كل واحد غنى على ليلاه في تظاهرة النقابات يوم أمس بالبيضاء.. حضرت كل المطالب والمشاكل، وغاب شيء واحد هو الموضوع الرئيس للتظاهرة الاحتجاجية التي دعت إليها النقابات. شارك في التظاهرة العاطلون عن العمل غير المعنيين أصلا بإصلاح صناديق التقاعد، وجاء صناع ومركبو الأسنان التقليديون يطالبون بتقنين مهنتهم، والدفاع عن حقهم في الولوج إلى أفواه المواطنين دون المرور من كليات طب الأسنان، ورفعت جمعية «أطاك» صوتها عاليا ضد العولمة والرأسمالية المتوحشة، وجاءت النساء للمطالبة بكف يد العنف الخشن عن الجنس الناعم، وسائقو سيارات الأجرة نزلوا أيضا للمطالبة بالتغطية الصحية وبإصلاح نظام «الكريمات» والحق في التقاعد، أما سكان كاريان سنطرال فقد نزلوا للاحتجاج على هدم منازلهم وإفراغهم من البراريك، وليقولوا لا للباشا الذي تلاعب في إحصاء سكان الكاريان ولم يعط كل ذي حق حقه.. الأساتذة المتدربون رفعوا شعارات ضد المرسوم الذي يفصل التكوين عن التوظيف، مطالبين الحكومة بتوظيف أي شخص أقدمت على تكوينه، أي أن هؤلاء الأساتذة الأجلاء يطالبون الدولة بالانسحاب من التكوين وترك الشعب في الشارع، مادامت غير قادرة على توظيف كل من تكونهم في الوظيفة العمومية. هل هذا معقول؟ حتى القضايا القومية ومحنة فلسطين والعراق وجدت من يدافع عنها في مسيرة البيضاء التي كانت مخصصة لمعارضة مشروع الحكومة لإصلاح صناديق التقاعد، فتحولت إلى تظاهرة تجمع كل الغاضبين والناقمين على الحكومة، وعلى الباشا، وعلى وزير الصحة، وعلى نتنياهو وأوباما والبنك الدولي والشركات العالمية… هذا أمر مشروع من حيث المبدأ، من حق الجميع أن ينزل إلى الشارع للتظاهر وحمل مطالب صغيرة أو كبيرة، عامة أو فئوية، لكن من حيث فعالية الضغط من أجل تعديل القانون هذا لا يفيد. أن تسعى النقابات إلى حشد كل صاحب مطلب مهما كان صغيرا أو كبيرا، له علاقة بالتقاعد أو لا علاقة له إطلاقا بالموضوع، فهذا مثل شخص يكتب رسالة قوية إلى خصومه ثم ينسى وضع عنوان المرسل إليه. كان على النقابات أن تحتج على بنكيران بسبب تأخره في تنزيل خطة إنقاذ صناديق التقاعد المهددة بالإفلاس، لا أن تحتج على إصلاح نظام تقاعد مهدد بالانهيار. النقابات الموجودة في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي كلها وافقت على تشخيص الوضعية الكارثية لنظام التقاعد في المغرب، وكلها وافقت على الرأي الاستشاري الذي كتبه نزار بركة، رئيس المجلس، وفيه يوصي برفع سن التقاعد إلى 63 سنة على الأقل، وبزيادة مساهمة الدولة والموظفين في الاشتراكات الشهرية، وغيرها من الإجراءات التي اقترحها المجلس. هذه بداية يمكن الانطلاق منها عِوَض الجلوس في قاعة الانتظار، والبحث عن توافق مستحيل مع نقابات لا تمتلك الشجاعة للقبول بالدواء المر لعلاج الداء الذي يهدد تقاعد الموظفين. الوقت يمضي بسرعة، والعجز المالي يكبر في صناديق التقاعد، خاصة الصندوق المغربي للتقاعد الذي خسر سنة 2014 أكثر من مليار درهم، وسيخسر هذه السنة، أي 2015، حوالي أربعة مليارات درهم، وفي 2016 سيخسر ضعف هذا الرقم، وبعد سنوات قليلة ستصبح الدولة عاجزة عن أداء معاشات موظفيها وهم في أرذل العمر، وهذه كارثة وطنية وسياسية وإنسانية بكل المقاييس… أموال طائلة كان يمكن ربحها لو وضع بنكيران توقيعه على خطة الإصلاح السنة الماضية. النقابات تعرف حقيقة المخاطر التي تهدد صناديق التقاعد، وعوض أن تناقش تفاصيل خطة الإصلاح، وتطالب بتوسيع رقعة هذا الإصلاح لتشمل كل أنظمة التقاعد المدني والعسكري، الخاص والعام، وأن تضغط لتحسين حكامة إدارة صناديق التقاعد، وتقوية الرقابة على معاشات المواطنين التي يجري التلاعب بها في البورصة وفي مغامرات أخرى لا علاقة لها بالاستثمار الآمن لأرزاق عباد الله.. عِوَض أن تحتج النقابات من داخل منطق الإصلاح لتقويته، اختارت الصراخ والتشويش والابتزاز من خارجه، وكل همها أن تنتزع من الحكومة بعض المطالب الظرفية الصغيرة لكي تسكت عن تمرير خطة إصلاح التقاعد. هذا ليس عملا نقابيا بالمفهوم النبيل.. هذا له اسم واحد هو «الابتزاز النقابي». هناك ألف انتقاد يوجه إلى السياسة الاجتماعية للحكومة في موضوع التشغيل المجمد، والتعليم المأزوم، والريع المنتشر في كل مكان، والفساد الذي يحرم خزينة البلد من المليارات كل سنة، لكن في موضوع التقاعد فإن الاحتجاج غير ذي موضوع. بالعكس، يجب أن نشجع الحكومة على المضي في هذا الطريق رغم صعوبته. الحلول السهلة للمشاكل المعقدة تلد مشاكل أكبر منها، انتبهوا، والحل السهل اليوم أن تبقى دار حليمة على عادتها القديمة. لا أريد الرجوع إلى مناقشة تمثيلية النقابات المغربية في القطاعين العام والخاص، لكن أجد من الضروري الرجوع إلى تذكير الحكومة بأن الناخب غدا لن يحاسب النقابات على التأخر في إصلاح أنظمة التقاعد، بل سيحاسب الحكومة ورئيسها والأحزاب المشكلة لها، كما أجد من المفيد التذكير بأن الإصلاحات الكبرى التي أقدمت عليها أغلبية الحكومات في العالم لم تكن محل إجماع أو توافق مع النقابات.. التوافق سكين ذو حدين يمكن أن يسهل الإصلاح ويمكن أن يعدمه تماما.