إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025.. المنتخب الوطني قدم عرضا جيدا وهناك مجال للتطور أكثر (وليد الركراكي)    أسامة الصحراوي يغادر معسكر المنتخب المغربي بسبب الإصابة والقائمة تتقلص إلى 25 لاعبا    قبل مواجهة الديربي.. الرجاء الرياضي دون مباريات ودية    المحامون يتوصلون إلى توافقات مع وزارة العدل    النار تلتهم محلات تجارية في الناظور    رؤية الرئيس الصيني.. التعاون الدولي لتحقيق مستقبل مشترك    زوجة المعارض المصري عبد الباسط الإمام تناشد السلطات المغربية إطلاق سراحه وعدم تسليمه إلى نظام السيسي    إنعقاد المؤتمر الدولي بالداخلة حول "المبادرة المغربية للحكم الذاتي:نموذج للحكامة الترابية بإفريقيا الأطلسية".    جائزة المغرب للشباب تحتفي بالتميز    مجلس الشيوخ بالباراغواي يدعم بشكل لا لبس فيه الوحدة الترابية للمغرب    نقابي يكشف أسعار الغازوال والبنزين المٌفترضة بالمغرب خلال النصف الثاني من شهر نونبر    أكبر منتج لزيت الزيتون يتوقع انخفاض الأسعار إلى النصف مع تحسن الإنتاج    السكوري يكشف تشكيل لجنة حكومية تدرس منح دعم للكسابة في العالم القروي لمواجهة فقدان الشغل    دعوة في طنجة لتبني إعلام جهوي يواكب التحولات المجتمعية والتكنولوجية    تقلبات أسعار المحروقات في المغرب .. البنزين يتراجع والغازوال يستقر    ‪أمن دبي يقبض على محتال برازيلي    الفلبين تأمر بإجلاء 250 ألف شخص    المغرب يرسل شاحنات إضافية لمساعدة إسبانيا في تخطي أضرار الفيضانات        المرتجي: التراث اللامادي بين المغرب وهولندا أفق جديد للتعاون الثقافي    حشرات في غيبوبة .. "فطر شرير" يسيطر على الذباب    أنفوغرافيك | أرقام مخيفة.. 69% من المغاربة يفكرون في تغيير وظائفهم    منع جمع وتسويق "المحارة الصغيرة" بالناظور بسبب سموم بحرية    أنفوغرافيك | ⁨لأول مرة.. جامعة الحسن الثاني تدخل تصنيف "شنغهاي" الأكاديمي العالمي 2024⁩    مشروع نفق جبل طارق.. خطوة إسبانية جديدة نحو تجسيد الربط مع المغرب    ارتطام وأغدية متطايرة.. حالة من الرعب عاشها ركاب طائرة    وزارة الداخلية تكشف عن إجراءات حاسمة لإنهاء الفوضى بقطاع "التاكسيات"    صانع المحتوى "بول جايك" يهزم أسطورة الملاكمة "مايك تايسون" في نزال أسطوري    اتهام فنزويلا بارتكاب "أفعال دنيئة" أمام البرازيل    الوزيرة أشهبار تستقيل من الحكومة الهولندية والمعارضة تعتبره "موقفا شجاعا"    فيضانات فالنسيا.. المديرة العامة للوقاية المدنية الإسبانية تعرب عن امتنانها للملك محمد السادس        كيوسك السبت | 800 مليار سنتيم سنويا خسائر الكوارث الطبيعية بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    فريق الجيش الملكي يبلغ المربع الذهبي لعصبة الأبطال الإفريقية للسيدات    السوق البريطاني يعزز الموسم السياحي لاكادير في عام 2024    "طاشرون" أوصى به قائد يفر بأموال المتضررين من زلزال الحوز    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    الأمم المتحدة.. تعيين عمر هلال رئيسا مشاركا لمنتدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول العلوم والتكنولوجيا والابتكار    "باحة الاستراحة".. برنامج كوميدي يجمع بين الضحك والتوعية    مغاربة يتضامنون مع فلسطين ويطالبون ترامب بوقف الغطرسة الإسرائيلية    حملات تستهدف ظواهر سلبية بسطات    مقابلة مثالية للنجم ابراهيم دياز …    "طاقة المغرب" تحقق نتيجة صافية لحصة المجموعة ب 756 مليون درهم متم شتنبر    حماس "مستعدة" لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب "للضغط" على إسرائيل    شراكة مؤسسة "المدى" ووزارة التربية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بنيس:العودة إلى الأدب مقاومة لزمن الجهل
نشر في اليوم 24 يوم 19 - 01 - 2016

إحساس بالمرارة يخنق صوت الكاتب محمد بنيس وهو يوجه هذا النداء بالعودة إلى الأدب، ليس باعتباره ترفا ولذة فحسب، بل كمشروع مقاومة لزمن الجهل واستبداد الثقافة الدينية المغلقة.
محمد بنيس
عبارة «العودة إلى الأدب» تأتي، هنا، في سياق التشبث بمشروع تحديث المجتمعات العربية. إنه مشروع المقاومين لزمن الجهل واستبداد الثقافة الدينية المغلقة. لكن يبدو من المُستغرب، عند الوهلة الأولى، استعمال هذه العبارة وتخصيصها بهذا السياق. مصدر الاستغراب هو أن الأدب حاضر في حياتنا الثقافية، رغم سيادة الجهل وازدياد درجة انغلاق الإسلاميين؛ أو ربما كان مصدرُ الاستغراب هو أن تضخم الديني لا يترك المكان للتشبث بأيِّ مشروع مجتمعي يقوم على الحرية والإبداع. فكيف يمكن الكلام، في الحالتيْن معاً، عن العودة إلى الأدب ؟ عند هذه النقطة الإشكالية بالضبط، يصبح الكلام ممكناً، أجيب. إن الملاحظة المتعجّلة هي التي تتوهّم حضور الأدب، فيما هو مُبعَد في جهة لا نراها. و الكلام هو إمكانية رفع الصوت من جديد، من أجل إعادة الاعتبار لمكانة الأدب العربي في معرفتنا بالذات وبالآخر، بالأشياء وبالكون، بالحياة وبالموت. وها هي كلماتي تصدر عن صوت مختنق، صوت بدون صوت. ليكنْ!
عند التمعّن في الأوضاع التعليمية والاجتماعية، فضلاً عن الإعلامية، نتأكد من أن الأدب غائب، خارج أقبية معتمة يلتقي فيها الذين يمارسونه أو يختصّون في تعلمه ودراسته. لا أحد يلتفت إلى معنى غيابه. حتى النخبة تنفر منه وتحتقره. وفي حالات أخرى نرى كيف أن المسؤولين عن التعليم، أو عن الثقافة والإعلام، داخل العالم العربي، أو المتتبعين على المستوى الدولي، لا يبالون بالأمر. غياب الأدب عن حياة المؤسسة التعليمية أوالحياة الاجتماعية والإعلامية شأنٌ لا يوجب بحثاً ولا يفرض تساؤلاً. فالزمن الإسلاموي، الذي أصبحت تعيش فيه هذه الرقعة التي ما زلنا نسميها العالم العربي، يحتاج إلى إسلام وسطي، كما يقول المسؤولون السياسيون. إسلام معتدل، يمارس فيه المؤمنون شعائرهم من دون اللجوء، في التعبير عن عقيدتهم الدينية، إلى الحقد والكراهية تجاه الآخر، كيفما كان هذا الآخر. هؤلاء المسؤولون هم بالدرجة الأولى أجانب، أمريكيون وأروبيون.
تضخم الديني
تضخمُ الديني في العالم العربي، وانتقالُه إلى الغرب عموماً، باسم الإسلام المتعصب والمتطرف والإرهابي، استدعى من جانب الأنظمة العربية والمؤسسات الدولية تأهباً لحماية الدولة والمواطنين. ليس الدين في حد ذاته هو مصدر القلق، بل هيمنة تزمّت القراءة الإسلاموية، الحرفية، للقرآن على جميع مظاهر الحياة الفردية والجماعية. يقف التزمّت على أبواب يقظة الناس ونومهم، ولا يفارقهم في أي مكان. وما وقع من خراب، في العديد من البلاد العربية، بعد الربيع العربي، نتيجةٌ لانفجار هذا التضخم الديني. وهو ما أدى إلى انتشار فتاوى التكفير ومشاهد العنف. وقد أصبحت الدولة الإسلامية، داعش، تمثل المَصْنع الأكبر للقلق، لأنها الأشد بطشاً بقيم الحياة الحديثة، في سلوك الأفراد كما في العلاقة مع الآخر.
مرَّ تضخم الديني بمرحلتين : مرحلة الطالبان في أفغانستان و11 سبتمبر، حيث تجلت الدعوة الوهابية بتفاصيلها؛ ثم مرحلة الدولة الإسلامية، التي أعلنت عن نزعة وهابية أبعد في القسوة والتعصب. ومنذ المرحلة الأولى استشعر الغربُ خطرَ الإسلام المتزمت على أمْنه ومصالحه. فإلى جانب إعلان الحرب على الطالبان في أفغانستان، وعلى القاعدة في مواقعها المنتشرة عبر العالم، صدرتْ عن مراكز البحث والقرار السياسي في الغرب توصياتٌ وأوامرُ للبلاد العربية والإسلامية. من بينها تلك التي تتناول التربية والتعليم، وتدعو بدون مواربة إلى تدخل الدولة في مراجعة تدريس مادة التربية الدينية. كان ذلك يعني، تحديداً، أن تحذف الأنظمة العربية من الكتاب المدرسي ومن التدريس الآيات المحرضة على الجهاد والآيات الدالة على التعصب وكره الأخر وتكفيره. وفي حال تعذّر ذلك، يحلّ التأويل محلّ الحذف. وكان الكونجرس أصدر، في الفترة ذاتها، توصية إلى العالم العربي يلح فيها على ضرورة إدراج العلوم الإنسانية في المقررات الدراسية، وهو ما أكدت عليه اليونسكو، لاحقاً، عندما أشارت إلى المكانة التي يجب أن تكون لتدريس الفلسفة.
أما مع المرحلة الثانية فإن الأمر أصبح يشغل الغرب ككل. وكان الأروبيون، كلٌّ على طريقته، بادروا في بلدانهم إلى مراجعة تنظيم المؤسسات التمثيلية للمسلمين، وإلى ضبط أنشطة المساجد وخطباء الجمعة والمرشدين الدينيين. ثم كان الموقف نفسه يتأكد في العالم العربي، وخير مثال على ذلك مؤسسة الأزهر في مصر والمؤسسة الدينية في المغرب. كلمة واحدة لدى هؤلاء وأولئك، تتلخص في أن اعتماد الإسلام الوسطي هو المخرج من أزمة تزايد سلطة المتزمّتين والمتعصّبين باسم الإسلام.
مشروع التحديث
هذا المشهد العام هو الذي أصبح موجِّهاً لمرحلة برمتها، ولسياسة تستجيب لتوصيات وأوامر المؤسسات الغربية. إسلام وسطي أو إسلام معتدل، للخلاص من الإسلام الذي نشرته الأنظمة العربية نفسُها، أو روّجت له الوهابية بالمال والدعاية. هو الغرب، كعادته، يعطي الأولوية لأمْنه ومصالحه. لذلك لم يغفل في توصياته عن الربط بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي، الذي يقوم بالأساس على إقرار الديمقراطية. لكن المسألة التي لم يفهمها الغرب هي أن الوصول إلى الإسلام الوسطي لا يمكن أن يتحقق من داخل الدين فقط، كما أن الديمقراطية تعترضها ما يسود العالم العربي من غياب ثقافة حرية التفكير والتعبير وضيق مساحتها. هذا هو المختفي عن توصيات وأوامر المؤسسات الغربية.
كانت رغبة العرب في التحرر من الاستعمار والتخلف، ومن وقيم الانغلاق على الذات والآخر، مؤثرة في اختيارات نخبة من المثقفين. هذه الخطاطة الإجمالية تصلح أنْ نُعمِّمها على مشروع التحديث، عبر جميع البلاد العربية. فحلم المثقف الفرد يعثر على نموذجه الأعلى في حلم النخبة العربية في التحديث.
مشروع التحديث العربي لم يكن مخطئاً في موجّهاته الكبرى. إنه تجسيد الرغبة في الانتماء إلى الزمن الحديث. وأول ما تم التوجه نحوه للتحرر هو الانطلاق من الأدب، ومن خلاله استعمال العربية، التي كانت أساس فكرة العروبة. لكن استعمال العربية تم بالارتباط مع تحديثها. نعم، لم تكن طبيعة التحديث واضحة في البداية. إلاّ أن العمل الأدبي كان في مقدمة الخطابات، التي انكبّ أصحابُها على تعلّم كيف يقومون بتحديث لغتهم. ورغم أن التحديث الثقافي لم ترافقه حركة داخلية للتطور العلمي، كما حدث في أروبا، فإننا إذ ننظر، اليوم، إلى عربية الأعمال الأدبية، نرى أنها خرجتْ من المتماثل والمشترك إلى المتغاير والمختلف.
مسار هذا المشروع مُستقًى من نموذج النهضة الأوروبية كما أنه يستندُ إلى بناء الحضارة العربية. فالنهضة الأوروبية عادت إلى منابعها لدى اليونان واللاتين. وتكوّنت الحضارة العربية من انفتاح الثقافة الإسلامية على كل من الأدب الجاهلي والحركات الأدبية المتوالية بعد الإسلام، وعلى المعارف والعلوم والفنون التي كانت لدى الفرس واليونان والهند. وقد جنَى المسلمون خيرات تعاونهم مع المسيحيين واليهود، وبذلك تأسست الحضارة العربية.
الأدب عند الحدثيين
عرف مشروع التحديث قراءات نقدية لتصوره استمرت طيلة القرن العشرين. ولست بحاجة إلى التذكير بذلك. لكن مركزية الأدب، في هذا المشروع، تعني السند الأكبر للتحديث : تحديث لغة وثقافة وعقلية وقيم. ثم إن الأدب، لدى الحدثيين، غَدا ممارسة لأجناس أدبية، منها ما هو موروث كالشعر، ومنها ما استوردناه من الغرب، وفي مقدمته الرواية والقصة القصيرة والمسرح. وحتى الشعر استقى نموذجه في التحديث من الشعر الغربي. عمل كبير وطويل النفس، قام به الأدباء العرب من المشرق والمغرب، أدى إلى وجود أدب عربي حديث، تتمثل فيه الحياة البشرية الدنيوية، بخلاف الثقافة الدينية التي تركز على الحياة الأخروية.
لنأخذ الأعمال التي يمكن اعتبارها رمزية في تمثيل المرحلة الأولى من تحديث الأدب العربي. لن نتردد في الإشارة إلى مجموعة من المؤلفات، منها «الساق على الساق» لأحمد فارس الشدياق، «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، «العبرات» للطفي المنفلوطي، «الأجنحة المتكسرة»، «المجنون» لجبران خليل جبران، «الأيام» لطه حسين، «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، «أهل الكهف» و»عودة الروح» لتوفيق الحكيم، «حدث أبو هريرة قال» لمحمود المسعدي. أو دواوين شوقي، خليل مطران، إبراهيم عبد القادر المازني، عبد الرحمن شكري، بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، أبو القاسم الشابي، إيليا أبو ماضي، إلياس أبو شبكة، بشارة الخوري، محمد مهدي الجواهري.
وفي المراحل اللاحقة استطاع الأدب العربي أن يتوفر على أعمال ذات قيمة فنية عالية، بسبب الخبرة التي أصبح الأدباء يتمتعون بها. لقد اكتسبوا هذه الخبرة من اتساع تفاعلهم مع الأدب العالمي، ومن استضافتهم لغات وآداباً من ثقافات مختلفة ذات حضور في التجربة الأدبية العالمية. هكذا ظهر شعراء وروائيون ومسرحيون من مختلف البلاد العربية، لهم كفاءات عالية. ومن الصعب حصر أسمائهم، خاصة مع المرحلة الأخيرة، التي اغتنى فيها الأدب العربي وأخذ صدَاه يتشكّل في أكثر من منطقة خارج العالم العربي.
هيمنة التربية الدينية على البرامج التعليمية
هذا القلب في التوجّه من الثقافة الدينية إلى فكرة العروبة تلازم والانتقال في التعليم من الكتاتيب والمساجد إلى المدارس الحديثة والتعليم المختلط. والأدب، الذي احتل مكانة الصدارة في التعليم الحديث في الغرب، انتقل بدوره إلى المدرسة العربية الحديثة. لكن التربية الدينية ظلت مهيمنة على البرامج التعليمية، بحيث أضحت المدرسة مكاناً لحماية حدود القيم الدينية التي تحصِّن الرؤية إلى الحياة والموت. كما أن الأدب الذي استقبلته المدرسة العربية هو التقليدي بالأساس، لكونه لم يغادر الأرضية التقليدية، التي رسّختها المحافظة على القواعد اللغوية وعلى أساليب وأشكال الكتابة الموروثة. وهذا ما أعاق، لدى الفرد العربي، انبثاق نزعة ذاتية، لها القدرة على خلق وعي تاريخي، نقدي، وعي حديث بكل ما يدل على نسق من القيم، التي في مقدمتها الحرية.
حضور الدرس الديني في المدرسة العربية يعود إلى اعتماد الإسلام كأساس لسيادة الحاكم، وخضوع الأفراد والجماعات لإرادته. هذا التصور لوظيفة تدريس الدين في المدرسة قوّى من الارتباط بين الدولة والدين. وأدى هذا التصور للدرس الديني، على المدى البعيد، إلى نشر عكس ما أراده الحاكم. فالمؤمن الكامل الإيمان يرى أن الحرص على الآخرة هو معيار السلوك الفردي والجماعي، وأنه لا حرص على الآخرة إلا باتباع حدود الشرع وتطبيقها. ويتبين الآن أن هذه النظرة قامت على اعتماد الدين في إخضاع الشعوب وليس على تحريرها.
من هنا نفهم كيف أن الأدب عندما أصبح يستقل برؤيته إلى الحياة والموت، وينتقل من قبول قيم الاستعباد والاستبداد إلى رفضها، حاصرته الدولة عند باب المؤسسات التعليمية، وأمعنت في إبعاده عن البرامج الدراسية، بل حتى عن برامج الدراسات الأدبية، في بعض الأحيان. أي أنها حاربت، من خلال منعه، مشروع النهضة التي كانت بواعثها المعرفة بالحياة الدنيوية الحديثة للمجتمعات، والانتقال من العبودية والاستبداد إلى الحرية والديمقراطية.
فالأدب، بما هو ممارسة فردية، تخترق فيها الذاتُ طبقاتِ اللغة، تجربةٌ حديثة، مبدؤها حرية قوْل كلِّ ما يخطر على البال ونشره على الناس. حرية الأدب مضادة للرقابة بجميع صيغها، وأرضُها هي الديمقراطية. هذا الأدب هو الذي يمكن أن يوفر معرفة العربي بنفسه وذاتيته، ويضيء له مسالك التفاعل مع تعقيدات الزمن الذي يعيش فيه، ويدله على شرائط الحرية والكرامة، ويعلمه ثقافة الاختلاف والتعدد، وينقله من الخضوع للاستعباد إلى ممارسة الديمقراطية. «فلا ديمقراطية، كما يكتب جاك دريدا، بدون أدب، ولا أدب بدون ديمقراطية». هذا الأدب، المسكون بجمالية النقد، والمؤسس على القطيعة، جاء على أنقاض الأدب التقليدي، الذي يعبّر عن الوعي السلفي.
عائق التقليد، الذي رافق التحديث الأدبي في العالم العربي، كان طاغياً في المرحلة الأولى من التحديث. لكنه أخذ يعرف اختراقاً يتسع شيئاً فشيئاً في المرحلة الثانية مع الرومانسية العربية، ثم برز في المرحلة الثالثة، التي يمكن التأريخ لها بما بعد النكسة. ففي الثلاثينيات والأربعينيات جاءت حركة التحديث بدفقة شعورية، جرفت معها ثوابت ويقينيات. وفي الخمسينيات والستينيات حدَث تململٌ تبلور مع السبعينيات والثمانينيات، حيث انطلقت حركات أدبية عربية تبنّت المخاطرة في اللغة والأساليب والأشكال. حركات يلتقي فيها الشعر مع الفنون الأدبية الكبرى، ومع فنون غير أدبية، منها السنيما والفنون التشكيلية. حركات حققت قطائع متعددة، لها الجرأة والمغامرة.
صعوبة الفصل الحاسم بين الاعتدال والمغالاة
ثمة تناقض في تصور الدولة العربية لإستراتيجية بناء مجتمع حديث. فهو تصور يعلن عن تربية أفراد المجتمع على احترام قيم الحرية والاختلاف والتعدد. لكنه يتحاشى الأدب، أو يتجاهله أو يمنعه، مثلما يمنع العلوم الإنسانية من البرامج الدراسية، ويقلص من إمكانيات نشر الثقافة في مرافق المجتمع. هذا المنع يتفاعل مع فرض الخطاب الإسلامي، مهما كانت بعض الاجتهادات تريد لرسالته الأخروية أن تكون ذات طابع دنيوي. ولا تقف الدولة عند المدرسة. فهي ترفع من وتيرة بناء وترميم المساجد والأضرحة، تؤطر خطباء الجمعة والمرشدين، تضاعف من عدد الأنشطة الدينية، تخص المطبوعات الدينية بميزانيات ضخمة، وتشجع المجتمع على احتضان ثقافة دينية في مختلف مرافق الحياة.
حجة الدولة العربية من حجة المؤسسات الغربية. ولا يقوم العرب بغير تنفيذ ما استلموه من توصيات وأوامر باعتبارها ضمانة للمستقبل الممكن. لكن نشر الخطاب الإسلامي، المسمى وسطياً أو المسمى معتدلاً، لا يؤدي إلا إلى المزيد من خضوع أفراد وجماعات لخطابات التطرف والتعصب والحقد والكراهية. تلك هي الدلالة على فساد الاعتقاد بفرضية استخلاص الإسلام الوسطي من داخل إسلام المغالاة والتزمت. إضافة إلى أن الثقافة الإسلامية، التي تنشرها الدولة وتشجع عليها، مجرد ثقافة دعائية وإعلامية، أي ظرفية، محكومة بما تجنيه من استثمارها في المجال السياسي. لهذا فهي محدودة في مواجهة الحركات الداعية، بأساليب تقنية فاتكة، إلى إسلام الجهاد والتعصب والتكفير. ولو كان الغرب راغباً في المساعدة على تحديث العالم العربي لكان تبنى مشروع التحديث الذي انطلقت منه النهضة العربية، وأوصى بالعودة إلى تدريس الأدب، الذي كان المنطلق، وبالأخص الأدب العربي الحديث، لقدرته على بلورة الذاتيات التي هي عماد الديمقراطية، أيْ عماد فكر النقد والتعدد والاختلاف والانفتاح على الآخر واستضافته. فكيف يتناسى الغرب أن الأدب هو الذي انطلقت بصوته الشعري ثورة 2011، عندما رفع الشبان التونسيون أبيات قصيدة «إرادة الحياة» لأبي القاسم الشابي ورددها معهم الشبان في سائر البلاد العربية ؟ خصوصية الإعلام داخل الحضارة العربية7.طريق مختلف
هذه الوضعية المعقدة في العالم العربي تقابلها وضعية أعقد في الغرب. فالدول الغربية، التي توصي بالإسلام الوسطي وتجهد في فرضه على أراضيها، تجد نفسها باستمرار في مأزق أمام تزايد عدد أفرادها المسلمين الذين يستسلمون لدعاية حركات جهادية، ويعتنقون أفكارها ويبادرون إلى الالتحاق بها، كما هو الشأن، اليوم، مع الدولة الإسلامية.
لا يريد الغرب أن يفهم خصوصية الإسلام داخل الحضارة العربية وخصوصية علاقة الغرب بالعالم العربي. ومستشاروه من التقنيين، لا يدركون أن المسار الذي يمكن أن يعيد التوازن إلى العلاقة المختلة، بينه وبين العرب المسلمين المقيمين على أرضه أو بينه وبين العالم العربي، يتطلب إدراك خصوصية الحضارة العربية ضمن الحضارة الإسلامية. وهي أن الإسلام ارتبط فيها على الدوام بالأدب العربي وبالفنون والعلوم والمعارف. هذا البعد الحضاري هو ما استلهمه مشروع التحديث بلغة تنتمي إلى الزمن الحديث لا إلى الزمن القديم. ووصول الغرب، اليوم، إلى الانكباب بجدية على إقناع مواطنيه من المسلمين بمبادئ وقيم الحرية والديمقراطية والتسامح، لا يمكن أن يبلغ غايته إلا من خلال رؤية حديثة. وتعني أن الأسبق هو تمكينهم من ثقافتهم العربية الحديثة، التي يكون الأدب في مركزها. هذا لا يكفي. لكنه الإشارة إلى طريق مختلف.
إن المجتمعات الحريصة على الديمقراطية هي التي عملت على تدريس الأدب والإعلاء من شأنه في سائر المجتمع. ومن الطبيعي أن تكون أنظمة الاستبداد، في المقابل، تتجاهل أو تهمّش أو تمنع الأدب، لأنها تخشى أن يتحول إلى قوة نقدية تمسّ قيم الاستبداد كما تمسّ قيم الاستعباد. من هنا فإن الأدب لا يوجد من تلقاء نفسه ولا ينفصل عن الفكر والفنون، أي أن الأدب والفن والفلسفة شيء واحد. تدريس أيٍّ منها ينادي على تدريس سواه. ويخطئ الغرب عندما يوجه عنايته للإسلام الوسطي دون أن تكون دعوته صريحة وجريئة، تتوجه مباشرة، وبدون التباس، إلى ضرورة تدريس الأدب وفتح الأبواب أمامه.
زمن إسلاموي
الغرب الحر، الديمقراطي، لا يريد أن يتقاسم حريته ولا ديمقراطيته مع الآخر العربي، المسلم، المتخلف. حريته وديمقراطيته ثقافيتان، تعلمَهُما أبناؤه من الأعمال الأدبية، مثلما تعلموهما من الفلسفة والفن. ومن العبث أن يطلب من العرب أن يصبحوا أحراراً في فكرهم وديمقراطيين في سلوكهم وتسيير شؤون حياتهم، فيما هو يوصيهم بأن يجعلوا من الإسلام الوسطي بُوصَلتهم، بدلاً من العودة إلى الأدب. توصيتُه لا تستوعب تاريخ الحضارة العربية ولا تقبل بتقاسم مكتسبات العصر الحديث مع العرب. وفي هذه التوصية نرجسية لها تاريخها.
لنكنْ واضحين. زمننا الحالي زمنٌ إسلاموي، نحصدُ فيه ما زرعت الأنظمة العربية في سياسات التعليم، عندما خلطت بين الفقه والثقافة، بين التعليم والعبودية، أو أصرّت على عدم احترام الحدود بين الدين والدولة. لذلك هيأت التربة لكي ينتصر الإسلاميون، وليتسابقوا إلى التباهي بأن الزمن زمنهم.
أما أنت، فلا تحزَنْ على شيء. إنك هنا، أمامي. فافتحْ دفترك واكتُبْ، مهما علا الضجيج، عن ضرورة العودة إلى الأدب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.