي فلسطيني ليصير «إسرائيليا» يتمتع بكل الحقوق التي يتمتع بها الإسرائيليون اليهود. هي تريد إنسانا فلسطينيا يقبل أن يعيش في دولة يهودية، ويقر بأنه من الطبيعي أن يطبق ضده التمييز، ويتصرف على أنه من درجة ثانية. وهذه عقلية العبد. إن إسرائيل، ومن خلال كل سياساتها، تتصرف على أنها دولة لليهود فقط، ولكن وجودنا نحن فلسطينيي الداخل، ورغم كل هذه العنصرية، يعتبر فشلا لهذه العقيدة بشكل من الأشكال. كيف يتحمل الجيل الجديد هذه السياسة التمييزية الإسرائيلية؟ الفلسطيني داخل إسرائيل عاش مراحل مختلفة. فهناك جيل عاش النكبة وحاول استيعاب آثارها، وتربى تحت الحكم العسكري. الجيل الثاني حاول استخدام الأدوات القانونية الإسرائيلية المتاحة لتحصيل حقوقه، فانخرط في النضال البرلماني والقضائي والنشاط داخل المجتمع المدني وغيره. أما الآن فالجيل الثالث، وهو من الشباب، خبر أن كافة الوسائل التي جربت لتحصيل حقوقه لم تفض إلى نتيجة تذكر. ولذلك نرى مبادرات شبابية للتأكيد على الهوية الفلسطينية، للعودة إلى المربع الأول في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ويرى هذا الجيل أن حتى حل الدولتين مع ضمان المساواة المدنية الكاملة لفلسطيني الداخل لم تعد مغرية، بل حتى إسرائيل نفسها لا تريدها في العمق. ونرى محاولات شبابية لخلق نوع من التضامن الفلسطيني الفلسطيني، وسعي إلى إعادة طرح القضية الفلسطينية كما كانت تطرح قبل عام 1967. وهناك مثلا ارتفاع ملحوظ في نسبة الذين يؤيدون الدولة الواحدة، وهذا ناتج عن يأس الفلسطينيين، في أراضي 48 وفي الضفة وغزة على حد سواء، من قيام الدولتين، خاصة وأن إسرائيل نفسها جعلت قيام دولة فلسطينية شبه أمر مستحيل بسبب المستوطنات التي تنتشر في الضفة الغربية مثل السرطان. ومن مظاهر اليأس المخيفة كذلك، عمليات الطعن التي تكاثرت، والتي لا ينظمها أحد ولا يرغب فيها أحد لا فلسطينيا ولا إسرائيليا. فهي مبادرات فردية ناتجة عن الارتفاع الحاد لنسبة اليأس وسط الفئات الشابة الفلسطينية. ولعل الوضع ساء أكثر من أي وقت مضى مع الحكومة اليمينية الحالية التي يقوده بنيامين نتانياهو… هذا أكيد، فقد تم خلق رأيا عاما إسرائيليا فاشيا. تصور أن استطلاع لمعهد «بيو الأمريكي» ظهرت نتائجه هذا الشهر فقط، يشير إلى أن 79 في المائة من الإسرائيليين يؤيدون نهج سياسة التمييز العنصري ضد الفلسطينيين، والأخطر أن نصفهم تقريبا لا يمانع في تنفيذ حملة للتطهير العرقي ضد فلسطينيي 48، وطردهم من إسرائيل! طيب، أنتم نشيطون في الداخل، ولكن ماذا عن الخارج، هل تقومون بتحركات على الصعيد العالمي لفضح التمييز الإسرائيلي هذا؟ هناك حديث عن محاولات خلق نوع من الوعي العالمي بقضايا فلسطينيي 48، ليس فقط، لأن هؤلاء وجدوا أنفسهم بشكل غريب خارج اتفاقات أوسلو لسنة 1993، وخارج معادلة الحل السياسي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولكن، كذلك، محاولة لفحص إمكانيات التأثير من خارج كل ما اتبعناه منذ عام 1948. وهنا أذكر أن فلسطينيي الداخل مارسوا عمليا المشاركة السياسية في مختلف المؤسسات الإسرائيلية بشكل كامل، في محاولة للتأكيد على حقوقهم الثابتة، إذ وصلت نسب مشاركة الفلسطينيين في بعض الانتخابات إلى 85 في المائة.. نعم، 85 في المائة. ولكن تبين، مع مرور السنوات وبعد سبعين سنة على النكبة الآن، أننا فشلنا في سلك المسار السياسي وتحصيل حقوقنا من خلال النضال البرلماني. أيضا، كانت هناك محاولات خلق مجتمع مدني يعمل على توفير الحقوق في بعض المناطق، ولكن ليس ممكنا توفير كل شيء بهذه الطريقة. حاولنا، أيضا، طرق أبواب الجهاز القضائي الإسرائيلي، وتوجهنا إلى محكمة العدل الإسرائيلية (أعلى هيئة قضائية في البلاد) مئات المرات في قضايا التمييز، دون جدوى تذكر. وهذه الهيئة القاضية تقول عمليا وبشكل واضح في السنوات الأخيرة إنها لا تريد أن تتدخل في السياسات الرسمية الإسرائيلية التمييزية ضد الفلسطينيين، وتجعل من كل قانون وكل سياسة تمييزية عملا مقبولا. وهذا يعني أن النضال القضائي بدوره لم يعد له معنى بالنسبة إلى فلسطينيي 48. لذلك قررنا طرق أبواب العالم، وأبواب المؤسسات الدولية المتاحة، وإن كان هذا السبيل الدولي تعتريه مجموعة من التعقيدات. هكذا قدمت مؤسستنا (المؤسسة العربية لحقوق الإنسان) عشرات التقارير حول مظاهر التمييز ضد فلسطينيي 48 أمام لجان حقوق الإنسان المختلفة. مثلا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المنعقد مؤخرا في جنيف، طرحنا عدة أوراق حول القوانين الإسرائيلية التمييزية والتضييق الذي تمارسه السلطات على مؤسسات المجتمع المدني وغيرها. كيف هي علاقاتكم بالسلطة الفلسطينية؟ السلطة الفلسطينية ليست لها أي علاقة رسمية مع فلسطينيي الداخل، إذ على مستوى الدعم المالي، نحن لا نتلقى أي دعم لا من هذه السلطة، ولا من الدولة الإسرائيلية. ولكن أعتقد بأن تنازل السلطة بشكل رسمي تقريبا عن ملف «فلسطيني 48» وإخراجه من أفق الحل وضع عراقيل كبيرة أمامها، وجعل مسؤولو السلطة الفلسطينية، كأفراد فقط، وليس بصفتهم، لا يستطيعون القيام بأي شيء في هذا المجال. ولكن في تقديري، العون الذي يمكن أن تسديه لنا السلطة هو مساعدتنا في المجال الإعلامي، وبالعمل على تسهيل تواصلنا مع المؤسسات الدولية المهتمة بالجانب الحقوقي وغيرها. يطفو بين الفينة والأخرى حديث عن تبادل للأراضي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في حال التوصل إلى حل الدولتين، وذلك ليصبح «فلسطينيو 48» تحت سلطة فلسطينية. ما هو موقف هؤلاء؟ هناك رفض تام لهذا الحل. نحن مواطنون في إسرائيل، ولكن لسنا لاجئين في إسرائيل، ولسنا أقلية مهاجرين إلى إسرائيل. نحن أصحاب الأرض الأصليين. وهناك إجماع مائة في المائة بين كل القوى الاجتماعية والحركات الجماهيرية والسياسية على رفض فكرة أي تبادل للأراضي.